دفعت مشاكل تركيا الاقتصادية والصراع الجيوسياسي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تحسين العلاقات المتوترة مع الجيران والشركاء المهمين.
- * *
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، خلال السنوات الأولى للجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923، انتقل ملايين المسلمين الأتراك من جميع الاتجاهات إلى الوطن الجديد المنكمش بحثا عن مأوى ومكان آمن للعيش فيه بعد 12 عاما من الحروب والطرد والتبادل السكاني.
حتى يومنا هذا، ما يزال الجميع في تركيا على دراية بقول أتاتورك، “السلام في الوطن، السلام في العالم”. وهو اعتقاد يقوم على فكرة أن العلاقات السلمية والجيدة مع الجيران -والعالم في واقع الأمر- هي مكمل ضروري للاستقرار الداخلي. وقد ساعد موقف تركيا المحايد خلال الحرب العالمية الثانية في إبعادها عن المشاكل.
عندما قررت أنقرة، بعد خمس سنوات من ذلك، الوقوف إلى جانب الغرب، والمشاركة في الحرب الكورية والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في العام 1952، إلى جانب اليونان، كان السعي وراء الأمان هو الذي دفع بالتحول عن الحياد التقليدي. ومنذ ذلك الحين، شهدت العلاقات بين تركيا وجيرانها العديد من التقلبات، بينما ظلت العلاقات مع اليونانيين هي القضية الأكثر حساسية حتى يومنا هذا.
في العقود الأخيرة، بشرت السنوات الأولى من الألفية بفترة يسودها الانسجام والتناغم بشكل خاص، والتي كان رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، هو مهندسها الروحي، حيث أصبح الشعار العملي للمرحلة هو: “صفر من المشاكل مع الجيران”.
ولكن، منذ العام 2008 فصاعدًا، بدأ السير في هذا الطريق في التعثر، وفي بعض الحالات من دون أن يكون الخطأ صادراً من تركيا. فقد رفض الجزء الخاضع للسيطرة اليونانية من قبرص خطة الأمم المتحدة للسلام وإعادة التوحيد التي تم وضعها تحت إشراف الأمين العام للمنظمة في ذلك الحين، كوفي أنان. وعلى الرغم من هذا الفشل الذريع، قبل الاتحاد الأوروبي قبرص بمواطنيها البالغ عددهم 1.2 مليون نسمة كدولة عضو في الاتحاد في العام 2004، حتى مع إعلان تركيا أن الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة هو الجمهورية التركية لشمال قبرص، وهي دولة بحكم الأمر الواقع ما تزال غير معترف بها دوليًا إلى اليوم.
منذ ذلك الحين، كان على الاتحاد الأوروبي التعامل مع نزاع إقليمي داخلي لم يتم حله، وهو وضع سعى إلى تجنبه منذ ذلك الحين. وأسهمت هذه الأحداث في إثارة مشاعر الاغتراب والخيانة بسبب مقاومة الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا كعضو فيه.
في العام التالي، العام 2009، خرجت الوساطة التي حاولت القيام بها سويسرا بين تركيا وأرمينيا عن مسارها في اللحظة الأخيرة. وفي أيار (مايو) 2010، أدى حادث السفينة “مافي مرمرة” الذي قتل فيه 10 أتراك على يد القوات الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط إلى تداعيات في العلاقات مع إسرائيل استمرت نصف عقد، ولم يتم التغلب عليها بالكامل.
كان انفصال تركيا الدراماتيكي عن الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2011، في حين أنه يتماشى تمامًا مع توجهات الغرب، مهمًا بشكل خاص.
حتى أن رئيس الوزراء في ذلك الحين، رجب طيب إردوغان، والرئيس الأسد طورا علاقتهما لدرجة قضاء الإجازات معًا على شاطئ البحر. لكن تركيا انضمت بعد ذلك إلى “مجموعة أصدقاء سورية” التي عقدت أحد اجتماعاتها رفيعة المستوى في إسطنبول في 1 نيسان (أبريل) 2012.
وفي غضون ذلك، توترت علاقات تركيا مع مصر في العام 2013، عندما أطاح عبد الفتاح السيسي بالرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي.
وكان مما زاد الطين بلة أن تركيا أسقطت طائرة مقاتلة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 على الحدود مع سورية. كما أصبحت هذه الحدود التي يبلغ طولها نحو 900 كيلومتر معبرًا ضخمًا -ليس لملايين اللاجئين وأعضاء حزب العمال الكردستاني فحسب، ولكن للمقاتلين الأجانب المنضمين إلى تنظيم “داعش”، للتنقل من وإلى سورية عبر تركيا.
كما اختلفت أنقرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن تدهور سيادة القانون في تركيا والذعر الذي ساد بين الأوروبيين بسبب التدفق الهائل للاجئين السوريين في الغالب.
من جهة أخرى، كانت العلاقات مع الولايات المتحدة، وما تزال، متوترة بشأن الملاذ الذي يتمتع به فتح الله غولن -الذي يُلقى عليه اللوم في تنظيم الانقلاب الفاشل في العام 2016 ضد حكومة أردوغان- في ولاية بنسلفانيا. كما يشكل الدعم العسكري الأميركي المستمر للمقاتلين المنتمين إلى حزب العمال الكردستاني في سورية مصدر توتر للعلاقات بين البلدين أيضاً.
من الصعب تقدير حجم عوامل التوتر الكبيرة التي عاشتها تركيا في العامين 2015 و2016. فوسط إعادة ضبط ناجحة إلى حد ما للعلاقات مع موسكو، اغتيل السفير الروسي أندري كارلوف في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2016 على يد ضابط شرطة تركي خارج الخدمة في أنقرة. وكان مما زاد الأمور تعقيدًا انهيار الهدنة مع حزب العمال الكردستاني، حيث قتلت هجمات انتحارية كبيرة نفذها الحزب عشرات الأشخاص في أماكن مختلفة من البلاد.
وأخيرًا، وقعت محاولة انقلاب قام بها ضباط عسكريون أتراك يُزعم أن السيد غولن هو العقل المدبر لها في 16 تموز (يوليو) 2016، مما أسفر عن مقتل 241 شخصًا على الأقل. وفي وقت لاحق، تعرضت تركيا لانتقادات شديدة، لا سيما من الدول الأوروبية، بسبب حملة القمع التي أعقبت ذلك ضد المعارضين، والتي انتقدها كثيرون باعتبارها مفرطة في الشدة ولا تستهدف المتآمرين في الانقلاب وحدهم.
ولكن، بحلول العام 2022، انفجر الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وهما شريكان مهمان لأنقرة، وتحول إلى حرب شاملة. وجاء ذلك بعد جائحة “كوفيد -19” وتفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في جميع أنحاء تركيا، ليضع اردوغان في مفترق طرق لا يحسد عليه. - الغد