على الرغم من التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها العلاقات التركية مع العديد من الدول حول العالم، فإن عملية إعادة تطبيع العلاقات مع أرمينيا تتمتع بأهمية خاصة، رغم أنها تسير ببطء شديد. وقد نجح الطرفان في تحقيق اختراق غير متوقع يمكن أن يؤسس لإنهاء العداء التاريخي بينهما، في ظل الاتصالات السياسية على أعلى المستويات، واتخاذ قرارات تاريخية تتعلق باستئناف الرحلات الجوية وقرب فتح الحدود البرية.
وقبل أيام، جرى اتصال هاتفي نادر بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أكد خلاله أردوغان على “الأهمية التي يوليها لمسار تطبيع العلاقات بين البلدين”، بحسب بيان للرئاسة التركية.
وأفاد البيان بأن باشينيان هنأ أردوغان أيضاً بعيد الأضحى ورد عليه الرئيس التركي بتهنئته باقتراب عيد فاردافار (رش المياه)، وهو أحد احتفالات الكنيسة الأرمنية.
وأكد البيان أن الجانبين شددا على “الأهمية التي يوليانها لمسار تطبيع العلاقات التركية الأرمينية التي ستساهم في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة”، حيث تتواصل الاجتماعات والمباحثات من أجل التوصل إلى مزيد من خطوات بناء الثقة بين البلدين وتجاوز عقود من العداء التاريخي المرير وصولاً لتطبيع كامل للعلاقات التجارية والدبلوماسية.
وجاء في بيان مشترك عقب الاتصال بين الزعيمين الذين كانا يوصفان بـ”العدوين اللدودين”: “عبر الزعيمان عن الأمل في تطبيق الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في الأول من تموز/يوليو في أقرب وقت”. واتفقت أنقرة وبريفان في الأول من تموز/يوليو على فتح الحدود البرية المشتركة بينهما أمام مواطني دول ثالثة والبدء بتسيير رحلات شحن مباشرة وذلك في المباحثات التي أجراها دبلوماسيون من البلدين في فيينا.
وفي 15 ديسمبر/كانون الأول 2021، عينت تركيا سفيرها السابق لدى واشنطن سردار قليج، فيما عينت أرمينيا نائب رئيس البرلمان روبن روبينيان، كممثلين خاصين لمباحثات تطبيع العلاقات. وجرت 4 جلسات حوار في موسكو وفيينا أفضت إلى خطوات لإعادة بناء الثقة بين البلدين دون الإعلان بعد عن تطبيع كامل للعلاقات الدبلوماسية، كما جرى عقد لقاء على مستوى وزيري خارجية البلدين هو الأول منذ سنوات.
وعقب الجلسة الأخيرة في فيينا، قالت وزارة الخارجية التركية إن تركيا وأرمينيا اتفقتا خلال محادثات لتطبيع العلاقات على أن الدولتين الجارتين ستبدآن تجارة مباشرة بينهما عبر الشحن الجوي في أقرب وقت ممكن. وذكرت الوزارة أن الدولتين اتفقتا أيضا على السماح لمواطني دول ثالثة بالعبور من حدودهما المشتركة في أقرب وقت ممكن وقررتا بدء الإجراءات المطلوبة لتنفيذ ذلك. وأشار البيان إلى أن مبعوثين اثنين من البلدين ناقشا أيضا إمكانية اتخاذ خطوات أخرى لتحقيق “التطبيع الكامل”.
وفي مارس/آذار الماضي وعلى هامش منتدى انطاليا الدبلوماسي جرى لقاء نادر بين وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو ونظيره الأرميني أرارات ميرزويان حيث تعهد الوزيران بـ”مواصلة عملية تطبيع العلاقات”، وأكد الوزير التركي إجراء مباحثات “مثمرة وبناءة”، في حين قال الوزير الأرميني: “اتفقنا في اجتماعنا على مواصلة عملية التطبيع من أجل إقامة علاقات دبلوماسية وفتح الحدود دون شروط مسبقة”.
ومنذ أشهر بدأت أنقرة وبريفان تبادل رسائل إيجابية مهدت لعودة الاتصالات الدبلوماسية التي نجحت في التوصل إلى اتفاق أفضى لتعيين ممثل خاص لكل بلد من أجل بحث مسار تطبيع العلاقات، قبل أن يتم الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية تدريجياً وفتح الحدود المغلقة بين البلدين واستئناف الرحلات الجوية، في إجراءات يتوقع أن تساهم في تطبيع كامل للعلاقات خلال الأشهر المقبلة.
وكانت الضغوط الأرمينية على أمريكا وأوروبا والضغط من أجل اعتراف العواصم الغربية بأحداث الحرب العالمية الأولى بين الأرمن والدولة العثمانية عام 1915 على أنها “إبادة جماعية” قد أدت مراراً إلى تفجير الخلافات بين أنقرة والعديد من الدول الأوروبية وقبلها أمريكا. ومن شأن إعادة تطبيع العلاقات إلى تجميد هذه المساعي الأرمينية ونزع فتيل الكثير من الخلافات التركية مع الغرب.
وعقب استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991 اعترفت تركيا بأرمينيا كجمهورية مستقلة، لكن ما لبثت أن تفجرت الخلافات بين البلدين عقب احتلال أرمينيا إقليم قره باغ الأذربيجاني عام 1992، إلى جانب الإرث التاريخي الصعب المتعلق بأحداث الأرمن إبان الدولة العثمانية. وبقي ملف قره باغ من أهم ملفات الخلاف بين البلدين.
ويعتقد أن نتائج الحرب الأخيرة وقبول أذربيجان وأرمينيا باتفاق الهدنة الأخير ساهم في تحريك العلاقات التركية الأرمينية، إذ كانت أذربيجان تعترض سابقاً على أي تحسن في علاقات تركيا مع أرمينيا، وهو ما دفع الوزير التركي للتأكيد على أن الخطوات التركية الجديدة مع أرمينيا ستكون بالتنسيق مع أذربيجان، كما تجري بالتوازي مع ذلك مساع لإعادة تطبيع العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان.
وعلى الرغم من وجود متغيرات مهمة تدفع الطرفين نحو تقديم تنازلات لتجاوز الخلافات إلا أن مؤرخين وسياسيين يرون أن الإرث التاريخي الثقيل والتباعد الكبير في المواقف يجعل من الصعب التفاؤل والتكهن بإمكانية حصول اختراق حقيقي كبير، مع التأكيد على أهمية التصريحات والخطوات الأخيرة في بناء أرضية قد تفتح الباب أمام حوار حقيقي بين الجانبين وخطوات إيجابية تدريجية قد تؤسس بالفعل لصفحة جديدة وإن كان ذلك عبر خطوات صغيرة وتدريجية وبطيئة.
ويعتبر ملف “مذابح الأرمن” من أبرز الخلافات التاريخية العميقة بين البلدين، إذ تطالب أرمينيا باعتبار ما جرى في الدولة العثمانية بالحرب العالمية الأولى “إبادة جماعية” واعتراف تركيا بها ودفع تعويضات عن مقتل قرابة 1.5 مليون أرمني، لكن تركيا تعتبر ما جرى في تلك الحقبة “مأساة جماعية للطرفين” وتشير إلى وقوع مذابح من الطرفين وسقوط ضحايا بمئات الآلاف من الجانبين، وتطالب بـ”إبعاد الملف عن التجاذبات السياسية والعمل عليه في إطار المؤرخين مؤكدة استعدادها لفتح الأرشيف العثماني بشكل كامل للمؤرخين”، كما تدعو إلى طي صفحة الماضي والعمل على فتح صفحة جديدة في العلاقات.
القدس للعربي