حتى قبل شن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا، يشهد النظام العالمي متغيرات غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. واليوم تتغير جغرافيا أوروبا بالقوة، وبأكبر وأخطر حرب منذ قيام النظام العالمي الجديد وسقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الثنائية القطبية عام 1991.
يرى الرئيس بوتين أن نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة قد انتهى، وتسعى روسيا والصين وحلفاؤهما الصغار للعب دور رئيسي فيه. وهناك بقايا الشيوعية واليسار والقوميين من العرب وحول العالم يدعمون ويروجون لذلك التوجه. لكن الواقع أننا أمام نظام عالمي جديد يتشكل بتوظيف القوة المفرطة وخرق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والبلطجة من دولة هي روسيا الاتحادية وتنمر الصين في محيطها وتوظيف أوراق القوة حول العالم، وامتلاكهما مقعدا دائما في مجلس الأمن وحق الفيتو ترسانات نووية ـ وخرق المواثيق بلا رادع وعقاب. مثلهما مثل الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها على أفغانستان والعراق وعلى ما وصفته إدارة بوش بالحروب الاستباقية.
طبعاً هذه التجاوزات من الكبار تشجع القوى المتوسطة على تجاوزات تخدم مصالحها، بمخالفة القانون الدولي والمواثيق الدولية. القوى الإقليمية ككوريا الشمالية تخرق قرارات مجلس الأمن بغطاء من روسيا والصين. وفي الشرق الأوسط إسرائيل تقتل وتنكل وتعتدي على سيادة الدول في فلسطين وسوريا وداخل إيران بتطبيق» عقيدة الأخطبوط» بضرب الرأس داخل إيران وأذرعها ووكلائها العرب، وفي حرب ظل واعتداءات سيبرانية متبادلة. وتتدخل إيران في سوريا وتدعم أذرعها في سوريا ولبنان والعراق واليمن. وتخطط تركيا لعملية عسكرية ثالثة في الشمال السوري لبناء منطقة عازلة على حدودها. وتستهدف الأحزاب الكردية المصنفة إرهابية كحزب العمال الكردستاني وغيره ـ وتقصف قواعده في شمالي سوريا والعراق.
شهد الأسبوع الماضي أربعة تطورات مهمة على المسرحين الدولي والإقليمي. قمة مجموعة السبع لأكبر اقتصاديات الدول الديمقراطية في ألمانيا-وقمة الناتو التاريخية التي استجابت لمطالب وشروط تركيا بتقديم فنلندا والسويد تنازلات ليرفع الرئيس رجب طيب أردوغان فيتو انضمامهما لحلف الناتو، واعتماد قرارات مهمة في دعم أوكرانيا ضد روسيا حتى الانتصار وتزويد القوات الأوكرانية بالسلاح النوعي. كما كان ملفتاً إعلان دول الناتو الذي سيرتفع عدد الأعضاء فيه إلى 32 دولة بانضمام فنلندا والسويد ـ بإعلان أن روسيا تشكل أكبر مصدر لتهديد الأمن الأوروبي والدولي ـ وحذر الرئيس الأمريكي جو بايدن في القمة «علينا الاستعداد في تحالفنا لمواجهة التهديد المباشر من روسيا لأوروبا، والتحدي الاستراتيجي المنظم من الصين لترتيبات النظام العالمي». ولأول مرة يصف بيان لحلف الناتو سياسات الصين بالقهرية واستخدامها هجمات سيبرانية عدوانية، وخطابها بالعدائي. وأن «روسيا والصين تسعيان معاً لتهديد النظام العالمي بما يتعارض مع قيم ومصالح حلف شمال الأطلسي».
لا نرى دورا وحضورا للعرب في هذه الأحداث الإقليمية والدولية، بل نشهد تهميشا للطرف العربي وضياعا وتخبطا للبوصلة العربية والعجز عن لعب أي دور فاعل ومؤثر في الأحداث والتطورات الإقليمية
ما يستفز روسيا ويعمق شعور الصين بمؤامرة الغرب لحصارها بقوى معادية تهدف لتحجيم صعودها. خاصة أن الصين ترى بدعوة الولايات المتحدة وحلف الناتو خصوم الصين: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا لقمة الناتو ـ هي جزء من المؤامرة لتشكيل حزام لحصار الصين. خاصة بعد تشكيل تحالف انغلوساكسوني (AUKUS) مكون من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في الصيف الماضي ـ فسرته الصين أنه جزء أساسي من احتوائها في منطقة نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ الذي توليه الولايات المتحدة أهمية كبيرة في استراتيجيتها لاحتواء نفوذ وتمدد الصين، فيما تراه الصين تعديا على مناطق نفوذها الجغرافية. لذلك عمدت واشنطن إلى الدفع باصطفاف حلفائها في حلف الناتو في مواجهتها مع الصين.
في تعليق رسمي صيني مبالغ فيه، على مخرجات قمة الناتو «يسعى الرئيس بايدن لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. احتواء الصين، وتدمير روسيا والإضرار بأوروبا»! ما يؤكد عمق الغضب الصيني من الولايات المتحدة التي تشهد العلاقات بينهما تراجعاً وتشكيكاً.
أما الضربة الموجعة فهي في مبادرة مجموعة دول السبع في قمتهم تخصيص 600 مليار دولار على مدى خمسة أعوام ـ في مشروع شراكة لدعم البنى التحتية للدول النامية في تحدٍ ومنافسة مفتوحة وخيار بديل لحصار مشروع الصين العملاق «الحزام والطريق الواحد» يشمل دعم البنى التحتية لأكثر من 70 دولة حول العالم.
رصدنا تطورات مهمة إقليمياً ودولياً في الأسبوع الماضي تؤكد قدرة دولة مثل تركيا وإسرائيل وإيران على التفاعل مع الأحدث والتأثير على مجرياتها. كل في مجال اهتماماته ونفوذه، وبما يخدم مصالحهم..
كذلك شهدنا احتضان الدوحة مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين الأمريكي والإيراني ما يعد اعترافا بدور قطر كلاعب محايد مقبول من جميع الأطراف الأمريكية والإيرانية والأوروبية. ما يبقي خيار المفاوضات قائماً-وتبقى الكرة في ملعب إيران للقبول بتنازلات مرضية للطرفين.
وكان ملفتاً اهتزاز حكومة ائتلاف بينيت ـ لابيد الهشة وحل الكنيست الإسرائيلي نفسه ـ وتحديد موعد انتخابات الكنيست الخامسة في ثلاثة أعوام في نوفمبر القادم ـ ويحضّر نتنياهو مع تحالفه المتطرف للعودة بعد عام من غيابه عن مشهد الحكم، برغم محاكمته بفضائح وتهم فساد.
في المقابل، لا نرى دورا وحضورا للعرب في هذه الأحداث الإقليمية والدولية، بل نشهد تهميشا للطرف العربي وضياعا وتخبطا للبوصلة العربية والعجز عن لعب أي دور فاعل ومؤثر في الأحداث والتطورات الإقليمية. وإذا استثنينا دور الوساطة القطرية، وقدرات الدول الخليجية النفطية وأمن الطاقة ـ التي قلل من شأنها ادعاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإبلاغه الرئيس بايدن أن السعودية لا تملك سوى قدرة محدودة لزيادة انتاجها النفطي. فلا حضور ولا دور يذكر للعرب!
وكان ملفتاً تقليل الرئيس بايدن من السبب الرئيسي لزيارته الأولى للسعودية منتصف يوليو -بأنه ليس لدفع السعودية لزيادة انتاج النفط، بل ليشارك في قمة إقليمية مع GCC+3 ـ ويطلب من جميع الدول زيادة انتاج النفط وليس السعودية فقط. وذلك لزيادة المعروض من النفط لتخفض أسعار البنزين في محطات الوقود ـ ووقف نزف انخفاض شعبيته، والرضا عن أدائه، وتراجع فرص فوز حزبه في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم، وحتى يتجنب خسارته في انتخابات الرئاسة عام 2024.
وللحديث تفاصيل وبقية.
القدس العربي