ربما يصلح أن تنطبق مقولة «لا جديد يُذكر ولا قديم يُعاد» على ما تمخضت عنه القمة الثلاثية بين رؤساء الدول الثلاث الضامنة لـ«مسار آستانة» (وهي روسيا وإيران وتركيا)، التي عقدت في العاصمة الإيرانية طهران يوم 19 يوليو (تموز) الحالي. إذ كان أبرز ما رشح عن القمة هو استمرار التباعد في مواقف أطرافها الثلاثة. فقد رسخت القمة وجود إيران وروسيا في جانب مختلف عن جانب تركيا، وهو ما أكده الإعلان الصريح من جانب الدولتين عن رفضهما أي تحرك عسكري تركي في شمال سوريا، والتحذير من تأثيره على استقرار المنطقة ووحدة الأراضي السورية… الذي برز عنواناً تقليدياً في البيان الصادر في ختام القمة. وهكذا، كانت الخلاصة أن قمة الرؤساء إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، «أكدت المؤكد» في أمر الخلافات حيال الملف السوري. ومعروف أن العملية التي تخطط تركيا للقيام بها في شمال سوريا – وتواجه معارضة طهران وموسكو – تستهدف مواقع ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، التي تشكل ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية أكبر مكوناتها، وبالتالي، تعدّها أنقرة تنظيماً إرهابياً يشكل امتداداً لحزب العمال الكردستاني في سوريا، وبالتالي، خطراً داهماً على حدودها الجنوبية.
أدان الرؤساء الإيراني والروسي والتركي إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، في ختام «القمة الثلاثية» التي استضافتها طهران وخصصت لبحث الملف السوري، الوجود المتزايد «للتنظيمات الإرهابية» وأنشطتها وأذرعها في مختلف مناطق سوريا. غير أن التركيز بشكل خاص كان إنعاش «مسار آستانة» وإبقاؤه حياً نشيطاً، لأن الرؤساء الثلاثاء يعتبرونه «المسار الوحيد المتوافر الآن الذي يمكن أن تعقد عليه الآمال في حل سياسي للأزمة السورية».
كذلك، شدد الرؤساء الثلاثة على رفض أي محاولة لإيجاد «حقائق جديدة على الأرض» تحت ستار مكافحة الإرهاب، بما في ذلك محاولات الحكم الذاتي «غير المشروعة»، وأكدوا عزمهم على الوقوف في وجه «الأجندات الانفصالية»، وعمليات التسلل التي تهدد سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية، فضلاً عن الأمن القومي لدول الجوار.
مثل هذا التأكيد، من وجهة نظر مراقبين، جاء «دعماً شكلياً» لتركيا ومطالبها المتعلقة بالضغط على «قسد» و«الوحدات» الكردية، لكن الواقع كان رفض روسيا وإيران الصريح لأي تحرك عسكري تركي.
– جبهة ضد تركيا
لقد قرأ بعض المراقبين تطوراً يمكن أن يكون هو الأهم في نتائج القمة على خلفية الحرب التي أطلقتها روسيا أخيراً على جنيف بصفتها عاصمة لقاءات «اللجنة الدستورية السورية». هذا التطور هو تحاشي الإتيان في التصريحات والبيانات الرسمية على ذكر «مسار جنيف» لحل الأزمة السورية، والتركيز على «محور آستانة» ذي الأهمية والفضل في إطلاق عملية الإصلاح الدستوري.
وبدلاً من الإشارة إلى «جنيف»، قال بوتين إن «المجموعة الثلاثية» (أي روسيا وتركيا وإيران) قادرة على دفع عملية التفاوض بين الأطراف السورية، لكنه لم يحدد كيف ومتى وأين؟… وبالتالي، فلا جديد يذكر خرجت به القمة بشأن عمل اللجنة الدستورية.
ورغم أن إردوغان اجتهد في محاولة إقناع نظيريه الروسي والإيراني بتأييد عملية عسكرية يسعى لإطلاقها ضد ميليشيا «قسد» في شمال سوريا، بالتركيز على منبج وتل رفعت بهدف إنشاء «منطقة آمنة» بعمق 30 كيلومتراً توظف كـ«حزام أمني» على حدود تركيا الجنوبية، فإن ما جاء في البيان الصادر عن القمة لم يحوِ أي إشارة، ولو ضمنية، إلى موافقة روسيا وإيران على تنفيذها.
أما عبارة «الوجود المتزايد للتنظيمات الإرهابية ونشاطاتها وأذرعها في مختلف مناطق سوريا»، فاعتبرها بعض المراقبين نوعاً من المقاربة مع الرؤية التي تحاول تركيا إقناع الأطراف الفاعلة في سوريا بها، وهي أن ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية (أكبر مكونات ميليشيا «قسد») ليست سوى تنظيم إرهابي يشكل ذراعاً لحزب العمال الكردستاني في سوريا.
بيد أن التصريحات والتحذيرات التي خرجت عقب لقاءات إردوغان مع نظيريه الروسي والإيراني، وكذلك مع المرشد الإيراني علي خامنئي، كشفت بشكل قاطع عن الرفض للعملية العسكرية التي تلوح بها تركيا منذ مايو (أيار) الماضي، واعتبارها خطراً على استقرار المنطقة… وأنها لن تفيد إلا «المجموعات الإرهابية»، مع ما تنطوي عليه العبارة ذاتها من تباينات في تفسير الأطراف الثلاثة لـ«الإرهاب» في سوريا.
ذلك أن ما تعتبرها روسيا وإيران «مجموعات إرهابية» (الفصائل السورية المسلحة الثائرة على نظام الأسد) لا تنظر إليها تركيا كذلك، بغض النظر عن التنظيمات التي سبق الإجماع عليها دولياً كتنظيمات إرهابية، أهمها «داعش» و«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً). في المقابل، لا ترى روسيا، وكذلك إيران – وهما حليفتان لنظام دمشق – في ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية خطراً، نظراً إلى تعايش «قسد» وتعاونها مع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية الداعمة له في المناطق نفسها بشمال وشرق سوريا التي تخضع في المجمل لإشراف روسيا، ما يضع تركيا في جانب وروسيا وإيران في جانب آخر.
– وساطة إيرانية محتملة
في الحقيقة، غداة القمة، أعطى وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبد اللهيان، مؤشراً واضحاً جديداً على صعوبة التوصل إلى موقف مشترك مع تركيا في قمة طهران الثلاثية، بشأن الوضع في شمال سوريا. إذ جدد عبد اللهيان في اليوم التالي للقمة، خلال مؤتمر صحافي مشترك، مع نظيره السوري فيصل المقداد – الذي وصل إلى طهران بعد ساعات قليلة من انعقادها – الإعراب عن قلق بلاده من احتمال شن تركيا عملية عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية. وعبر الوزير الإيراني، من ثم، عن أمله في أن «يهتم المسؤولون الأتراك بالتوصيات التي أكدت عليها الدول المشاركة في القمة الثلاثية»، معتبراً أنها «ساعدت على وضع الأزمة السورية على مسار الحل السياسي».
بدوره، أكد المقداد رفض دمشق للهجوم التركي المحتمل بحجة إنشاء «مناطق آمنة»، قائلاً «نحن ضد سياسة التتريك ودعم التنظيمات الإرهابية». وحث على «سحب أي ذريعة من تركيا لغزو الأراضي السورية». وأضاف وزير خارجية النظام السوري أنه «لا مصلحة لتركيا في تنفيذ هجوم على سوريا»، وعبر عن رضا دمشق عما وصفه بـ«الجهود التي بذلتها إيران للخروج ببيان متوازن في قمة طهران»، على حد تعبيره.
في هذه الأثناء، ذهب معلقو صحف وكتاب أتراك في تعليقاتها على القمة الثلاثية، إلى حد القول إن توجه المقداد إلى طهران عقب القمة مباشرة لإجراء مباحثات والحصول على معلومات حول القرارات المتخذة فيها، والتباحث أيضاً بشأن العملية التركية المحتملة، يؤكدان التوقعات السابقة بأن إيران تحاول التوسط لإجراء حوار مباشر بين تركيا وسوريا منذ فترة. وأضافوا أن زيارتي وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان إلى أنقرة يوم 27 يونيو (حزيران) الماضي، ثم إلى دمشق يوم 3 يوليو الحالي، واللقاء بالرئيس السوري بشار الأسد، وتخفيف حدة لهجة دمشق تجاه تركيا وابتعاد أنقرة بشكل ما عن الهجوم على بشار الأسد، كل ذلك كان في هذا الإطار.
– إصرار إردوغان رغم الرفض الداخلي
من ناحية أخرى، ومع أنه تحدث في مقابلة تلفزيونية ليل الاثنين الماضي، عن أن سوريا أصبحت «بؤرة للتنظيمات الإرهابية». وذكر أنه تشاور بالتفصيل مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي حول الجوانب المختلفة للصراع السوري، خلال القمة الثلاثية، وكرر التأكيد على الأهمية البالغة لـ«مسار آستانة»، ولاستمرار التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث الضامنة من أجل الحل السياسي في سوريا. إلا أن إردوغان لم يغفل هنا الإشارة إلى أن مكافحة الإرهاب كانت على رأس المواضيع التي جرى بحثها خلال زيارته الأخيرة لإيران، موضحاً أن «سوريا أصبحت بؤرة للتنظيمات الإرهابية؛ لذلك على إيران وروسيا اتخاذ موقف حيال سوريا، خصوصاً في غرب وشرق الفرات»، ذلك إن «إرهابيي الوحدات الكردية» يواصلون هجماتهم على المدنيين وعلى بلدنا، و«نقلت لبوتين ورئيسي تصميمنا على مكافحة الإرهاب خلال القمة».
ولكن، لا يقتصر رفض تحرك تركيا عسكرياً في شمال سوريا على روسيا وإيران، ومعهما طبعاً نظام دمشق، ومن قبلهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بل هناك رفض في الداخل التركي لأي عملية عسكرية جديدة، ومطالبات صريحة من بعض قوى المعارضة بالحوار مع الأسد.
هذه المطالبات ما عادت قاصرة على الأحزاب اليسارية فقط – التي عرفت برفض القطيعة مع النظام السوري – والتي تطالب، مع الأحزاب القومية، بعودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم بالتنسيق مع النظام والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. إذ انضم إليها حزب السعادة الإسلامي، الذي أبدى رئيسه تمل كرم الله أوغلو، معارضته للعملية العسكرية ومطالبته بالحوار المباشر مع الأسد.
ولقد قال كرم الله أوغلو، في بيان علق فيه على القمة الثلاثية في طهران، وعلى التهديدات المتصاعدة من جانب الحكومة بشن عملية عسكرية في شمال سوريا، إن «السلاح ليس هو الحل، ويجب حل المشكلة من خلال الحوار». ومن ثم، لفت إلى القمة الثلاثية التركية – الروسية – الإيرانية حول سوريا، في طهران، وقال إنها «عكست أهمية الحوار» حول مسار آستانة، وحول الوضع في إدلب «حيث فضلنا الحوار على الصراع». واعتبر أن القمة كانت «فرصة مهمة لحل الأزمة السورية من خلال المنطق والحوار». وتابع أنه يجب إنشاء أرضية تعاون وتعزيز القواسم المشتركة بين دول المنطقة بدل التلويح بالسلاح والحرب «لأن السلاح لا يحل المشكلة».
– نقاط الاتفاق
وبعيداً عن العملية العسكرية التركية، التي شكلت محور خلاف بين الدول الثلاث لم تتمكن القمة من حسمه، بدا أن ثمة نقاطاً ما زالت تجمع بين الضامنين الثلاثة لـ«مسار آستانة». أبرز هذه النقاط: التأكيد على وحدة الأراضي السورية، وأن الحل العسكري للصراع السوري مستحيل التحقيق، وأن الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا من خلال عملية سياسية يقودها ويملكها السوريون وتسهلها الأمم المتحدة، في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.
أيضاً، أكدت القمة ضرورة تسهيل «العودة الآمنة والطوعية» للاجئين والنازحين داخلياً إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا لضمان حقهم في العودة ودعمهم في هذا الإطار. ودعت إلى زيادة المساعدات لسوريا، بما في ذلك إعادة البنية التحتية الأساسية، لا سيما المياه والكهرباء والصرف الصحي والصحة والمرافق التعليمية والمدارس والمستشفيات. وأجمع الرؤساء الثلاثة على إدانة الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا، مشددين على أنها «انتهاك للقانون الدولي والإنساني ولسيادة سوريا، وتعمل على زعزعة استقرار المنطقة وتصعد التوترات فيها».
– ظروف انعقاد القمة
في الحقيقة، انعقدت قمة طهران الثلاثية في سياق تطورات أكسبتها اهتماماً دولياً واسعاً. فهي جاءت في الوقت الذي تنخرط إيران منذ فترة طويلة في مفاوضات بخصوص ملفها النووي عبر مسار متذبذب صعوداً وهبوطاً، فضلاً عن المواجهة المعلنة مع إسرائيل أخيراً. أما بالنسبة لروسيا، فإنها اليوم في مواجهة معلنة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» بسبب الحرب في أوكرانيا ودعم الغرب تسليح أوكرانيا والعقوبات على روسيا… وصولاً إلى الاهتمام بحل أزمة تصدير الحبوب من أوكرانيا التي اكتسبت دفعة بتوقيع الاتفاقية الرباعية بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة – في إسطنبول في 22 يوليو الحالي – بشأن إنشاء ممر آمن في البحر الأسود لصادرات الحبوب والمنتجات الزراعية والأسمدة من أوكرانيا وروسيا. وهذه الأخيرة اتفاقية تعلق عليها الآمال في إنقاذ الملايين من الجوع ونقص الغذاء حول العالم.
أما الطرف الثالث، أي تركيا، فهي تلوح للشهر الثالث بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري لاستكمال إنشاء «منطقة آمنة» هناك، وتواصل مساعيها لإقناع الأطراف المختلفة بها. ولكن هناك من يرى أنها مساع لن تجدي نفعاً باستثناء رفع الضغوط عن تركيا بعد التطورات الأخيرة في العراق، واتهام القوات التركية بقصف منتجع سياحي في دهوك (شمال العراق) أدى لمقتل وإصابة عشرات المدنيين في إطار حملتها على حزب العمال الكردستاني. وكل هذا، فضلاً عن إبقاء حالة الزخم حول مكافحة الإرهاب في الشارع التركي لتواصل الحكومة استخدامها ورقةً لحشد الدعم لحزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب إردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في يونيو 2023.
إضافة إلى كل ما سبق، زاد من لفت الأنظار إلى قمة طهران الثلاثية، أنها أتت بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للشرق الأوسط، وحضوره «قمة جدة» في المملكة العربية السعودية مع قادة 9 دول عربية. هذه الزيارة والمشاركة جاءتا في إطار سعي بايدن لزيادة التعاون مع هذه الدوال العربية فيما يتعلق بأمن الطاقة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد التصريحات الأميركية المنتقدة لما تعتبره واشنطن زيادة في وتيرة التعاون العسكري بين روسيا وإيران أخيراً، والموقف التركي من انضمام السويد وفنلندا لـ«ناتو». إذ سحبت أنقرة اعتراضها على انضمام البلدين مقابل التزامات منهما بشأن مكافحة الإرهاب ورفع الحظر على صادرات الأسلحة إليها الذي فرض عام 2019 بسبب العملية العسكرية التركية ضد «قسد» في شمال شرقي سوريا، المعروفة بـ«نبع السلام».
الشرق الاوسط