في بداية التسعينيات سيطرت أميركا على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي من خلال منظومة العولمة وتعميم النظام الاقتصادي الرأسمالي، لكن لم يمنع هذا الصراع غير المعلن من قبل بعض الدول تجاه أميركا والغرب.
فوجدنا أميركا والغرب في مطلع الألفية الثالثة ينزعجان من سلوك كل من روسيا والصين بسبب سلوك صناديقهما السيادية، كما وجهت الولايات المتحدة والغرب كذلك انتقادات منذ ذلك التاريخ إلى الصين بسبب إصرارها على تخفيض قيمة عملتها المحلية تجاه العملات الأجنبية، وهو ما يعطيها ميزة غير مستحقة في مجال الصادرات.
ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 هناك حركة ملموسة من قبل بعض الدول -على رأسها الصين ودول صاعدة أخرى- للعمل على تغيير قواعد اللعبة، ووجود نظام اقتصادي عالمي لا تسيطر عليه أميركا والغرب بمفردهما، لذلك وجدنا الاتجاه نحو تفعيل التبادل عبر العملات المحلية بين بعض الدول، على رأسها الصين وروسيا وبعض الدول الآسيوية الأخرى.
خطوات متسارعة لتجمع البريكس
ثم تلا ذلك خطوات أخرى مثل الإعلان عن تجمع البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)، وهي الدول التي تعتبر صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، دول في مرحلة مماثلة من التنمية الاقتصادية المتقدمة حديثا، وفي طريقها إلى أن تصبح دولا متقدمة.
يضاف إلى ذلك إطلاق البنك الآسيوي للبنية الأساسية من خلال تجمع البريكس الذي ساهمت فيه الصين بنسبة كبيرة من رأس ماله، وهي الخطوة التي نُظر إليها على أنها تسعى إلى وجود بديل للبنك الدولي.
كما أن هناك العديد من المواقف التي يتبين منها تبرم الدول الصاعدة والنامية من قواعد النظام الاقتصادي العالمي الذي أفرزته العولمة، والذي نتجت عنه مشكلات اقتصادية عدة.
وقد وضعت الحرب الروسية على أوكرانيا وما ترتب عليها من مشكلات في الاقتصادات العالمية في أزمة كبيرة يرى البعض أنها ناتجة عن التصرف الخشن لروسيا بدخولها الحرب على أوكرانيا، وكذلك بسبب العقوبات الاقتصادية التي تفرضها أميركا والغرب عليها.
ومؤخرا، انعقدت اجتماعات مجموعة السبع الصناعية للنظر في أزمتي الطاقة والغذاء، والنظر في تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وإمكانية فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا.
على الجانب الآخر، لم يكن هناك تحرك مماثل من قبل البريكس لمناصرة أو دعم الموقف الروسي، ولكن وجدنا كلا من الهند والصين تقومان بدعم غير مباشر لروسيا من خلال زيادة حصة استيرادهما من النفط الروسي وإن كانتا تستفيدان من ميزة النفط الرخيص التي تقدمها روسيا لبعض الدول.
وبلا شك فإن الحرب الروسية على أوكرانيا سيكون لها ما بعدها، سواء انتهت بانتصار روسيا أو خسارتها، لكن من المؤكد أن انتصارها في هذه الحرب سيقوي موقف تجمع البريكس وإن كانت روسيا تخوض هذا الصراع مع أميركا والغرب بمفردها بشكل مباشر.
أما خسارتها للحرب فستؤثر على مستقبل تجمع البريكس، وسيكون لذلك أثره في المزيد من السيطرة لمصلحة أميركا والغرب.
كسر هيمنة الدولار
تخوض روسيا حربا لكسر هيمنة الدولار على التسويات المالية الدولية وسيطرة أميركا والغرب على النظام المالي العالمي، وقد لمسنا خطوات موسكو لجعل تجارتها للنفط بالروبل، وكذلك تسوية تجارتها مع بعض الدول بالعملات المحلية.
هل يمكن أن تكون الخطوة القادمة هي أن تنضم باقي دول البريكس إلى روسيا في صراعها مع أميركا والغرب؟
بالطبع من الصعب القبول بهذا السيناريو، لكن سيكون الدعم لروسيا من دول البريكس بشكل غير مباشر، وبما لا يحمل اقتصاديات تلك الدول تبعات سلبية لقرار روسيا المنفرد بحربها على أوكرانيا.
وينقلنا هذا إلى ضرورة النظر في الإمكانيات الاقتصادية لكلا الطرفين، ومدى مساهمة تلك الإمكانيات في مستقبل الصراع، واحتمالات الوصول إلى نظام اقتصادي عالمي جديد.
أوزان الناتج المحلي
بلغ الناتج المحلي للاقتصادي العالمي 96.1 تريليون دولار في عام 2021 حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، وكانت مساهمة مجموعة السبع الصناعية من هذا الناتج 42.3 تريليون دولار وبما يعادل 44%، فيما بلغت مساهمة دول تجمع البريكس في هذا الناتج 24.2 تريليون دولار، وبما يمثل نسبة 25%.
ومن هنا نجد أن مجموعة السبع الصناعية تفوق مجموعة دول البريكس في ما يتعلق بقيم الناتج المحلي الإجمالي، مع الأخذ في الاعتبار أن اقتصاديات مجموعة السبع الصناعية لم تسترد عافيتها بعد بسبب أزمة كورونا.
وعلينا أن نعي الوزن الكبير لوضع كل من أميركا في مجموعة السبع الصناعية، وكذلك وضع الصين في دول البريكس، فأميركا تحقق 54% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة السبع الصناعية، والصين تحقق نسبة 73% من قيمة الناتج المحلي لدول البريكس.
التجارة الخارجية
تظهر أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي أن الصادرات السلعية على مستوى العالم بلغت في نهاية عام 2021 ما قيمته 22.4 تريليون دولار، كما بلغت الواردات السلعية على مستوى العالم كذلك في نفس التاريخ 22.6 تريليون دولار.
ووفق المصدر نفسه، فإن الصادرات السلعية لمجموعة السبع الصناعية بلغت 6.3 تريليونات دولار، وبما يمثل نسبة 28.1% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم، فيما بلغت الواردات السلعية لنفس المجموعة وفي نفس التاريخ نحو 7.6 تريليونات دولار، وبما يمثل نسبة 33.5% من إجمالي الواردات السلعية للعالم.
ويظهر أداء تجمع دول البريكس أن حصيلة الصادرات السلعية للمجموعة في نهاية عام 2021 بلغت 4.6 تريليونات دولار، وهو ما يمثل 20.7% من إجمالي الصادرات السلعية للعالم، في حين بلغت الواردات السلعية في نفس العام للمجموعة 3.9 تريليونات دولار، وبما يمثل 17% من إجمالي الواردات السلعية للعالم.
ومن هنا نجد أن أداء مجموعة السبع الصناعية أكثر تأثيرا في حركة التجارة السلعية الدولية من حيث القيمة والنسبة، مع الأخذ في الاعتبار أن الصين تمثل رومانة الميزان في التجارة الخارجية السلعية لمجموعة دول البريكس، فالصادرات السلعية للصين تمثل 72.4% من إجمالي صادرات هذه الدول، كما أن واردتها تمثل 68.7% من إجمالي واردات المجموعة السلعية.
سباق التكنولوجيا
لا شك أن أداء الناتج المحلي أو المساهمة في حركة التجارة الدولية من العوامل المهمة التي يمكن أن تؤثر في التوقعات بشأن مستقبل النظام العالمي الجديد، ولكن الأكثر أهمية من هذين المؤشرين هو امتلاك وإنتاج التكنولوجيا.
وقد رأينا كيف أمسكت أميركا والغرب برقاب الشركات الصينية المنتجة للأجهزة الذكية أو تلك الدول التي تعتمد على أشباه المواصلات التي تستخدم في إنتاج الأسلحة الذكية.
نعم، إن الفجوة تضيق بين كل من أميركا والصين في مجال إنتاج التكنولوجيا لكن ما زالت أميركا متقدمة وتعمل بشكل كبير على احتكار هذا المجال من خلال استقدام العقول من كافة دول العالم وإتاحة الهجرة وكذلك توفير الاستثمارات اللازمة ومنع الشركات الصينية من المشاركة في مجالات محددة تتعلق بإنتاج التكنولوجيا داخل أميركا.
استشراف المستقبل
تحرز الصين تقدما ملحوظا في صراعها غير المعلن مع أميركا والصين على الصعيد الاقتصادي، كما تحقق بعض دول البريكس نجاحات على الصعيد نفسه، لكن لا يجمع هذه الجهود عمل مشترك، فحتى تجمع البريكس لم يتم تطويره بعد ليصل إلى كيان تكاملي ليكون في مجابهة الاتحاد الأوروبي أو مثيلا له، في حين تتجه أميركا لجمع أوروبا اقتصاديا وعسكريا، ووضح ذلك بشكل كبير في جهود إدارة بايدن في تفعيل الناتو على مدار الفترة الماضية.
وبلا شك فإن خروج نظام اقتصادي عالمي جديد سيتم، ولكن متى؟ سيتوقف ذلك على طبيعة الصراع ونجاح دول البريكس وغيرها في مراكمة مكاسبها الاقتصادية والسياسية في مواجهة أميركا وأوروبا.
المصدر : الجزيرة