من التبسيط القول إن الخلاف بين تركيا ودول الغرب الأوروبي منحصر في البعد السياسي، فالسياسة وحدها لا تفسر الحساسية الزائدة بين الجانبين، التي تتجلى في رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، في وقت يضم فيه ذلك الاتحاد دولاً أقل منها بكثير من ناحية المكانة الاقتصادية والموارد والأهمية.
في كل لقاء بين الجانبين يتشعب النقاش إلى نواح مختلفة ثقافية واجتماعية تظهر لتبدو وكأنها تشكل وجه الاختلاف الحقيقي، بين كل من تركيا وأوروبا. قضايا مثل الإسلام والحجاب والجاليات، ومفهوم حقوق الإنسان كانت دائماً حاضرة ومطروحة على صعيد اللقاءات الثنائية، أو المتعددة. مع ذلك فإن الحوار حول قضايا التباين كان نادراً ما يفضي إلى نتيجة، حيث يتمترس كل طرف حول ما يعتقد أنه يمثل قيمه واعتقاداته، مع وجود فارق أساسي يتوجب أن نشير إليه هنا وهو، أن الدول الأوروبية لا تسعى فقط للتعبير عن قيمها وطرحها كمجرد خيار، بل تحاول فرضها على الجميع باعتبار أنها قيم عالمية.
الدول الأوروبية لا تسعى فقط للتعبير عن قيمها وطرحها كمجرد خيار، بل تحاول فرضها على الجميع باعتبار أنها قيم عالمية
العلاقة التركية مع ألمانيا لا تخلو من هذا الشد والجذب، فبقدر ما بين الدولتين من شراكات اقتصادية وتجارية ومصالح، إلا أنهما يختلفان في كثير من القضايا، حيث تبدو ألمانيا جزءاً من المحور الذي ينظر إلى تركيا كجسم غريب على أوروبا، بسبب كونها بلدا بغالبية مسلمة. هذه الطريقة في التفكير، التي يتبناها أوروبيون مثقفون وسياسيون كثيرون، تجعلنا نستخلص أن أوروبا، مع كل ما مرت به من حداثة وتنوير، لم تغادر بعد محطة الاصطفاف الديني، وأنها ما تزال تعيش في ذلك الزمن التاريخي الذي كان فيه العثمانيون المسلمون يقفون على أبوابها بجيوشهم. يقدم هذا الاستنتاج درساً لمن يحاول التقرب إلى أوروبا من الدول العربية والإسلامية، فمهما كان ما ستقدمه هذه الدول، يصعب أن يصل إلى حجم ما قدمته تركيا، التي بدأت بقطيعة مع الميراث العثماني لدرجة تغيير طريقة كتابة اللغة، قبل أن تمضي أكثر من ذلك لحد تشريع قوانين تضيّق بها على الغالبية المسلمة في عباداتها ولباسها. لم تفعل الجمهورية التركية الجديدة ذلك فقط، بل كانت شريكة مخلصة لحلف الناتو، وضامنة لأمن أوروبا، بناءً على موقعها، طيلة فترة الحرب الباردة، التي استمرت قرابة نصف القرن من الزمان، كل تلك السياسات والمساهمات لم تشفع لها ولم تمنحها أولوية الانضمام حينما تم إنشاء النادي الأوروبي. الزيارة التي قامت بها مؤخراً وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى تركيا كانت مهمة في إطار تبادل وجهات النظر بين البلدين والمحافظة على مساحة للحوار، أما المؤتمر الذي عقدته مع نظيرها التركي مولود جاويش أوغلو، فكان أقرب لمناظرة عرض فيها كل منهما وجهة نظره حول القضايا الخلافية التي تعيق الانسجام الكامل ليس فقط بين البلدين، وإنما بين تركيا وعموم أوروبا، حيث لاحظنا أن المؤتمر ناقش بإسهاب الأزمة مع اليونان، التي تتضمن خلافاً حول جزر بحر إيجة والمساحات المائية، كما تتضمن الخلاف القديم حول القضية القبرصية. في هذه النقطة، وبينما كان الوزير التركي يقول إن على ألمانيا أن تستمع إلى الطرفين بالقدر ذاته، وأن لا تتبنى الموقف اليوناني، وبينما كان يستند إلى الاتفاقات الحاكمة كاتفاقية لوزان 1923 واتفاقية باريس 1947 وما نصت عليه، خاصة في ما يتعلق بمنع تسليح بعض الجزر، وهو ما خرقته اليونان، كانت بيربوك على الطرف الآخر تؤكد الدعم الأوروبي الكامل لموقف اليونان، التي تضطلع بمهمة حماية الحدود الأوروبية الخارجية. كانت بيربوك في هذا واضحة، حينما أوحت بأن السياسة اليونانية هي في أصلها سياسة أوروبية، تحاول الحفاظ على أمن القارة تنفيذاً لمخطط «فرونتكس»، الوكالة المعنية بتأمين الحدود الأوروبية. أكدت بيربوك كذلك أن أوروبا تهب بشكل جماعي إذا ما تعرضت إحدى دولها لتهديد، ما حمل تحذيراً ضمنياً لتركيا. في رده اكتفى جاويش أوغلو بالقول منتقداً الموقف الأوروبي، إن حماية الحدود لا تعني تهديد الآخرين.
النقطة الأساسية الأخرى التي عادة ما تطرح إبان النقاشات من هذا النوع هي مسألة حقوق الإنسان، فكثيراً ما يتم انتقاد الحالة الحقوقية في تركيا بشكل مكثف، ووضعها في زاوية الدفاع عن نفسها أمام الاتهامات. ما حدث في هذا اللقاء هو أن جاويش أوغلو بادر للمطالبة بحماية الجمعيات التركية والمسلمة والمساجد في ألمانيا، التي تزداد فيها وتيرة العنصرية التي تظهر في شكل اعتداءات على المسلمين ودور عبادتهم. تطرق أوغلو كذلك لما تفعله اليونان من تضييق على الأتراك والمسلمين في حرية اللباس، ومنعهم من دفن موتاهم على الطريقة الإسلامية، وهو ما يتناقض مع جميع مواثيق حقوق الإنسان. ذكّرت كلمات أوغلو بأن مسألة حقوق الإنسان تطبق بمزاجية، فلا وجود لضغوطات جادة في حالة اليونان، التي لا يتحدث أحد عن تمييزها المؤسس ضد المسلمين، في حين تقوم أوروبا ولا تقعد في حالة الاشتباه باضطهاد أي شخص من الأقليات الدينية، أو العرقية في تركيا أو في غيرها من البلدان الإسلامية. وأوضحت الوزيرة الألمانية أن بلادها تكافح الحركات العنصرية، لكنها استخدمت عبارات فهم منها أنها ترى أن السبب في هذه العنصرية هو تبني بعض المسلمين لأفكار هي ضد ما سمته «المبادئ الإنسانية المشتركة»، التي ذكرت منها «الحريات» و»مكافحة العداء للسامية». هذه «المبادئ المشتركة» وفق بيربوك تتناقض مع ما يظهره المسلمون من «انفصالية دينية». في مجال حقوق الإنسان ذكّرت بيربوك بقرارات المجلس الأوروبي الخاصة بالإفراج عن بعض المعتقلين، خصت بالاسم عثمان كافالا، وهي نقطة طريفة تظهر فيها تركيا، غير العضو في الاتحاد، وهي مطالبة بالامتثال لما تراه المحكمة الأوروبية والمجلس الأوروبي لحقوق الإنسان.
بدأ أوغلو رده بالقول: «بالطبع قضية كافالا تؤرقكم»، ثم ذكر بأن هناك أحكاماً أخرى صدرت بحق اليونان قبل 14 سنة متعلقة بحقوق الأتراك ولم تنفذ، ولم تطالب الوزيرة التي جاءت من أثينا أحداً بتنفيذها، وكذلك الحال مع فرنسا، ثم مضى الوزير التركي أكثر من ذلك متحدثاً عن حالة حقوق الإنسان في ألمانيا، والدعاوى المرفوعة من معتقلين تعرضوا للسجن غير القانوني والتعذيب، وهي حالات تأخر البت فيها لسنوات طويلة. يعود أوغلو لقضية كافالا متسائلاً: لماذا الاهتمام بهذا الرجل بهذا القدر؟ في هذا السؤال إشارة إلى أن المعتقلين ليسوا سواء في نظر الأوروبيين، فبعضهم قد يبقى في السجن لعقود في بعض البلدان، من دون أن يطالب أحد بالإفراج عنه. يمضي أوغلو بعد هذا ليحاول أن يشرح باقتضاب قضية كافالا التي لا تتعلق فقط بحرية التعبير، كما يراها الأوروبيون، وإنما بخروقات فعلية للقانون، ثم يوضح بعد هذا السبل القانونية للاعتراض على الحكم، لكنه يعود للتشديد على أن السبب الحقيقي وراء الاهتمام الأوروبي بكافالا هو كونه «اللعبة التي تستخدم وتمول للإضرار بتركيا». لم يكن من الممكن الوصول إلى اتفاق، أو لنتيجة ملموسة وفورية حول هذه الموضوعات، والأمر مشابه في ما يتعلق بالمسألة السورية والعملية التركية المرتقبة. على الرغم من ذلك، فإن مثل هذه اللقاءات شديد الأهمية لأنه يفضح التناقض الدولي في النظر إلى قضايا أساسية مثل الحريات والحقوق الإنسانية والسلام الدولي.
القدس العربي