أضرت التقارير الإعلامية المكثفة عن الأداء المتواضع للمعدات العسكرية الروسية -الذي ظهر خلال ما تسميه روسيا “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا- بسمعة موسكو، باعتبارها رائدة في إنتاج الأسلحة على مستوى العالم.
موسكو – تتميز الصناعات الدفاعية الروسية بسمعة جيدة منذ نهاية الحرب الباردة، كون هذا القطاع استفاد من عقود من الاستثمارات الضخمة تحت مظلة الاتحاد السوفييتي السابق. لكن ذلك لم يمنع من وجود نقائص عديدة ظهرت في عملية اجتياح أوكرانيا.
ويرى مراقبون أن أنظمة الدفاع الروسية المختلفة في الواقع -بدءا من مقاتلات الجيل الخامس ووصولا إلى أنظمة الدفاع الجوي ومروراً بالرادارات- لا تقل كفاءة عن أنظمة رواد صناعة الأسلحة في أميركا الشمالية وأوروبا وغيرهما.
ويمثل موكب عيد النصر الذي يُقام في روسيا في مايو من كل عام -والذي يستعرض أحدث المعدات التي تنتجها مصانع الأسلحة الروسية بلا توقف- مثالا على القدرة العسكرية الروسية.
اقرأ أيضاً: اجتياح أوكرانيا سيدفع إلى استمرار المواجهة بين روسيا والغرب
وأبرز ما تم استعراضه هذا العام هو دبابة أرماتا من طراز “تي – 14″، والتي تفوقت في نظر الكثير من المحللين الدوليين تفوقاً كبيراً على جميع الدبابات الروسية السابقة، كما أنها لا تقل عن نظيرتها الموجودة في سوق الدبابات.
وَوِفق ما طرحه الباحث في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات والدراسات المتقدمة آش روسيتير فإن هذا التطور العسكري والتقني الهام دفع الكثير من الدول الأخرى إلى التعاون مع روسيا في مجال الصناعات الدفاعية؛ فالصين مثلاً -والتي ربطتها بموسكو شراكة استراتيجية وثيقة على مدار العقد الماضي- تتطلع إلى التعاون مع روسيا لإنتاج الأسلحة نظراً إلى خبرة الأخيرة في مختلف مجالات التكنولوجيا.
ويقول الكاتب إن روسيا ثاني أكبر مُصدّر للأسلحة في العالم. ومن المعروف أن انخفاض الأسعار وتراخي القيود على الصادرات ليسا العاملين الوحيدين اللذين يجذبان مستوردي الأسلحة إلى الأسلحة الروسية فحسب، بل لأن هؤلاء المستوردين أيضاً يرون أن روسيا تنتج معدات عسكرية عالية الجودة.
ويقول روسيتير إن التقارير الإعلامية المكثفة عن الأداء المتواضع للمعدات العسكرية الروسية -الذي ظهر خلال ما تسميه روسيا “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا- قد أضرت بسمعة موسكو، باعتبارها رائدة في إنتاج الأسلحة على مستوى العالم. لذا يرى العديد من المحللين أن الأسلحة الروسية تبدي كفاءة في المواكب الاستعراضية، غير أنه سرعان ما ينكشف عدم كفاءتها في الحروب الحقيقية في العالم الواقعي. ولكن هل التصور السائد الذي يفيد بعدم كفاءة الأسلحة الروسية أثناء حرب أوكرانيا مبرر للتوصل إلى الاستنتاج السابق؟
الدعاية في الحرب
القوات الروسية دخلت الحرب الأوكرانية من دون إمدادات مناسبة، بل ومن دون بعض المعدات الأساسية
يؤكد الكاتب أنه نظراً إلى الاختلال الهائل في توازن القدرات العسكرية بين أوكرانيا وروسيا تعتمد المقاومة الأوكرانية على العوامل النفسية بقدر ما تعتمد على مواردها المادية، أو ما تتلقاه من مساعدات أجنبية. ودفعت الرغبة في الحفاظ على الروح المعنوية للشعب والقادة العسكريين الأوكرانيين إلى المبالغة في استعراض الخسائر الروسية والتهوين من الخسائر الأوكرانية.
ولجأ الأوكرانيون -وفق الكاتب- إلى حملة ذكية على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث لم يفوتوا أي فرصة لنشر صور ومقاطع فيديو لهياكل محترقة من ناقلات الجنود المدرعة، وعربات المشاة القتالية، لاسيما من طراز “تي – 72” المنتشرة في كل مكان. وكنتيجة لتضافر جهود المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام ومحللي الاستخبارات الخاصة، الذين بالغوا في تعداد “الأضرار التي لحقت بالدبابات الروسية”، تعالت الأصوات التي تقرّ بضعف قدرة أنظمة الدفاع الروسية على الصمود أمام الهجمات. ولكن قد يُعزى ذلك إلى سوء القرارات التكتيكية المتعلقة بتوظيف الدبابات والصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، وليس إلى عدم كفاءة المعدات في حد ذاتها.
ويؤكد روسيتير أنه بغض النظر عن الدبابات من الواضح أن القوات الروسية دخلت الحرب دون إمدادات مناسبة، بل ودون بعض المعدات الأساسية. غير أن حاجة الجيش الروسي الملحة إلى المعدات الطبية الأساسية والمعدات الأساسية المخصصة للاستهلاك التجاري والمصنوعة في الخارج -مثل الدرونز- دفعت بعض الروس إلى التساؤل عن الأوجه التي ينفق عليها الكرملين ميزانيته الدفاعية، والتي تُقدر بحوالي 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.
ويقول إنه منذ بداية الغزو ظهرت على نطاق واسع أدلة على مواجهة الجيش الروسي مشكلات متعلقة باللوجستيات والإمدادات في أوكرانيا، حتى أن بعض التقارير الإعلامية الأوكرانية ذكرت أن بعض الجنود الروس قد سرقوا أحذية من الأوكرانيين. لكن أبرز مؤشر على العجز في النواحي التكنولوجية هو عدم جودة معدات الاتصالات أو نقصها، فالمعلومات والتقارير الاستخباراتية مفتوحة المصدر والصادرة من أوكرانيا تشير إلى ضعف الاتصالات اللاسلكية بين القوات الروسية، لذا اضطرت القوات الروسية إلى اعتماد حلول مؤقتة، ومنها استخدام إشارات لاسلكية غير مشفرة للاتصالات بعيدة المدى والهواتف المحمولة. وقد تمكنت القوات الأوكرانية من العثور على مواقع القوات الروسية والاشتباك معها من خلال الكشف عن مصادر البث اللاسلكي وتحديد مواقعها.
القوة الفضائية
انخفاض الأسعار وتراخي القيود على الصادرات ليسا فقط ما يجذبان المستوردين إلى الأسلحة الروسية بل الكفاءة
ويشير روسيتير في نفس التحليل إلى أنه تم ضخ المليارات من الدولارات في الطائرات العسكرية الروسية على مدى السنوات العشر الماضية. ويُعتقد أن القوات الجوية قد ضمت في العقد الماضي حوالي 440 مقاتلة جديدة ثابتة الجناحين، بالإضافة إلى الآلاف من الطائرات المسيرة. غير أن القوات الجوية الفضائية الروسية لم تدخل المعركة بثقلها الكامل، لذلك يصعب تقييم الفاعلية التشغيلية لأحدث نماذجها تقييماً كاملاً؛ إذ يبدو، على سبيل المثال، أن هذه القوات لم تلجأ إلى استخدام طائرة “سوخوي سو – 57” -وهي المقاتلة الشبح الوحيدة في روسيا- في القتال سوى مرات معدودة. ولقد تعرضت النماذج الأقدم من طراز سوخوي (“سو – 34″ و”سو – 35”) التي تشبه في بعض النواحي طائرات “أف – 15” الأميركية وطائرات تايفون الأوروبية لخسائر فادحة في أوكرانيا.
ويقول إنه رغم تلك الجهود منيت المروحيات الهجومية الروسية من طراز “كا – 52” المعروفة باسم “التمساح” بأكبر الخسائر. وكان هذا متوقعاً لأن هذه المروحيات تتقدم المعركة بدعم من الوحدات البرية عن كثب، لذا فهي الأكثر تعرضاً للصواريخ من طراز “أرض – جو”.
ويشير إلى أنه على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها المقاتلات والمروحيات الروسية، لعبت القوات الجوية الفضائية الروسية دوراً داعماً في الحرب. لذلك لم تتضرر سمعة روسيا كأهم مُصنّع للطائرات العسكرية تضرراً كبيراً. وقد يكون هذا عاملاً جزئياً في قرار الاعتماد على الهجوم بالذخائر عالية الدقة وبعيدة المدى بدلاً من الاعتماد على مثيلاتها التي يتم إطلاقها من الطائرات.
ويقول الكاتب روسيتير إن براعة روسيا التكنولوجية، حتى وإن كانت مثالية، لم تفلح في مساعدة جيشها على تحقيق أهداف الحرب المباشرة المتمثلة في الإطاحة بالحكومة الأوكرانية والاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي. وهكذا فإن الصعوبات التي واجهتها روسيا في الأسابيع والأشهر الأولى من الحرب لا تعزى في الأساس إلى ضعف أداء ترسانتها المتطورة من الأسلحة، فمشكلات روسيا باختصار ليست فنية، وإنما تنبع من ضعف القيادة الاستراتيجية إلى جانب عدم تدريب الجنود التدريب المناسب.
وقد أطلقت روسيا في الأسابيع الأخيرة وابلاً من نيران المدفعية الثقيلة على مواقع أوكرانية متعددة في جنوب البلاد وشرقها. واليوم تتواجه المدفعيات من الجانبين في مساحات مفتوحة وشاسعة، عبر تضاريس تحرم الأوكرانيين من فرصة نصب كمين لخصمهم. ويتجاوز مدى الكثير من الأسلحة الروسية مدى أسلحة أوكرانيا، لذا تحاول القوات الأوكرانية الصمود تحت القصف المستمر في انتظار أسلحة ذات مدى أطول تأتيها من الغرب. وتمر الحرب الآن بمنعطف حاسم، فإذا حققت روسيا مكاسب كبيرة من خلال الاستنزاف، قد تستعيد مصانعها العسكرية بعضاً من سمعتها، ولكن من خلال مبارزات المدفعية التي يغلب عليها طابع أوائل القرن العشرين. وهذه هي المفارقة.
ويضيف روسيتير أنه على الرغم من تزايد اعتماد روسيا على المدفعية حالياً، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الكرملين لن يحاول أن يكون رائداً لأنواع التقنيات التي يُظن أنها ستحدد شكل الحروب المستقبلية. ولقد استعرضت روسيا مرة أخرى المركبة القتالية المسيرة “أوران – 9” في موكب النصر خلال مايو الماضي. ولقد صُمم هذا النظام ليعمل كدبابة يتم التحكم فيها عن بعد، وتمت تجربته بالفعل في سوريا.
ويختتم الكاتب بالقول إنه “على الرغم من المشكلات الخطيرة المتعلقة بأنظمة التحكم عن بُعد، والتي عجزت -على ما يبدو- عن تحديد مواقع أهداف العدو أو ضربها في نطاقات معينة ، فإن ‘أوران – 9’ تعكس إصرار الكرملين على تصدره الجبهة التكنولوجية في المستقبل في بعض المجالات الرئيسية للتقنيات الجديدة”، ملفتا إلى أن للرئيس بوتين مقولة شهيرة تم تداولها بكثرة، مفادها أن من سيقود مجال الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم، وتشير هذه المقولة إلى عقيدة أكبر، وهي أن التفوق التكنولوجي يعني التفوق العسكري، بغض النظر عما قد تكشفه لنا بعض الدروس المستفادة من الحرب في أوكرانيا.
العرب