مفهوم «النظام القائم على القواعد» الذي أصبح يُستخدم كمرادف للقانون الدولي من قبل القوى الغربية، ويتردد كثيرا في المنابر السياسية، من قبل ممثلي دول الناتو لدعم بياناتهم ذات الدوافع السياسية. يُعتبر الروس، من أشد معارضيه على الساحة الدولية، لما له من تأثير سلبي في النظام القانوني الدولي الحالي، على نحو يزيل الإجراءات الشرعية المعمول بها في وضع القانون الدولي، على أساس أحادي الجانب، النهج الذي كثيرا ما دأبت الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها على تكريسه، وفرض ما يشاؤون دون أدنى اهتمام بالشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة. وهذا المصطلح، هو في عمقه يرفض القيم الدولية التقليدية للاستقرار القانوني، ويقلص بشكل صريح دور القانون الدولي في العلاقات الدولية.
حلف الناتو ليس قيّما على النظام العالمي، كان من المفروض أن تكون منظّمة الأمم المتحدة هي التي تسهر على السير الطبيعي للعلاقات الدولية، ولكن استفراد الولايات المتحدة كقوة أحادية بالعالم إثر تفكك القوة العظمى التي كانت تشكل معادلا، ورديفا استراتيجيا لها، وهي اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، مكّن أمريكا من أن تعتبر نفسها شرطي العالم.
وتمّ تهميش الهيئات الأممية وتدجينها، وبالتالي، اقتصرت منظمة الأمم المتحدة منذ ظهورها على إجراءات تنظيم مبدئية، وما زالت إلى الآن بعيدة عن الدوافع الداعية إلى السلام، التي تدين لها المنظمة الدولية بنشوئها، فوظيفتها الأساسية ارتبطت بتأمين السلام العالمي إثر دمار الحرب العالمية، وكذلك الفرض السياسي لحقوق الإنسان في جميع الدول، ودرء الكوارث الإنسانية والأخطار العالمية الكبرى، ومشاكل حماية البيئة، والتركيز على قضايا الأمن بالمعنى الواسع للكلمة، وتحجيم الحروب الأهلية والاجرام الرسمي. كل ذلك لم يتم بالشكل المطلوب، ودمّر حلف الناتو دولا عديدة، وتدخل فيها بشكل تعسفي وكارثي، وانتهك كل قواعد النظام الدولي، ومن الطبيعي أن تسمح الدول المنضوية تحت هذا الحلف بما يقوم به الكيان الصهيوني الغاصب من إجرام، وإرهاب رسمي، يحظى بدعم هذه القوى ومساندتها المطلقة. حلف الناتو يُدين الشراكة الاستراتيجية بين بكين وموسكو ضد النظام الدولي، وهو يعتبر أن طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تضرّ بمصالحه، وفي بياناتهم الأخيرة، تصف دول حلف الأطلسي روسيا، بأنّها التهديد الأكبر، والتهديد المباشر لأمن الحلفاء، في انعكاس لتدهور حاد في العلاقات مع موسكو منذ هجومها العسكري على أوكرانيا، ويصف هذا الحلف الصين كذلك، بأنها تشكل تحديا لأمنه وقيمه، وأنها دولة تسعى إلى تقويض النظام الدولي المبني على قواعد. مفارقة! وكيل بمكيالين، وتزوير للتاريخ وللحاضر، وما تلك القواعد في النظام الدولي، إلا مسار من الانتهاكات والتدخل في شؤون الدول، وتدميرها عسكريا، ولعل واقع أفغانستان والعراق، ودول أخرى عديدة في الشرق والغرب وفي أمريكا اللاتينية، أكبر شاهد على عصر هذا النظام الدولي الذي شكّله حلف الناتو، وما زال يتمسّك ببقائه كما هو، ويزيد من نسب التوتر العالمي، عبر تدخله في بحر الصين الجنوبي متعللا بتايوان، وإمعانه في التوسع نحو الشرق الأوراسي عبر ضم فنلندا والسويد، في اعتقاد من الحلفاء ضمن مفهومهم الاستراتيجي الجديد، بأنّ ذلك سيجعلهم أكثر أمنا، وسيزيد من قوة حلف شمال الأطلسي، وأمن منطقة أوروبا والأطلسي. وأوروبا في كل ذلك، تسير معصوبة العين في ركب أمريكا، وتتخلى عن فكرة الاهتمام بالاستراتيجية الأمنية الخاصة بها، لفصل الترتيبات الدفاعية للاتحاد الأوروبي عن حلف الناتو. وتسمح لأمريكا بمزيد التحكم في سياساتها الاستراتيجية، رغم ما تدفعه من أثمان باهظة في أزمات الغاز والطاقة والتضخم. التي لم تكن لتحدث لولا انقيادها الأعمى لرغبات واشنطن، وحربها الباردة المتواصلة ضد عدوها التقليدي روسيا الاتحادية، التي تستمرّ في مواجهة الانتشار المتزايد للهياكل الأطلسية إلى أوراسيا.
أوروبا تسير معصوبة العين في ركب أمريكا، وتتخلى عن فكرة الاهتمام بالاستراتيجية الأمنية الخاصة بها، لفصل الترتيبات الدفاعية للاتحاد الأوروبي عن حلف الناتو
ترامب كان محقا حينما أعلن أن الناتو عفا عليه الزمن، فالمناقشات في حسنات الديمقراطية وسيئاتها، لا معنى لها خارج مجال الدعاية الذي يردّده قادة الدول الأوروبية في حديثهم عن إشارة وحدة أرسلتها الديمقراطيات التي تقف في صفوف صلبة للدفاع عن النظام الديمقراطي، وقيم الحرية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان، والنظام الدولي المثبّت بقواعد، فالنتيجة، هي إطالة أزمة الأمن الدولي وتفاقمها، والتوتر مع بكين حول تايوان يتجه إلى التصاعد باستمرار، وأمريكا تعزز وجودها العسكري في أوروبا، وتجرّدها شيئا فشيئا من خيارات ذاتية مستقلة عن إرادة واشنطن، وقد أكّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بوضوح، أنه سيتمّ تعزيز الوجود العسكري والإمكانات العسكرية الأمريكية في إسبانيا وبولندا ورومانيا ودول البلطيق وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. واجب الدولة الامتناع، في تصريف علاقاتها الدولية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والتجارية، عن اتخاذ تدابير من شأنها أن تشكل تدخلا من أي نوع في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، فتمنعها بذلك من تقرير نموها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويشمل هذا، في جملة أمور، واجب الدولة في ألا تستخدم ضد دولة أخرى برامجها للمساعدة الاقتصادية الخارجية، أو أن تمارس ضدها أي انتقام أو حصار اقتصادي منفرد أو متعدد الأطراف، وأن تمنع استخدام الشركات عبر الوطنية والمتعددة الجنسية الخاضعة لولايتها وسيطرتها، أدوات للضغط أو الإكراه السياسي ضد تلك الدولة من يفعل ذلك ينتهك ميثاق الأمم المتحدة الذي نصّ على كل ما سبق. ومن الواضح اليوم أن هناك من يواصل انتهاك قواعد القانون الدولي ومواثيقه، ويمعن في ما ابتدعه من شرعية دولية موازية تقوم على قانون الهيمنة والتدخلات الانفرادية بدلا من شرعية الأمم المتحدة. والحرب الشاملة على سيادة الدول الوطنية هي تدمير مُمنهج للعلاقات الدولية بالأمس واليوم. وما يتجلى حتى الآن، هو كون بعض أجهزة منظمة الأمم المتحدة ما زالت حكرا على القوى الكبرى، على غرار مجلس الأمن، بالشكل الذي يجعل مبدأ المساواة لا يتماشى ومبادئ العدالة الدولية.
وبالمحصلة، «الناتو» أخفق في أن يكون الأداة الرئيسة لتحقيق النظام العالمي المطلوب، ومن هنا، فشلُ الوظيفة يدفعه إلى العودة إلى المهمة الأصلية المتمثلة في احتواء موسكو، لتواجه البلدان جميعا من دون استثناء في ظل ظروف الأزمة العالمية الحالية متعددة الأوجه أشد التحديات، وعوض البحث عن حل لمشكلة المناخ الذي يهدد البشرية، وعن طرائق جديدة فعّالة لتنظيم العلاقات الدولية، يلوّحون بالحرب النووية، ومزيد استعراض الأسلحة التدميرية.
القدس العربي