شهدت إيران، أمس الأول الجمعة، اعتقال ثلاث شخصيات سياسية وفنية باتهامات أمنية، وذلك في ظروف داخلية حساسة، مع استمرار الوضع المعيشي والاقتصادي الصعب، الذي فجّر احتجاجات متعددة خلال السنوات والشهور الأخيرة.
الاعتقالات هي الأولى من نوعها في عهد حكومة الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي، الذي استلم الرئاسة منذ أغسطس/آب 2021. كما أنها تحصل بعد تغييرات طاولت قيادة استخبارات الحرس الثوري الإيراني أخيراً، بعد إقالة رئيسها رجل الدين حسين طائب وتعيين شخصية عسكرية للمرة الأولى على رأس الجهاز، هو الجنرال محمد كاظمي
كما أن الاعتقالات الأخيرة، وبعيداً عن سياقاتها الداخلية وتعقيداتها، تأتي أيضاً في ضوء ظروف خارجية بالغة الأهمية، مرتبطة بتصاعد التوتر بين طهران والغرب، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، على خلفية انسداد المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، وكذلك تزايد التحركات والجهود على المستوى الإقليمي لتشكيل تحالف بمشاركة إسرائيل، وبقيادة أميركا، لمواجهة إيران، التي لطالما وجّهت تهماً لهذه الأطراف بالسعي لتأليب الشارع الإيراني ضدها وإثارة “الفتنة” في الداخل.
كما أنها تأتي وسط احتدام الحرب الإلكترونية بين إيران وإسرائيل، واتهامات للأخيرة بالوقوف وراء عمليات اغتيالو”تخريب” ضد عسكريين وعلماء ومنشآت في إيران.
وفي الظروف الأمنية التي تمر بها البلاد، أعلنت استخبارات الحرس الثوري الإيراني، الخميس الماضي، عن اعتقال دبلوماسيين ومواطنين غربيين، فضلاً عن إعلان قواته البرية، الجمعة الماضي، تفكيك “خلية مسلحة إرهابية” شمال غربي إيران، قائلة إنها “كانت بصدد الاختراق من حدود شمال الغرب وتنفيذ عمليات تخريبية داخل البلاد”. كل ذلك يثير تساؤلات بشأن دوافع هذه الاعتقالات ودلالاتها وسياقاتها في هذا التوقيت.
تاج زادة المعروف حالياً في إيران بانتقاداته الحادة للسياسات الداخلية والخارجية، شارك في الثورة الإسلامية
ثلاثة اعتقالات
واعتقلت السلطات الإيرانية، أمس الأول الجمعة، الناشط السياسي البارز مصطفى تاج زادة، والمخرجين السينمائيين محمد رسول أوف ومصطفى آل أحمد، بأمر قضائي، على خلفية اتهامهم بتقويض أمن البلاد.
وأوردت وكالة “مهر” الإيرانية للأنباء، أن تاج زادة متهم “بالتصرف ضد أمن البلاد ونشر الأكاذيب بهدف التشويش على الرأي العام”. وأكدت زوجة تاج زادة، فخر السادات محتشمي بور، اعتقاله في مقطع مصور متداول على شبكات التواصل الاجتماعي، قائلة إن 15 شخصاً اقتحموا البيت، واعتقلوا زوجها في غيابها، موجهة انتقادات حادة للسلطات الإيرانية، ومشيرة إلى أنه تم إبلاغها هاتفياً أن زوجها قد اعتقل.
وأمس السبت، قال المدعي العام لمدينة طهران علي صالحي إن “البعض منذ فترة يقدمون كمحللين ومفسرين لمختلف قضايا المجتمع آراء غير دقيقة في العالم الافتراضي”، متهماً إياهم “ببث الفرقة في المجتمع ضد أفراد أو شرائح، وهو ما يؤدي إلى إثارة البلبلة في الفضاء الإعلامي والاجتماعي”، وفقا لما أوردت وكالة “نور نيوز”. وتوعد صالحي بملاحقة هؤلاء، حيث قال إن الادعاء العام في بعض الحالات يمكنه البت في هذه المواضيع كمدع عام وإجراء المتابعات اللازمة.
وتاج زادة المعروف حالياً في إيران بانتقاداته الحادة للسياسات الداخلية والخارجية، شارك في الثورة الإسلامية التي انطلقت عام 1979، وتولى بعدها مناصب عدة في إيران، أبرزها وزير الداخلية بالإنابة في عهد حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ونائب وزير الداخلية للشؤون السياسية والأمنية، ورئيس لجنة الانتخابات الإيرانية، ونائب وزير الثقافة والإرشاد للشؤون الدولية في حكومة رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي.
كما كان تاج زادة عضواً في اللجنة المركزية لـ”جبهة المشاركة لإيران الإسلامية” ومنظمة “مجاهدي الثورة الإسلامية”، قبل أن تحلهما السلطة القضائية عام 2009. وهذه ليست المرة الأولى التي يُعتقل تاج زادة، إذ سبق أن قضى سبع سنوات في السجن بعد احتجاجات عام 2009 على نتائج الانتخابات الرئاسية.
ومنذ ذلك الحين ابتعد تاج زادة عن الخط السياسي الإعلامي للتيار الإصلاحي في التعبير عن سياساته ومواقفه، وأصبح يتخذ مواقف متشددة تجاه السلطات الحاكمة، زاد حدتها في السنوات الأخيرة، مما جلب له انتقادات من رفاقه الإصلاحيين.
لكنه في الوقت ذاته لم ينضم إلى المعارضين المقيمين في الخارج من الملكيين (أنصار النظام البهلوي السابق) وغيرهم، الداعين إلى إسقاط نظام الحكم الإيراني، وهو ما جعله أيضاً عرضة لانتقاداتهم الشديدة، واتهاماتهم له. وسبق أن أكد تاج زادة، في أكثر من مناسبة، أنه لا يوجد بديل عن الجمهورية الإسلامية، وأن البديل هو الدمار والخراب.
ورشّح مصطفى تاج زادة نفسه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت خلال يونيو/حزيران 2021، لكن مجلس صيانة الدستور رفض أهليته وأهلية بقية المرشحين الإصلاحيين.
كما أفادت وكالة “فارس” الإيرانية، بأن المخرجين محمد رسول أوف ومصطفى آل أحمد، المعتقلين الجمعة الماضي، يواجهان اتهامات بالعلاقة مع المعارضة الإيرانية في الخارج، و”زعزعة الأمن النفسي للمجتمع وإثارة البلبلة” خلال حادث انهيار برج “متروبول” التجاري جديد الإنشاء في 23 مايو/أيار الماضي، في مدينة عبادان جنوب غربي إيران، والذي راح ضحيته أكثر من أربعين شخصاً.
واتهمت “فارس” المخرجين بأنهما كانا وراء بيان صدر خلال الشهر الماضي بتوقيع عدد من الفنانين والسينمائيين الإيرانيين. وحمل البيان عنوان “ضع سلاحك جانبا”، مخاطباً بذلك قوات الأمن الإيرانية، مع اتهامها “بقمع الاحتجاجات” التي اندلعت احتجاجاً على حادث انهيار “متروبول”، بسبب ارتكاب مالكيه مخالفات عدة، ووجود فساد وتهاون في عملية بناء البرج وعدم منع مالكه من افتتاحه وسط مطالبات بمحاكمة المقصرين والمتسببين بالحادث. وكانت السلطات اعتقلت 15 مسؤولاً محلياً لتورطهم في هذه المخالفات وانهيار المبنى.
اعتقالات مدفوعة بالغضب؟
وعزا الخبير الإيراني أحمد زيد أبادي الاعتقالات الأخيرة إلى “قرار نابع من الغضب”. وأضاف، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الخطوة لها “تبعات” وأنه “إما لم تأخذ بالكامل في الحسبان هذه التبعات في الظروف الصعبة الحالية في البلاد، أو لم يدرس ذلك بشكل صحيح بسبب ذلك الغضب”.
ربط أحمد زيد أبادي بطريقة غير مباشرة هذه الاعتقالات بتصاعد الصراع الإيراني الغربي
وربط زيد أبادي بطريقة غير مباشرة هذه الاعتقالات بتصاعد الصراع الإيراني الغربي، إذ قال إن “الجمهورية الإسلامية طيلة حياتها تعرّف نفسها دائماً على أنها في حالة نزاع مستمر مع “الاستكبار العالمي والصهيونية الدولية وعناصرها” على جميع الأصعدة، وبتناوب على الجبهتين الأمنية والدبلوماسية، ولذلك تتوقع من القوى المشاركة في تأسيس النظام دعمها في هذا الصراع أمام جبهة الأعداء”.
وأضاف زيد أبادي: “على هذا الأساس فإن مسؤولي النظام يُبدون جزعاً صريحاً تجاه الانتقادات والاعتراضات العلنية التي تبديها هذه القوى تجاه سياساتهم، ويربطونها بمسائل مثل عدم إدراك ظروف البلاد الحساسة وعدم البصيرة في فهم تعقيدات الوضع”.
هذا ما حصل عام 2009 أيضاً خلال الاحتجاجات على نتائج الانتخابات، وفق زيد أبادي، الذي سُجن على خلفية هذه الأحداث لست سنوات، فضلاً عن سجنه لمدة 13 شهراً في 2000.
وأوضح أن “العنف الذي تعرض له المحتجون (عام 2009) أسس لحقد” بين التيارين الإصلاحي والمحافظ “بقيت أعراضه مستمرة وقائمة إلى اليوم، بعد مرور أكثر من عقد، على الرغم من محاولات هامشية لإزالتها”، مشيراً إلى أن ذلك وفّر الأرضية لتجاوز شريحة كبيرة من هذه القوى خطوط النظام.
وعن توقيت الاعتقالات، قال زيد أبادي إن الجمهورية الإسلامية ترى نفسها في الوقت الراهن في “منعطف في صراعها الأمني والدبلوماسي مع عالم الاستكبار، ومن دون الاعتناء بالظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة والتحول الذي طرأ على أفكار المجتمع فإنها تتوقع من الإصلاحيين دعمها”.
ولفت إلى أن الإصلاحيين “إما يلتزمون الصمت، أو بعضهم يطرح آراءه بأسلوب نقدي وناصح. لكن يبدو أن الحكومة لا ترضى بذلك، وتريد إسكات أصوات فردية للنقد الصريح مثل السيد تاج زادة على جبهة الإصلاحيين”.
وأشار زيد أبادي إلى سبب محتمل آخر لاعتقال تاج زادة، قائلاً إن هذا الاعتقال “قد يحمل رسالة تحذيرية لبقية الإصلاحيين”، عازياً إياها إلى تصور قد يدور في أذهان من اعتقله بأن “حرية عمله يمكن أن تشجع الإصلاحيين الآخرين على تكرار أسلوبه النقدي الصريح”. لكنه أضاف: “إذا كان إرسال هذه الرسالة هو الهدف من اعتقال تاج زادة فإن هناك خطأ في الحسابات”.
مرحلة تشدد جديدة؟
ورأى نشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي في إيران، أن الاعتقالات الأخيرة محاولة لتدشين مرحلة تشدد جديدة في السياسة الداخلية، وتأتي استكمالاً لمجموعة إجراءات متشددة، اتخذت أخيراً داخل البلاد، منها عودة دوريات شرطة الآداب والأخلاق إلى الشوارع للتصدي لمظاهر “الحجاب السيئ” و”مظاهر غير إسلامية”، والأمر مدفوع بحملة إعلامية رسمية لمكافحة هذه المظاهر.
كما أصدر مسؤولون محليون في مدن إيرانية، أوامر بمنع الموظفات غير المرتديات حجاباً إسلامياً كاملاً من مواصلة أعمالهن ومنع دخولهن المؤسسات والدوائر الرسمية إلا بعد ارتداء الحجاب الكامل.
وفي السياق أيضاً، ألزم رئيسي، الثلاثاء الماضي، سكرتارية المجلس الأعلى للثورة الثقافية بتنفيذ قانون البرلمان الإيراني حول الحجاب وتطبيقه في المؤسسات والمجتمع، المقر عام 2005، وذلك بالتعاون مع جميع أجهزة الدولة.
كما أن البرلمان الإيراني يعمل منذ فترة على بحث مشروع قانون لتقنين الوصول إلى العالم الافتراضي وفق معايير جديدة. وينص القانون على عقوبات تتراوح بين السجن والغرامة المالية ضد كل من يخالف تنفيذ القانون. وواجه القانون انتقادات شديدة لاعتباره محاولة لتقييد شبكات التواصل، وبعد ذلك لم يعد مشروع القانون مطروحاً على أجندة البرلمان، وهناك حديث عن إحالته إلى المجلس الأعلى الحكومي للعالم الافتراضي.
لكن بالتوازي مع محاولات لتمرير القانون، بدأت جودة وسرعة الإنترنت تتراجع في إيران، ما يعتبرها البعض محاولة لتطبيق القانون غير المقرّ بشكل غير رسمي، لكن وزارة الاتصالات الإيرانية ترفض هذه الاتهامات، وتؤكد سعيها “الدؤوب” لتحسين جودة وسرعة الإنترنت في إيران.
لا مرحلة جديدة
من جهته، أكد المحلل السياسي المحافظ محمد صالح مفتاح أن الاعتقالات الأخيرة لا تعني بداية مرحلة جديدة للاعتقالات ضد المعارضين والمنتقدين للحكومة، من الإصلاحيين وغيرهم ولإغلاق نوافذ الإصلاح نهائياً.
دعا محمد صالح مفتاح إلى عدم الربط بين اعتقال ناشط إعلامي واحتمالية اندلاع الاحتجاجات الاقتصادية في إيران مستقبلاً
وقال، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “تاج زادة ليس الإصلاحي الوحيد في البلاد، والمفارقة أنه تعرض لانتقادات كثيرة خلال السنوات الأخيرة من قبل الإصلاحيين أنفسهم، لأنه كان ينتهج مفردات حادة في الإعلام، مما سد الطريق أمام طرح آراء أكثر عقلانية ومنطقية”.
وأضاف مفتاح أن تاج زادة “ليس رمز التيار الإصلاحي في إيران وهناك من الإصلاحيين من هم منطقيون، يمارسون بحرية أنشطتهم الإعلامية والتحليلية”، نافياً أن يكون وراء اعتقاله قرار حكومي لمواجهة الإصلاحيين، مشيراً إلى تعيين المرشد الأعلى علي خامنئي، أخيراً، وزير الثقافة والإرشاد السابق الإصلاحي عباس صالحي رئيساً لمؤسسة “اطلاعات” الإعلامية.
وأكد أن الخطوة تعني أن المرشد “لا يريد إقصاء التيار الإصلاحي، وأنه على قناعة بضرورة استمرار نشاطهم لمنع تشكل قطبية واحدة في البلاد”.
وعن توقعات البعض على شبكات التواصل الاجتماعي أن هذه الاعتقالات يمكن أن تكون خطوة استباقية لمنع اندلاع الاحتجاجات في البلاد بسبب الظروف المعيشية والاقتصادية، أكد مفتاح أن هذا الرأي “مجرد تكهنات لا يدعمها الواقع”، داعياً إلى الانتظار للبت في الملف القضائي لتاج زادة وغيره من المعتقلين.
كما دعا إلى عدم الربط بين اعتقال ناشط إعلامي واحتمالية اندلاع الاحتجاجات الاقتصادية في إيران مستقبلاً، مشيراً إلى أن “هناك نشطاء آخرين يعبّرون عن آرائهم، وربما تكون بعضها متشددة، لكن لا يتم التصدي لهم، وعليه فلا يوجد هناك ربط موضوعي بين الأمرين”، و”يجب أن نصبر حتى ينشر المزيد من المعلومات” بشأن أسباب الاعتقالات.
القدس العربي