إن التصعيد العسكري والإعلامي الحالي بين الصين وتايوان، ولو أن بعضهم لا يرى فيه مواجهة قد تذهب إلى حرب شاملة، فإنه يشكل منزلقاً قد يدفع ببكين إلى اجتياز خطوط حمر هي لا تعترف بها أصلاً، ويلزم تايوان الرد بمقاومة لا خيار لها غيرها، فتندلع نيران حرب آسيوية تنجر إليها دول أخرى وربما أيضاً قوى كبرى عالمية.
إنها المنطقة الأكثر خطورة الآن وربما قد تتحول إلى الأخطر من جبهة أوكرانيا، لذا فالرأي العام الذي لم يعر هذه الجزيرة انتباهاً كبيراً في الماضي يتساءل عن أسباب هذه الأزمة الحالية. والأسئلة تتراكم بسرعة، ما جذور الصراع الصيني – التايواني؟ ولماذا استمر لعقود. وماذا تريد الصين وتايوان؟ وما موقف الولايات المتحدة؟ ولماذا صعدت بكين أخيراً؟ ولماذا زارت بيلوسي تايبيه عاصمة تايوان؟ وإلى أين تتجه الأزمة، وما نتائجها؟.
رحلة إلى الجذور
كانت الحكومة الوطنية في الصين قادت المقاومة ضد الاحتلال الياباني إبان الحرب العالمية الثانية بمساعدة الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا، وكان للأسلحة والطائرات الأميركية دور كبير في دحر القوات اليابانية عن مناطق عدة. كما شاركت قوات الحزب الشيوعي الصيني في مقاومة اليابانيين، بخاصة منذ عام 1941، عندما هاجم هتلر الاتحاد السوفياتي وسيطرت قوات ماو تسي تونغ على بعض نواحي الصين.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية واندحار اليابان، دعيت “الصين الوطنية” في 1945 لتكون إحدى الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ودخلت مجلس الأمن كعضو دائم مع حق النقض. واندلعت حرب أهلية بين الحكومة الصينية وقتها والحزب الشيوعي، ودعمت موسكو ماو بقوة وأرسلت له السلاح والعتاد، وسلمت القوات الشيوعية مناطق كانت تحت سيطرة السوفيات بخاصة ولاية منشوريا الاستراتيجية. وخسرت “الحكومة الوطنية” الحرب في بر الصين والتجأت إلى جزيرة فورموزا التي سميت تايوان، وشكلت فيها مؤسسات وبرلماناً وجيشاً كامتداد لما اعتبرته “الشرعية الصينية” على أراضي الجزيرة الرافضة تسليم السلطة لماو.
في 1949 أعلن الحزب الشيوعي عن قيام “الصين الشعبية” في بكين. واعتبر أن حكومة تايوان “متمردة” وأنه سيستردها مع الوقت. واستمرت قيادات الصين بهذا الموقف الحاسم لعقود وتحالفت مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، ودخلت الحرب الكورية في الخمسينيات إلى جانب الشمال وساعدت فيتنام الشمالية. وبنت قوة عسكرية ضخمة وترسانة نووية كبيرة ودخلت نادي القوى العظمى، لكنها رفضت الاعتراف باستقلال تايوان وأصرت على ضمها ولو بعد عقود، كما فعلت مع هونغ كونغ وماكاو من قبل. فماذا كان موقف أميركا؟.
معادلة واشنطن
من الخمسينيات إلى نهاية الستينيات، وقفت الولايات المتحدة بحزم إلى جانب تايوان معترفة بحكومتها على أنها “الممثلة الشرعية الوحيدة لدولة الصين”، وتمسكت واشنطن بمقعد الأمم المتحدة وعضوية مجلس الأمن الدائمة لتايوان. واستمر التضامن الغربي حتى نهاية الستينيات عندما قررت إدارة نيكسون أن تنسحب تدريجاً من “الهند الصينية” (Indochina) واحتاجت لمسايرة “الصين الشعبية”.
وسعت واشنطن إلى إقناع بكين بقبول دولتين، كما في كوريا وألمانيا، لكن القيادة الشيوعية أصرت على صين موحدة. وتم التراجع الأميركي خلال زيارة كيسنجر لجمهورية الصين الشعبية في 1970. ولم يمر عام حتى اعترفت واشنطن بالجمهورية الشعبية وتخلت عن الجمهورية الوطنية، لكنها نجحت بإتمام صفقة مع بكين تتسلم هذه الأخيرة بمقتضاها مقعد “الصين الوطنية” في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، على أن تتعهد “الصين الشعبية” بعدم اجتياح تايوان عسكرياً.
التزمت واشنطن حماية تايبيه ووضعها تحت مظلتها النووية، لكن القيادة الصينية لم تتنازل عن مطلبها بضم الجزيرة يوماً ما. فركزت على ذاتها وقوتها النووية والتأكد من خروج أميركا من فيتنام ولاوس وكمبوديا، وإنهاء أي تمرد داخلي لا سيما في التيبت والسين كيانغ.
وحافظت الولايات المتحدة على صداقتها مع تايوان وجعلتها شريكة عسكرية ولكن بتأن. ومرت الحرب الباردة وقررت بعدها إدارة كلينتون التقارب أكثر من بكين وفتحت لها باب التجارة العالمية بعد إصلاحات اقتصادية خلال التسعينيات، ودخلت الصين “منظمة التجارة العالمية” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، بعد أن أنهت إدارة بوش كل الحواجز البيروقراطية، وكانت واشنطن تسعى لإقامة أوسع جبهة دولية ضد “القاعدة” وسائر المنظمات الإرهابية، فتلاقت المصالح الدولية ودخلت الصين عبرها في الشراكة التجارية مع الغرب، ونمت العلاقات مع أسواق أميركا. واستمرت تايوان بالنمو الاقتصادي في آسيا ومع الولايات الأميركية. وبات الملف التاريخي بين الصين وتايوان مغلقاً على حاله. فماذا جرى إذاً؟
سباق الاقتصاد والحرية
عندما سقط الاتحاد السوفياتي بين 1989 و1991، خرجت جماهير أوروبا الشرقية من بلادها ومدنها هارعة إلى الغرب بكل الطرق، وغزا المحتجون المحال التجارية وأبلغوا العالم أنه لا عودة إلى الديكتاتورية الشيوعية، لذا فشغفاً بالحرية وبهدف تحسين وضع المعيشة انتقلت معظم شعوب الكتلة السوفياتية السابقة إلى نمط الحياة الغربية ولو ببعض التعثر.
ونظر عدد من المواطنين الصينيين إلى انهيار الشيوعية في أوروبا، فتحركت بعض المجموعات الطلابية بخاصة في العاصمة، ونظموا تظاهرات “تين أمان سكوار” (Tien Amen Square). وتمنى بعضهم وكثيرون في الغرب أن تنطلق انتفاضة تغيير في الصين، لكن الطبقة الوسطى لم تتضامن مع الطلاب فوراً، ولم تنشق أية قيادات شيوعية كما حصل في روسيا وأوروبا الشرقية، فالأوضاع الاقتصادية لم تكن متقدمة، والسلطة كانت تعد بكثير بعد الانفتاح الاقتصادي في التسعينيات، وسقطت انتفاضة الطلاب وضربت السلطة المعارضة بيد من حديد، بينما كان الرأي العام العالمي ينظر إلى سقوط الحكومات المرتبطة بالاتحاد السوفياتي، وانكبت حكومات “الناتو” على التوسع شرقاً في أوروبا، وأنهت بكين ما كان ممكناً أن يتحول إلى مشهد مثيل لقيام حكم انتقالي في الصين مواز لحكم يلتسين. لكن العاصفة مرت وفشلت في تغيير الحكم الشيوعي.
جزء كبير من الإعلام الغربي توقف عند الاحتجاجات الدامية، وسرعان ما غطت التطورات العالمية على أحداث ساحة بكين الكبرى: توحيد ألمانيا، وطلاق تشيكوسلوفاكيا، وانتهاء أزمة الرهائن مع إيران، واجتياح صدام للكويت وحرب تحريرها، ومؤتمر مدريد، والحرب الأهلية في أفغانستان، وغيرها. نسي العالم دهس الثورة الليبرالية المحدودة في الصين. لكن الحكم في بكين لم ينس مسألة خطيرة جداً هي وقوف تايوان مع المنتفضين في العاصمة عبر إعلامها باللغة الصينية، ما سبب غضباً لدى الدولة الصينية والحزب الحاكم، بخاصة أن الدعم المعنوي والسياسي تم بثه باللغة الوطنية، مما خلف تأثيراً أكبر من مواقف الكتلة الغربية.
ركزت الصين على التقدم الاقتصادي القومي، بينما ركزت تايوان على اقتصادها الأصغر حجماً، لكنها طورت حرياتها ونظامها الديمقراطي أكثر فأكثر. فبات السباق بين الصينين حول التطور الاقتصادي والحريات السياسية، في وقت لم تهتم الولايات المتحدة بملف الجزيرة ظناً منها أن التسابق الاقتصادي “صحي”، لأنه سيدفع الصين الشعبية للتحرر السياسي ويهيئ الوضع لمفاوضات بين الاثنين للوصول إلى توحد كونفيدرالي أو سوق مشتركة.
الغضب الصيني يتطور
مع توسع وتعمق وتطور الإنترنت وأذرعه التي ملأت الفضاء السيبيري (Cyber space) من “تويتر” إلى “فيسبوك” فـ”إنستغرام” وأخيراً “تيك توك”، انغمس مئات الملايين من الشباب والبنات في المساحة الثقافية الصينية التي تضم الصينين وجاليات صينية كبيرة في جنوب آسيا من ماليزيا إلى إندونيسيا، ولعبت تايوان دوراً في نشر فكر الحريات والتعددية استلهمته من الليبرالية الغربية عامة والأميركية بخاصة، فبات لها على الرغم من صغر حجمها تأثير متصاعد لدى المجتمع الصيني في الضفة الأخرى.
وبما أن الطبقة الوسطى في الصين وصلت إلى مستوى اقتصادي مقبول كما الحال في تايوان، باتت هذه الأخيرة تشد أنظار الناس العاديين في الجمهورية الشعبية ودار سباق نفسي هائل بين إعلام الدولتين. وتبين أن الناس يهمها النجاح المالي والاقتصادي أولاً، لكن عند امتلاء الجيوب تبدأ حال الانشداد للحرية. فالصين تتسابق مع الولايات المتحدة اقتصادياً، ولكنها غربية عنها إلى حد ما في سياساتها، وباتت أجزاء من المجتمع المدني الصيني تنظر إلى الصين الصغيرة (تايوان) كـ”سويسرا آسيوية”. وشكل ذلك (ولو نظرياً) مثلاً حياً يقتدي به صينيو البر الآسيوي. فبكين لديها المال وتايبيه لديها الحرية والإنترنت ينقل كل ذلك للشعبين.
الاتجاه نحو الصدام
أتى كلينتون بالصين إلى التجارة العالمية لكنه حافظ على صداقة تايبيه. وجورج بوش وطد العلاقة مع البلدين تجارياً. وأوباما حافظ على الجسور مع الجزيرة، لكنه استمر في العلاقات الاقتصادية مع بكين. وترمب فتح علاقة صداقة مع الزعيم الصيني فعقد صفقات أميركية هائلة مع بكين. ثم هاجمها عند جائحة كورونا، لكن وزراءه أمضوا وقتاً طويلاً في الصين يفاوضون اقتصادياً. أما تايوان فحصلت على ضمانات دفاعية إضافية خلال رئاسة ترمب، ولم تقم القيادة الصينية بعمل عدائي إزاء ذلك، لكنها لم تتخل عن مشروع الضم.
تصاعد الحديث عن الأزمة في موازاة “الانتفاضة الإدارية والسياسية” ضد البيت الأبيض، لا سيما عبر حركات (Antifa) و(BLM)، فالأسد الأميركي بات جريحاً سياسياً، وكانت مناسبة للقوى الدولية المناهضة له أن تكشف عن زندها، ولكن بتأن. واستمرت الصين بالحذر حتى مرور عام تقريباً خلال رئاسة بايدن. ومع تفجر ثلاث أزمات دولية رأت الصين أنها تثبت ضعف الإدارة الأميركية الجديدة، بدأت القيادة الصينية بتحركات مزعجة للأمن القومي الأميركي فأعلنت أنها مع حل سياسي يضم الحوثيين في اليمن على أثر رفع ميليشياتهم من لائحة الإرهاب. ووقعت اتفاقاً استراتيجياً دفاعياً واقتصادياً مع إيران. ومع اندلاع الحرب الأوكرانية عززت بكين علاقاتها المالية والتجارية مع روسيا بمواجهة العقوبات الأميركية، وتبعتها بإغراءات لدول التحالف العربي وإلى حد ما إسرائيل.
الثغرة انفتحت
في ظل الفوضى الدبلوماسية التي تبعت الاجتياح الروسي لأوكرانيا تموقعت بكين كـ”فريق ثالث” على الصعيد الدولي، لكنها حصدت ما تريده: عقود دولية في قارات عدة ومناسبة لتهديد تايوان، ورسمت خطاً دفاعياً من القطب الشمالي بمساعدة روسيا إلى مياه إندونيسيا جنوب القارة الآسيوية. واعتبرته منطقة نفوذ استراتيجية روسية – صينية. وقامت بتعزيز وجودها في بحر جنوب الصين، وأخيراً هيأت لفتح قاعدة عسكرية تجاربة في جزر السولومون (Solomon islands) على مسافة ليست بعيدة من أستراليا.
هذا الجو الجديد سمح للصين بأن تفرض نفسها كقوة رئيسة في شرق آسيا، بالتالي على تايوان. فباشرت بإصدار تهديدات للغرب كي لا يعترف بالجمهورية – الجزيرة، وإلا تحركت بكين عسكرياً لاجتياحها. ولم يأخذ الغرب التهديد الصيني على محمل الجد. لكن حدثاً دبلوماسياً أثر في المعادلات مع زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لتايبيه. إذ اعتبرت الصين أن هذه الزيارة غيرت كل شيء، وأعلنت أنها ستقوم بعمل ما، مما وضع القوتين في موقع دقيق وخطير. وبات الوضع بين واشنطن وبكين “على كف عفريت”. وهو ما سنسعى لشرحه في مقال آت.
اندبندت عربي