وهي تفقد سيطرتها في العراق.. هل تستسلم إيران لتحطم صورتها كقوة عظمى في المنطقة؟

وهي تفقد سيطرتها في العراق.. هل تستسلم إيران لتحطم صورتها كقوة عظمى في المنطقة؟

هل تفقد إيران السيطرة على رأس الجسر الأهم لها في الشرق الأوسط العربي؟ هل يقف العراق على شفا حرب أهلية؟ بالأساس، ما الذي يريده مقتدى الصدر؟ من يجب عن السؤال الأخير يجب عن الأولين.

قبل نحو عشرة أشهر، جرت في العراق انتخابات برلمانية. الخلافات الشديدة بين الكتل التي تشكل الساحة السياسية لم تنجح حتى الآن في إنتاج اتفاق على تعيين رئيس للدولة أو للحكومة. لا يوجد في الواقع أي جديد في استمرار عملية التعيينات. العراق سبق وعرف فترات طويلة من غياب حكومة متفق عليها، لكن يبدو هذه المرة أنه لن يكون مناص من حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة.

كما يبدو هذا صراعاً سياسياً آخر يشبه في طبيعته الصراع الذي يجري في لبنان وتونس والسودان ودول أخرى. ولكن في حين أن الحديث يدور عن صراعات قوة داخلية في هذه الدول، فإن الهزة في العراق قد تكون لها تداعيات إقليمية وحتى دولية. العراق في الحقيقة تم إقصاؤه إلى هامش الاهتمام الدولي. وهو يعتبر دولة فاشلة وفاسدة ومع نسبة بطالة عالية، والتي يعد فيها احتياطي النفط الثالث في العالم، ولكنها مضطرة إلى استيراد الكهرباء والغاز من إيران، ويعاني المواطنون فيها من انقطاع الكهرباء. هو يجلس على نهرين كبيرين، الفرات ودجلة، لكنه غير قادر على توفير المياه لكل المواطنين.

بداية الصراع السياسي الذي يعصف بالدولة، يمكن عزوه للاحتلال الأمريكي في 2003. بول بيرمر، الدبلوماسي الذي تم تعيينه ليترأس السلطة المؤقتة لقوات التحالف من أجل إدارة الجهاز المدني للدولة تحت الاحتلال، وإعادة ترميمها وتأسيس ديمقراطية فيها، كان قد ارتكب جميع الأخطاء المحتملة؛ فقد طهر الجيش والشرطة وأجهزة الإدارة المدنية العراقية من جميع نشطاء حزب البعث، لكنه بذلك ترك الدولة بدون جيش أو شرطة قادرين على العمل. بسبب أسلوبه المتغطرس الفظ، لم ينجح في عقد علاقات مناسبة مع زعماء شعبيين ومع شخصيات رفيعة تستطيع أن تنفذ المهمات التي أراد فرضها.

خلافات عميقة بين البنتاغون والـ “سي.آي.ايه” والبيت الأبيض ووزارة الخارجية أدت إلى قطيعة مطلقة تقريباً بين هذه الجهات حول قضية العراق. مليارات الدولارات التي استثمرتها الإدارة الأمريكية في مشاريع إعادة إعمار الدولة شقت الطريق إلى جيوب خاصة للمقاولين والوسطاء والسياسيين واللصوص الآخرين. تقارير المراقب العام الدورية حول الفساد في العراق مليئة بالتفاصيل الصغيرة، مثل السرقة وخيانة مالية للأمانة وتبذير الأموال وغياب الرقابة وآليات مدمرة وغير قادرة على العمل. ولكن الإدارة الأمريكية ادعت بأن الأمر يتعلق بقصة نجاح، واستمرت في تمويل هذا المشروع الفاسد الذي تحول إلى جبهة قتال عنيفة ودموية بين القوات الأمريكية والقاعدة ومليشيات محلية أخرى.

كانت فرصة جيدة لإيران التي استغلت انتهاء ولاية صدام حسين من أجل بناء معقل القوة الأكثر أهمية لها في الشرق الأوسط عبر الحركات الشيعية ورؤسائها الذين تحولوا إلى قادة الدولة. ولكن في الوقت نفسه، حدثت خلافات أيديولوجية واستراتيجية في أوساط الحركات الشيعية المهمة. الزعيم الروحي الكبير في العراق، آية الله علي السيستاني، أوضح من المرحلة الأولى بأنه يعارض نموذج النظام في إيران، وأنه يجب تأسيس نظام ديمقراطي في العراق غير خاضع لزعيم روحي واحد. خصومه السياسيون والدينيون الذين قضى بعضهم سنوات طويلة في المنفى في إيران في فترة حكم صدام حسين، كانوا يتوقون إلى تطبيق طريقة النظام الإيرانية في العراق، وأن يضعوا على رأسها “زعيماً أعلى” وتبني مبادئ الثورة الإسلامية. هذا الخلاف الفكري والسياسي هو الذي يغذي الآن العداء الشديد بين الكتل في العراق ويمنع تشكيل الحكومة. هذا صراع شيعي – شيعي، يغذي نفسه ليس فقط من الفجوة الأيديولوجية والدينية، بل تشارك فيه حروب ذاتية ومنافسة شديدة على الوظائف الكبيرة وعلى أجزاء من الميزانية.

لوهلة قصيرة، بعد نشر نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول، كان يبدو أن العراق قد استقر على مسار مشجع، الذي سيخلصه من الأزمتين السياسية والاقتصادية. الكتلة التي يقف على رأسها الواعظ والزعيم السياسي مقتدى الصدر، فازت بـ 73 مقعداً من بين 329 في البرلمان. وظهر كأنه قادر على تشكيل حكومة متفق عليها ومستقرة. ولكن في حينه، شكل خصمه هادي العامري، الذي يقف على رأس المنظمة الشيعية العسكرية “بدر” المدعومة من إيران، ائتلافاً داعماً يسمي نفسه “إطار التنسيق”، وتشارك فيه كل الأحزاب الشيعية باستثناء حزب الصدر. إطار التنسيق الذي له 130 مقعداً في البرلمان يملك الآن الكتلة السياسية الأكبر. وهو يسعى إلى تشكيل حكومة توزع الحقائب حسب حصص طائفية وحركية لتحييد الصدر.

“إطار التنسيق” يقول ولأنه الكتلة الأكبر في البرلمان، هو الذي يجب أن يتولى رئاسة الحكومة وحقائب كبيرة ذات ميزانيات ضخمة. الصدر الذي لا يريد رئاسة الحكومة لنفسه، لا يؤمن بذلك، ويقول بأن الحركة التي فازت بعدد الأصوات الأكبر هي التي يجب أن تشكل الحكومة، أي أن رئيس الحكومة القادم سيكون الشخص الذي يمنحه الصدر ثقته.

حسب الدستور العراقي، الرئيس هو من يعين رئيس الحكومة، فيما ينتخب الرئيس البرلمان بأغلبية ثلثين. بعد أشهر كثيرة أخفق فيها الطرفان في التوصل إلى تفاهمات، قرر الصدر في حزيران الماضي أن تنسحب قائمته من البرلمان، وبذلك يحيد نشاطه ويسلبه شرعيته. يبدو أنه ما زال يمكن تحقيق أغلبية لتعيين رئيس إذا تم تجاوز لغم متفجر آخر. حسب الدارج، فإن الرئيس العراقي هو ابن للطائفة الكردية، لكن الأكراد أنفسهم منقسمون حول مسألة من هو الجدير بهذا المنصب. العداء الشديد بين الكتلتين الكرديتين الكبيرتين، التي تقودها عائلة بارزاني والتي تقودها عائلة طالباني، مستمر من عشرات السنين، وقد أدى إلى اندلاع حرب أهلية في الإقليم الكردي. الرئيس التارك برهم صالح، جاء من كتلة طالباني، والآن تطالب كتلة بارزاني بتعيين رئيس من قبلها. إذا لم يكن هذا بكاف، فإن كتلة بارزاني تؤيد الصدر، في حين أن كتلة طالباني مرتبطة بـ “إطار التنسيق”. يقف إلى جانب الصدر جزء من الكتلة السنية، هكذا فإنه حتى لو وافق الأكراد على مرشح للرئاسة فمن الصعب على البرلمان تحقيق الأغلبية المطلوبة لانتخاب رئيس الحكومة.

لا يكتفي الصدر بالمعارضة اللفظية لطموحات الكتلة المعادية؛ ففي الشهر الماضي، اقتحمت قواته المنطقة الخضراء في بغداد، التي تتركز فيها مكاتب الحكومة والسفارات والمقرات السكنية لشخصيات رفيعة في الحكومة العراقية. فاقتحم مؤيدو الصدر أيضاً مبنى البرلمان وأقاموا فيه اعتصاماً. بعد مفاوضات مثيرة للأعصاب وساخنة، انسحبت قوات الصدر من البرلمان من أجل العودة اليه في هذا الأسبوع، وهي تقيم فيها الخيام وأكشاك الطعام في الساحة المجاورة. وحسب قولهم، هم لا ينوون الانسحاب إلى حين الموافقة على طلبات زعيمهم وطلباتهم، وهي حل البرلمان وتحديد موعد لانتخابات جديدة. كل طرف يعلن أنه لا يسعى إلى التوصل إلى صراع مسلح أو صدامات في الشارع. ولكن مثل درجة الحرارة في بغداد التي تصل إلى حوالي 46، تبدو النفوس ساخنة، والخوف الشديد من أن يقوم أحد، حتى لو بدون قصد، بفتح النار، ومن هناك يتدهور الوضع إلى حرب يشارك فيها الجميع ضد الجميع.

الصدر (47 سنة)، الذي هو ابن لعائلة فقهاء في الشريعة الكبار الذين ناضلوا ضد صدام حسين وكانوا قتلوا على يده، يعتمد جيداً على انتماء عائلته الديني – الوطني، ويسعى إلى أن يصبح الزعيم السياسي الشيعي الأكبر في العراق، هذا إذا لم يكن الزعيم الديني الأعلى. الصدر ينقصه التعليم الديني العالي الذي كان سيعطيه الصلاحية الدينية، لكن إذا جسد طموحاته السياسية فسيعرف كيف سيعين زعيماً روحياً على هواه بعد موت الزعيم الروحي الحالي علي السيستاني ابن الـ 92.

هذه التنبؤات تقلق قيادة النظام في إيران. ففقدان السيطرة في العراق يخلق رداً متسلسلاً في لبنان أيضاً ويحطم صورة إيران كدولة عظمى إقليمية. يقدر العراق أنه إذا تم دفع إيران نحو الزاوية، فمن المتوقع أن تستخدم كل قوتها السياسية والاقتصادية ضد الصدر ومؤيديه، بل قد تحرض المليشيات الشيعية المسلحة ضد قواته.

القدس العربي