يكرس الفلسطينيون والإسرائيليون في التعامل القائم بينهما منذ عقود، المعنى التطبيقي للجنون كما يراه ألبرت أينشتاين، فهما يعيدان المراحل والاتفاقيات والأفعال نفسها، ويأمل كل منهما في أن تؤتي في كل مرة نتائج مختلفة، فيبدوان كالمجنون الذي لا يصدق نصائح الآخرين بأن الفعل الذي يكرره لن يؤدي إلى نتائج مختلفة.
القدس – لا يظهر التعامل بين فلسطين وإسرائيل أي تغيّر فهما يدوران في الحلقة المفرغة نفسها، ليعودا مجددا نحو مربع العنف الذي ينتهي في كل مرة بوساطة أحد البلدان الشقيقة والصديقة، لذلك لا تؤتي الحلول المطروحة للنزاع بينهما أي نتائج منذ عقود، ويبدو أي مقترح للحل لا جدوى منه لاعتبارات كثيرة.
ويرى المحلل السياسي جيمس دورسي أنه إذا كان هناك شيء واحد يتفق عليه الإسرائيليون والفلسطينيون، فهو تعريف ألبرت أينشتاين للجنون واعتباره “فعل الشيء نفسه مرارا وتكرارا وتوقع نتائج مختلفة”.
ولطالما اعتقد الإسرائيليون أن القوة الساحقة والعقاب الجماعي والحرمان من الحقوق ورفض الهوية والإذلال والحصار المدمر الذي تدعمه مصر لقطاع غزة لمدة 15 سنة من شأنه أن يقنع الفلسطينيين بالتنازل عن تطلعاتهم الوطنية وقبول إعادة كتابة التاريخ والقبول بالسيطرة الإسرائيلية مقابل منافع اقتصادية.
جيمس دورسي: حال الفلسطينيين لم يكن أفضل من الإسرائيليين
وأشاد مسؤولون إسرائيليون بقرار حماس بعدم المشاركة عسكريا في القتال هذا الشهر مع الجهاد الإسلامي كدليل على أن إستراتيجية الحكومة كانت ناجحة.
ومع ذلك، لا يوجد سبب كافٍ لافتراض أن حماس قد تغيرت فجأة وتخلّت عن مبدأ الكفاح المسلح. بل من الأرجح أنها تريد أن تقرر التوقيت بدلا من السماح للجهاد الإسلامي أو إسرائيل بجرها إلى صراع في لحظة تناسب أجندتيهما.
وقال الجيش الإسرائيلي هذا الأسبوع إنه أغلق نفقا هجوميا حفرته حماس من شمال غزة إلى داخل إسرائيل. وأشار إلى أن جدارا دفاعيا تحت الأرض أكملته إسرائيل في ديسمبر قد أغلق النفق.
لكن المسؤولين الإسرائيليين يعتقدون أن رفض حماس الانضمام إلى المعركة يشكل دليلا على نجاح إستراتيجية إسرائيل.
ويبدو ما يحدث الآن بين إسرائيل وحماس هو حكم الأمر الواقع. وهو نظام من العصي الكبيرة والجزر الحلو. وتتلقى حماس ما لم تحصل عليه من إسرائيل من قبل وتسلم البضائع للسكان. وقال مصدر عسكري إسرائيلي رفيع للمونيتور إنهم “يتفهمون الثمن الذي يدفعونه، لكنهم يدركون أن البديل أسوأ”.
ومع تقدير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” لبطالة الشباب بنسبة 75 في المئة، من المتوقع أن تحفز إسرائيل حماس من خلال السماح لآلاف العاملين في غزة بالعودة إلى العمل في الأراضي التابعة لها.
كما تدرس إسرائيل زيادة عدد تصاريح العمل في غزة من 14 ألفا إلى 20 ألفا. كما قد تسمح لسكان غزة، بعد المرور بتدقيق أمني بالسفر إلى الخارج جوّا من مطار في جنوب إسرائيل.
وجادل وزير الدفاع بيني غانتس مؤخرا بأنه “خلال العام الماضي، كانت لإسرائيل سياسة واضحة: يد ثقيلة ضد جميع انتهاكات السيادة والجهود الهجومية والدفاعية لمنع الهجمات على جميع الجبهات، من ناحية، وسياسة مدنية وإنسانية مسؤولة، من جهة أخرى، تدعم القوى المعتدلة على حساب المنظمات الإرهابية”.
وهذه إستراتيجية مبنية على فكرة العالم الإسرائيلي ميخا غودمان عن “تقليص الصراع”.
وجادل غودمان في 2019 في نيويورك تايمز بأن هذا “لن يحل الصراع أو ينهيه… بل سيحتويه ويقلله. وسيوسع حرية حركة الفلسطينيين، وحريتهم في التطور وحريتهم في الازدهار. وكل ذلك دون انسحاب عسكري إسرائيلي، وبالتالي دون مخاطر أمنية على المدنيين الإسرائيليين”.
ولعل الأهم من ذلك هو أن غودمان يرى أن تقليص الصراع “من شأنه أن يخفف من خطر التدهور إلى واقع الدولة الواحدة” حيث من المحتمل ألا يكون اليهود الإسرائيليون أغلبية. وتشكل الفكرة اعترافا بأن السياسة الإسرائيلية لم تنجح، حتى لو بدا أن حماس أصبحت أكثر انتقائية في اختيار معاركها.
ويرجح دورسي، وهو أيضا خبير في قضايا الشرق الأوسط، أن تكون تجربة السلطة الفلسطينية التي أصبحت عاجزة بسبب رفض إسرائيل الضغط من أجل حل نهائي للصراع وسوء إدارة السلطة والفساد والتنافس مع حماس خطا أحمر للإسلاميين. وسيسعون إلى ضمان مكاسب سياسية، وليست اقتصادية فقط.
ومنذ أكثر من سبعة عقود، منذ إنشاء دولة إسرائيل، يواصل الفلسطينيون التمسك بهويتهم الوطنية وتطلعاتهم. ومع ذلك، يعترف الكثيرون ضمنيا بأن الفلسطينيين العاديين يدفعون ثمن العنف الذي لا يجعلهم يقتربون من حل.
وقال أحد سكان الضفة الغربية “في نهاية المطاف، إن الذين يخسرون هم المدنيون. لا يغير إطلاق الصواريخ على إسرائيل شيئا. كل ما يفعلونه هو ضمان مقتل المزيد من المدنيين والأطفال. لدينا حقوق، لكن علينا أن نجد طريقة أخرى لتأمينها”.
لكن المحلل السياسي يرى أن معضلة إسرائيل هي أن مستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية قد يكون اليوم مهددا كما كان في السنوات الأولى عندما كانت الجيوش العربية مصممة على محوها من الخريطة.
وتشكل خيارات اليوم المتناقصة لحل الصراع المستمر منذ قرن أخطر تهديد وجودي يواجه إسرائيل وليس العنف الفلسطيني، على الرغم من إصابة ثمانية أشخاص في وقت سابق من هذا الأسبوع عندما هاجم مسلح فلسطيني حافلة في القدس الشرقية.
ومن المؤكد أن المسؤولين الإسرائيليين ربطوا عملية غزة بالتصعيد الإسرائيلي في مواجهة إيران، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها أكبر تهديد لوجود دولة يهودية.
ويأتي تركيز إسرائيل المتزايد على إيران في وقت يتوقف فيه إحياء الاتفاقية الدولية لسنة 2015 التي حدت من برنامج طهران النووي.
ويقيم الجهاد الإسلامي علاقات وثيقة مع الجمهورية الإسلامية. وكان زياد النخالة، القائد الأعلى للحركة، في طهران للقاء مسؤولين إيرانيين عندما بدأت إسرائيل عمليتها التي استمرت ثلاثة أيام ضد غزة في 5 أغسطس.
الفشل في تنفيذ حل الدولتين عندما كان ذلك ممكنا هو ما جعل حل النزاع أكثر صعوبة واستمرت دورات العنف
وقال غانتس إن الجهاد الإسلامي في غزة هو وكيل إيراني عنيف. وأكد أن المجموعة تتلقى عشرات الملايين من الدولارات سنويا من إيران.
وأشار الصحافي بن كاسبيت إلى أن الهجوم على الجهاد الإسلامي “كان أول عملية عسكرية إسرائيلية ضد الجماعات الإرهابية في غزة منذ 2009 خرجت منها بشعور بالنصر الإستراتيجي” من خلال “إبعاد حماس عن القتال، مما أدى إلى تقليص حجم الجهاد الإسلامي لاحتواء تهديدها واستعادة ردعها. من ناحية أخرى، وبشكل مجازي، فإن الجيش الإسرائيلي بصفته المتنمر في الحي قد استهدف أضعف طفل في المكان”.
ويعتبر دورسي أن حال الفلسطينيين لم يكن أفضل من الإسرائيليين من خلال التمسك بتعريف أينشتاين للجنون مع الدعم الإيراني أو دونه.
وخدم العنف الفلسطيني في السبعينات والثمانينات غرضه بوضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال العالم. ومع ذلك، فقد ساهم منذ ذلك الحين في إخراجها من جدول أعمال بعض الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين التي أقامت في السنوات الأخيرة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وقلل من أهمية القضية لدى دول أخرى مثل المملكة العربية السعودية. أضف إلى ذلك الولايات المتحدة التي تخلت تماما عن السعي لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع عدم وجود من يرغب في استبدال الولايات المتحدة كوسيط بجدية، وإن كان معيبا.
ويستمر الإسلاميون الفلسطينيون في التمسك بمبدأ المقاومة المسلحة التي تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى وهم يتوهمون أن العنف سينجح مرة أخرى أو على أمل أن يبقي العنف الفلسطينيين في أعين الجمهور الدولي. وعلى الرغم من تقديم تنازلات مثل الاعتراف بوجود إسرائيل والتخلي عن فكرة الكفاح المسلح، فقد فشل المعتدلون في وقف الاستيطان الإسرائيلي وتحقيق قدر ضئيل من الاستقلال.
كما أن الاعتدال لم يمنع تصلب الرأي العام الإسرائيلي وتهميش اليسار الحمائمي في البلاد.
وكان الهجوم الإسرائيلي على غزة في محاولة لتوجيه ضربة قاتلة للجهاد الإسلامي الذي يرفض أي حل تفاوضي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكتائب شهداء الأقصى، ائتلاف من الجماعات المسلحة في الضفة الغربية، أحدث تأكيد لتعريف أينشتاين.
ولم يؤد الهجوم والرد الفلسطيني إلى أكثر من توسيع الفجوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مما أدى إلى ترسيخ مواقف الخدمة الذاتية في وقت مناورة الانتخابات الإسرائيلية وتزايد الإحباط الفلسطيني وانعدام الثقة في القيادة.
يتمسك المجتمع الدولي، وكذلك السلطة الفلسطينية التي تدير أجزاء من الضفة الغربية، بفكرة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل في المناطق التي احتلها الإسرائيليون خلال حرب عام 1967 في الشرق الأوسط حتى لو كان وجود 670 ألف مستوطن إسرائيلي في 152 مستوطنة في المنطقة وكذلك في القدس الشرقية يجعل التقسيم صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلا.
في التحليل النهائي، فإن الإزالة الفعلية لخيار الدولتين كحل قابل للتطبيق يحوّل حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال اختيار دولة واحدة لكل من الفلسطينيين واليهود إلى تهديد وجودي للديمقراطية الإسرائيلية إذا لم تتمتع المجموعتان بحقوق متساوية أو الطبيعة اليهودية للدولة إذا فعلوا ذلك.
ومن الناحية النظرية، سيكون الخيار الآخر الوحيد هو حل ثلاثي يشمل نوعا من الاتحاد، بما في ذلك الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين. لكن هذا قد لا يتناسب مع الأردنيين ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم التهديد الديموغرافي الإسرائيلي.
باختصار، يرجح دورسي أنه قد يكون الفشل في تنفيذ حل الدولتين عندما كان ذلك ممكنا هو ما جعل حل النزاع أكثر صعوبة واستمرار دورات العنف التي تقوض النسيج الاجتماعي والديمقراطية في إسرائيل.
وقال جدعون ليفي، كاتب العمود الإسرائيلي المثير للجدل، إنه إذا كان هناك شيء واحد مفقود تماما من الأجندة العامة في إسرائيل، فهو النظرة طويلة المدى. وذكر أن إسرائيل “لا تتطلع إلى الأمام، ولا حتى بنصف جيل… لا يوجد إسرائيلي واحد يعرف إلى أين تتجه بلاده”.
وكان يمكن أن يقول ليفي الشيء نفسه عن الفلسطينيين الذين يعرفون ما يريدون، وليس لديهم أي فكرة عن كيفية الوصول إليه. ويتمسكون بالإستراتيجيات التي هي في أحسن الأحوال غير منتجة وتؤدي إلى نتائج عكسية في أسوئها.
العرب