الصراع على السلطة بين الصدر والمالكي: أي التيارات سينتصر في العراق؟

الصراع على السلطة بين الصدر والمالكي: أي التيارات سينتصر في العراق؟

أكدت التغريدة الأخيرة لزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، على صحة التسريبات الصوتية التي نُقلت عن اجتماع سري للمالكي مع بعض الحركيين الإسلاميين (الشيعة) في العراق. وتصدرت أخبار تلك التسريبات عناوين الصحف ومواقع التواصل في جميع أنحاء العراق، واحتوت على تهديدات مزعومة ضد الصدر وأتباعه وتلميحات إلى حدوث انقلاب سياسي. كما تضمن التسجيل الصوتي المسرب والمعروض على القضاء العراقي الآن للتأكد من صحته، اتهامات للصدر وجماعته بالقتل والخطف. كما تضمنت اتهامات شخصية للسيد الصدر بأنه ينفذ مخططاً بريطانياً يقوده مسعود البارزاني للإطاحة بالشيعة في العراق وتسليم السلطة للسنة.
وسُمع المالكي في التسريب وهو يقول: “العراق مقبل على حرب طاحنة لا يخرج منها أحد إلا في حال إسقاط مشروع مقتدى الصدر، ومسعود بارزاني، ومحمد الحلبوسي… وإذا تطلب الأمر فسأهجم على النجف”. كما سُمع وهو يشير إلى أن لديه مقاتلين جاهزين للقتال، في حين وعدَه الحركيون الذين سُمع صوتهم في التسجيل المسرب بوضع آلاف المقاتلين تحت قيادته لتنفيذ الانقلاب المزعوم على الجميع، بمن فيهم بعض حلفائه في الإطار الذين اتهمهم المالكي بالجبن وبأنه تم شراؤهم من قبل رئيس البرلمان الحلبوسي (السني). كما وعد المالكي هؤلاء الشباب الذين كان يتحدث معهم بترتيب لقاء لهم مع الإيرانيين لدعمهم مادياً ومعنوياً وجعلهم جاهزين للمعركة.
بذلك، يشكل رد الصدر على هذه التسريبات فصلاً جديداً من فصول مسلسل الإثارة السياسي المستمر في العراق بين شخصيتين سياسيتين قويتين، كما يؤشر على أن الصراع المتصاعد على السلطة في البلاد بين هاتين القوتين يدخل الآن مرحلة جديدة.
تغريدة الصدر التي طالب فيها حلفاء المالكي السياسيين فضلاً عن قبيلته بالتخلي عنه، وطالب المالكي ذاته بالتنحي تماماً عن السياسة، تعد سابقة في تاريخ الصراع السياسي في العراق منذ تأسيس النظام السياسي هناك بعد الغزو الأميركي في العام 2003. ولا يقتصر الأمر على كونها سابقة سياسية فحسب، بل إن التأكيد العام على صحة ما ورد في التسجيل المسرب ستكون له تداعيات مهمة على الساحة السياسية تتجاوز عزل المالكي، الذي كان أحد أهم اللاعبين السياسيين في العراق خلال العقدين الماضيين.
ومن المتوقع أن تؤدى تلك الأزمة إلى حدوث هزة كبيرة داخل أكبر وأقدم حزب سياسي شيعي (حزب الدعوة)، فضلاً عن أنها ستفتح الباب واسعاً لقيادات الخط الإسلامي الشيعي الثاني لتحل محل القيادات التقليدية التي تصدرت المشهد في الأعوام التسعة عشر الماضية، تماماً كما توقعتُ في مقال سابق لمعهد واشنطن قبل عامين.
جاءت تغريدة الصدر أيضاً بعد ثلاثة أيام فقط من استعراض القوة المليوني الذي قام به أنصاره خلال صلاة الجمعة في 15 تموز (يوليو)، التي تضمنت خطبتها التي تُليت نيابة عن الصدر عشر رسائل مهمة إلى الطبقة السياسية العراقية. إلا أن الرسالة الحادية عشرة -والأهم في رأيي- والتي لم تُقرأ لكنها فُهمت من الجميع كانت: لقد تنازلت بإرادتي عن أغلبيتي البرلمانية التي منحني إياها جمهوري عبر صناديق الانتخابات الأخيرة، فلا تضطروني إلى استخدام قوتي الشعبية التي ترونها أمامكم لقلب الطاولة عليكم. ويبدو أن تحالف الإطار، أو بعض قواه على الأقل، قد تجاهلوا هذه الرسالة.
ولعل الأهم هو أن التسريبات الأخيرة التي أنكر المالكي صحتها، حملت تهديدات ليس للتيار الصدري فحسب، وإنما لكل شركاء العملية السياسية من السنة والكرد، حيث شككت في مصداقية المالكي وحلفائه في الإطار التنسيقي وقدرتهم على اتخاذ قرارات مصيرية من دون موافقة إيران وحرسها الثوري، وبذلك مثلت هذه التسريبات فرصة للسيد الصدر كي يعزز فوز تياره وقبضته على العملية السياسية.
إن أخطر ما في التسجيل المسرب الذي يبدو أن السيد الصدر قطع بصحته حتى لو شكك الآخرون في مصداقيته، هو أن المالكي كان يحاول الاستعانة بقوى جديدة من الفصائل المسلحة التي تريد قلب الطاولة على التيار الصدري وكل الحلفاء السياسيين الشيعة والسنة والكرد. وفي حال ثبتت صحة هذه التسريبات، سيعني ذلك أن المالكي كان يخطط لانقلاب سياسي بمساعدة فصائل جديدة مسلحة تعلنه قائداً أوحد في العراق! ومن المؤكد أن هذا الانقلاب، لو حصل، سيستهدف الصدريين أولاً وكل العملية السياسية في العراق ثانياً.
الآن بعد أن ظهرت تلك التسريبات وقرر الصدر التعامل مع القضية وجهاً لوجه، أصبحت كلتا القوتين في مواجهة بعضهما البعض. وإذا كان الصدر قد نجح في وأد هذا الانقلاب، فسيكون لهذا التحول في الأحداث عدة تداعيات على الصراع المستمر بين تيارات الإسلام السياسي الشيعي المختلفة التي ظهرت في العراق على مدى العقود العديدة الماضية منذ العام 2003، على اعتبار أن “حزب الدعوة” الإسلامي بزعامة المالكي والتيار الصدري، هما أبرز القوى السياسية الإسلامية الشيعية في العراق في الوقت الحاضر.
من الجدير بالذكر أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي لا تختلف كثيرًا عن أحزاب الإسلام السياسي السني في توجهاتها العامة، على الرغم من اختلافهما في التفاصيل. ففي كلا الجانبين هناك خطان عامان للإسلام السياسي يتصارعان في أكثر من دولة، هما الإسلام السياسي العابر للحدود، والإسلام السياسي الوطني أو المحلي، وكلاهما تندرج تحته مجموعات فرعية أخرى مختلفة.
في هذا السياق، يمثل كل من اتجاه ولاية الفقيه (الإيراني)، وحزب الدعوة العراقي، خط الإسلام السياسي الشيعي العابر للحدود (الموازي للإخوان المسلمين السنة) والذي يؤمن بأنه لا يجب انتظار ظهور الأمام الغائب لإقامة دولة إسلامية، وأن من الجائز شرعاً إقامة تلك الدولة أثناء غيبة الإمام. وبذلك يكمن الخلاص المرحلي للمسلمين في تأسيس دولة دينية (شيعية).
ومع ذلك، يختلف هذان الاتجاهان (العراقي والإيراني) في توجهاتهما القيادية بسبب ظروف نشأتهما المختلفة. فالإيرانيون يجعلون الولي الفقيه هو القائد، في حين تأسس “حزب الدعوة” على القيادة السياسية الجماعية المنتخبة. أما الخط الرئيس الثاني للإسلام السياسي الشيعي فيركز على نشر مبادئ الإسلام في الدولة التي يتواجدون فيها وانخراطهم في العملية السياسية المحلية من دون وجود نص على إقامة الدولة الإسلامية الكبرى كغاية نهائية. وهم في ذلك يتبعون خط النجف في الفقه الشيعي الذي يرفض ولاية الفقيه والتدخل الكثيف في السياسة. ويمثل الخط الصدري وتيار الحكمة والفضيلة وبعض الجماعات الدينية في دول أخرى هذا الخط من الإسلام السياسي الشيعي المحلي.
انطلاقا من هذا الفهم لتوجهات الإسلام الشيعي فإن من الخطأ فهم الخلاف الذي طفا على السطح بين السيد الصدر والمالكي على أنه مجرد خلاف شخصي دون حدوث المزيد من التداعيات على الساحة السياسة العراقية. وعلى الرغم من أن من المؤكد أن الصراع له بُعد شخصي كبير، نابع من معركة البصرة، حين قامت قوات المالكي المدعومة من الولايات المتحدة بمهاجمة قوات مقتدى الصدر في العام 2008، إلا أن الصراع الذي يدور حاليًا بين هذين الحزبين على السلطة السياسية مرتبط في النهاية بطبيعته بمسائل سياسية أوسع نطاقا، سواء في العراق أو خارجه. ويثير الصراع بين ممثلي هذين التيارين الرئيسيين التساول أيضًا عما إذا كان خط الإسلام الشيعي العالمي (بشقيه الدعوة وولاية الفقيه)، أم خط الإسلام السياسي الشيعي الوطني أو المحلي هو الذي سيصبح الاتجاه السياسي السائد في العراق.
كخبير في الرأي العام العراقي، يبدو لي أن هناك تأييدا أوضح وأكبر في الشارع العراقي للتوجهات العراقية الشيعية الوطنية مقابل تلك العابرة لحدود العراق ومصالحه واهتماماته. وإذا أخذنا الانتخابات الأخيرة التي جرت في العام 2021 كمؤشر لمدى تأييد الشارع العراقي (الشيعي) لكلا التوجهين، العابر للحدود الذي تمثله قوى الإطار في غالبها عدا تيارات صغيرة فيه، والاتجاه العراقي، فيمكن ملاحظة تأييد أكبر بوضوح للتوجه الوطني.
وفي هذا الإطار، قد تساهم الأرقام المستندة إلى بيانات مفوضية الانتخابات العراقية في الكشف عن هذه الديناميات، حيث أظهرت تلك البيانات أن أغلبية الشيعة المؤهلين للتصويت (بحدود 70-75 % منهم) لم يشاركوا في الانتخابات، وأن نسبة من صوت لقوى الإطار التنسيقي الذي يضم ائتلافات (دولة القانون والفتح وحقوق وعطاء والعقد الوطني)، التي تمثل الاتجاه الإسلامي الشيعي العابر للحدود لم تتعد 30 % فقط من مجموع نسبة من شارك من الشيعة (25-30 % فقط من مجموع شيعة العراق) في الانتخابات. أما الاتجاه الإسلامي الشيعي العراقي المحلي فقد حصل على 30 % من الأصوات، وحصل المدنيون المستقلون على نحو 40 % من الأصوات الشيعية.
من الواضح أن الناخبين الشيعة في غالبيتهم اختاروا إما مرشحي التيار المدني أو مرشحي الإسلام السياسي الوطني، علماً بأن استطلاع مسح القيم العالمي يؤكد أن هناك ما يقرب من 35 % من الشيعة العراقيين فقط يريدون حكماً إسلامياً في الأساس (سواء كان من الجناح العابر للحدود أو الجناح العراقي).
بناء على ما سبق، يمكن أن نستنتج أن نتيجة المواجهة بين السيد الصدر والمالكي ستضعف بشكل أكبر من اتجاه الإسلام السياسي العابر للحدود الذي لا يجد له أساساً قاعدة شعبية عراقية كبيرة. أما على صعيد القيادة السياسية، فإن ما سيتمخض عنه الصراع الحالي على السلطة سيؤشر بوضوح على الاتجاه الذي يؤثر بشكل أكبر على القرار السياسي العراقي. فإذا استطاع السيد الصدر أن يفرض ما أراده فلأن مشروع الإسلام السياسي الشيعي العابر للحدود سيواجه انتكاسة كبرى، وسيفقد مشروع ولاية الفقيه أحد أهم مرتكزاته في العراق. وحتى مع بقاء حزب الدعوة كأحد اللاعبين الرئيسيين، فإنه تأثيره ونفوذه سيصابان بانتكاسة غالباً ما ستؤدي إلى مراجعة شاملة، وربما انشقاق جديد داخل الحزب الذي عانى أساساً من انشقاق داخلي منذ انسحاب العبادي منه قبل بضع سنين.
*منقذ داغر

الغد