قدر العراق قاس منذ الولادة على يد ونستون تشرشل بعد الحرب العالمية الأولى، ففي الماضي كانت المشكلة هي مظلومية الشيعة، أما بعد الغزو الأميركي فإن المشكلة هي حكم الشيعة، حكم دستوره أميركي وإدارته إيرانية وحكوماته حصص موزعة على شخصيات متناقضة ودول متنافسة وحتى متحاربة، والدستور الذي هندسه أستاذ القانون في “جامعة هارفارد” نوح فيلدمان لم يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع العراقي، حيث الحداثة قشرة لا تخفي العشائر والقبائل والأعراق والمذاهب تحتها، بمقدار ما بني لنظام ديمقراطي برلماني على الطريقة البريطانية في غياب الديمقراطيين والتجارب الديمقراطية، وبعد التطبيق أو سوء التطبيق أدرك فيلدمان النقص.
وعبر في كتاب “الشتاء العربي: تراجيديا” عن خيبة أمله، ثم حاول الحفاظ على التفاؤل بالقول إن “الديمقراطية لم تمت لكنها مؤجلة وتحتاج إلى جيل آخر”، والإدارة الإيرانية لدستور في نظام ديمقراطي هي مهمة مستحيلة، فكيف يدير نظام ثيوقراطي سلطوي يدعي أنه “حكم إلهي” نظاماً ديمقراطياً يعتمد النقاش والتصويت؟ وكيف يمكن أن يتحول وكلاء إيران وقادة الميليشيات المسلحة إلى رجال دولة يؤمنون بالنقاش ويحتكمون الى إرادة الأغلبية؟
أليس من عوامل المشكلة أن الدستور العراقي الذي هو دستور “أغلبية” يراد تطبيقه كدستور “إجماع”؟
السيد مقتدى الصدر ليس ثورياً بالمعنى الكامل ولا بابه مغلق مع إيران، لكنه حاول بعد الفوز بأكبر كتلة شيعية تأليف حكومة “أغلبية وطنية” بالتفاهم مع “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود البارزاني و”تحالف السيادة” السنّي بين محمد الحلبوسي زعيم “تقدم” وخميس خنجر زعيم “عزم”، فوضعت طهران حاجزاً على الطريق عبر وكلائها المسلحين الذين خسروا الانتخابات وأصروا على حصص في الحكومة، لا بل جرى اتهام الصدر بأنه “يهدم الحكم الشيعي”.
الصدر سحب نوابه من البرلمان فجرى تعيين المرشحين الخاسرين محلهم والإصرار على تأليف حكومة منهم، وكان من الطبيعي أن يضع الصدر حاجزاً على طريقهم وهذه المرة كان الحاجز شعبياً.
اعتصم أنصار الصدر في مبنى البرلمان وتظاهروا في مدن عدة مطالبين بحل البرلمان والذهاب الى انتخابات نيابية جديدة، وتحقيق مطالب أخرى هي محاسبة الفاسدين والقضاء على الفساد، لكن وكلاء إيران ضمن ما سمي “الإطار التنسيقي” وأبرزهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي سقطت الموصل على أيامه وقام تنظيم “داعش”، قرروا التحدي بالاعتصام على بوابات المنطقة الخضراء.
المشهد الآن هو شارع مقابل شارع، والنتيجة هي التعطيل، فلا انتخاب لرئيس جمهورية ولا اختيار لرئيس حكومة منذ الانتخابات في الخريف الماضي، لكن من الوهم الرهان على أن يستمر “ستاتيكو الأزمة”، فلا أنصار الصدر وحدهم في مقابل أنصار “الإطار التنسيقي”، بعدما انضم إليهم “ثوار أكتوبر” ونشطاء الحزب الشيوعي، رافعين شعارات أبعد من شعارات الصدر وهي “إسقاط النظام”.
الصدر يستخدم سلاح “الوطنية العراقية” ويدعو إلى ضرب الفساد والفاسدين وإنهاء المحاصصة، وهو يعيد تذكير الذين يتهمونه بالعمل مع الولايات المتحدة والسعودية بأنهم جاؤوا إلى السلطة على ظهور الدبابات الأميركية، في حين أنه أسس “جيش المهدي” لقتال الاحتلال الأميركي والتحريض عليه، لكنه لا يطالب بإسقاط النظام وإن تحدث أنصاره عن “تغيير جذري ومعالجة حكم مختلفة”، ولعل هدفه هو أن يكون الممثل الشرعي الوحيد للشيعة ضمن حكومة يمارس فيها السنّة والكرد دور الشريك الكامل لا دور الضيف على الشيعة، وهذا أمر يختلف عن تصور شايان طالباني في “فورين بوليسي” حول كون الصدر “نسخة عراقية معدلة عن الخميني”، فضلاً عن أنه الممكن في تعقيدات العراق الداخلية، وقدره الإيراني والأميركي هو أن يلعب الصدر دور زعيم وطني منفتح على طهران وسواها من أجل مصالح العراق، كبديل من أدوار “مندوبي” الملالي في العراق، وحتى الممكن والضروري يبدو صعباً، فصيف العراق طويل وهو كان دائماً على موعد مع ثورة.
اندبندت عربي