بعد اختراق سرب من الطائرات الصينية لأجواء تايوانفوق الجزيرة، لأول مرة منذ اختراقها لأجواء المياه الإقليمية التايوانية، تصاعد خطر الاشتباك العسكري بين “الصينيين”. ومما زاد في المخاطر، انتشار القطع البحرية الصينية حول كل سواحل الجمهورية التي تعتبرها بكين منشقة عنها منذ عقود. أي هناك احتمال لعملية تطويق وعزل للجزيرة مع ما يمكن أن يجر الولايات المتحدة للتدخل لفتح ممر مائي حيوي إذا تطور هكذا سيناريو. وهذا بدوره يزيد احتمال اصطدام أميركي – صيني غير معروف النتائج إذا حدث. بالإضافة، توجهت الأنظار إلى اليابان هذا الأسبوع بعدما أعلنت طوكيو عن عزمها نشر 1000 صاروخ كروز على أراضيها “للتوازن مع الصين”، وكان الأسطول الياباني قد أعلن أنه سيتزود بغواصات وقطع بحرية صاروخية متقدمة مما يشير إلى تصعيد محتمل على الخط الياباني – الصيني. إضافة إلى ذلك التبادل الدائم للتهديدات الحربية بين الكوريتين إما بضربات صاروخية أو جوية أو حتى عمليات اجتياح أرضية. ولا ننسى الاحتكاكات على حدود التيبيت بين الصين والهند، ورواسب مناوشات سابقة بين فيتنام والصين عدا عن العلاقات غير المستقرة بين الفيليبين والصين بسبب التحركات العسكرية في بحر الصين الجنوبي.
كل هذه الأوضاع المقلقة، لا سيما منذ انقسام مجلس الأمن بعد اندلاع حرب أوكرانيا في الشتاء الماضي، زادت في احتمالات الصدام بين الصين وإحدى هذه المحاور الآسيوية وبخاصة في تايوان. مع العلم أنه لدى بكين ميزان دقيق لاستعمال القوة العسكرية ولا تلجأ إلى خيارات كهذه إلا إذا كانت الأخيرة أو إذا دُفعت للتحرك العسكري على الرغم من مصالحها التجارية والاقتصادية. بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي تدخلت عسكرياً لعقدين في حربين وعمليات في عدة بقع من العالم بما فيها ليبيا وساندتها بريطانيا، وروسيا التي فجرت حرب أوكرانيا وتدخلت في سوريا، وحتى فرنسا التي شاركت في حروب الأطلسي في أفغانستان و ليبيا وأرسلت قوات تدخل إلى دول أفريقية عدة، الصين امتنعت في كل تلك المرحلة عن إطلاق حملات عسكرية خارج حدودها وركزت على التقدم الاقتصادي. إلا أن الأوضاع منذ الانسحاب الأميركي والأطلسي من أفغانستان واجتياح روسيا لأوكرانيا تبدلت وبدأت القيادة الصينية تلوّح بأعمال عسكرية “لمصلحة أمنها القومي” بغض النظر عن مصلحتها الاقتصادية المباشرة. إلا أن التحليل الاستراتيجي للتحركات الصينية لا يزال يعتقد أن بكين ربما تلوّح ولكنها لن “تخاطر” بمركزها المالي العالمي. إلا أن تحليلاً آخر يقول إن الحسابات قد تتبدل في ما يتعلق بتايوان وأن “الاحتمالات مفتوحة”. وهنالك منطق يقول إن الصين لن تفجر حروباً آسيوية بسبب اقتصادها، ومنطق آخر يقول إنها ستفتح حملات ميدانية عندما تكتمل الشروط الجيوسياسية. وأياً تكن القرارات النهائية للقيادة الصينية فالسيناريوهات المحتملة متعددة.
مقاييس “السيناريوهات”
المقياس الأول هو منع الاشتباك النووي. فكما كان الواقع خلال الحرب الباردة، قررت العواصم النووية أن الشرط الأول لأي حرب أو مواجهة عسكرية ألا يحدث ذلك صداماً نووياً. ومنذ حرب كوريا حيث تمنعت الولايات المتحدة عن استعمال قنابل ذرية ضد كوريا الشمالية والصين الشعبية، امتنعت هذه القوى العظمى عن البدء باستعمال سلاح من هذا النوع حتى الآن. وهذا المنطق، إلا إذا تخلت عنه القوى الكبرى فجأة، من المفترض أن يستمر. فلا بكين ولا واشنطن من المنطقي أن تلجَآ إلى النووي إلا إذا تم تهديد أراضيهما القومية مباشرة. لذلك فمن المفترض أن يحذف القصف النووي من أي سيناريو مجابهة استكمالاً لمنطق الامتناع. أما إذا حصل، فالسيناريوهات تتحول إلى مشاهد الهول الأعظم للبشرية ولن يكون هنالك لا غالب ولا مغلوب، لذا فالمنطق الإنساني المجرد، من المفترض أن يمنع افتراضيات كهذه.
المقياس الثاني هو النتائج الاقتصادية لأي حرب صينية – آسيوية، لا سيما إذا دخلتها أميركا اواليابان، سيكون لها نتائج صادمة على الصعيد المالي والاقتصادي ليس فقط في آسيا إنما في الغرب أيضاً. تصوروا رد فعل بورصة “وول ستريت” إذا انفجر الوضع في شرق القارة الآسيوية. إلا أن الخبرة التاريخية تقول لنا إن قرارات كبرى كهذه ولو كانت النتائج الاقتصادية سلبية، فقد تحسبها القيادة الصينية “ضرورية” كما اعتبرتها القيادة الروسية أيضاً “لا مفر منها” قبل دخول أوكرانيا. إذاً إطلاق حرب محدودة “لأسباب قومية” هي أمر ممكن، بغض النظر عن نتائجها الاقتصادية، لأن الاقتصاد يمكن ترميمه ولكن الهدف العقائدي القومي يصعب تعديله.
لذلك فما يمكن تخيله هو حرب أو سلسلة مواجهات للسيطرة على تايوان إذا قررت القيادة الصينية ذلك. وعلى هذا الأساس، إذا حصلت – والأمر غير محسوم – قد تتخذ أشكالاًعدة وتتطور عبر سيناريوهات عدة (War Games) كما أنتجتها تقييمات نظرية بحتة (Theoretical assessments) ولكن مبنية على دراسات لصراعات حصلت من قبل وتقييمات استخبارية.
السيناريو الأم والمتفرعات
تحاول الصين محاصرة تايوان بحراً وجواً من دون إنزالات، حتى تلزم تايبيه بالتفاوض. يطرح السؤال هنا إذا تتدخل أميركا بحراً وجواً لكسر الحصار. والجواب على هذا السؤال يحدد سؤالاً آخر، كيف يمكن تصور اشتباك أميركي – صيني، وإذا لم تقصف الصين تايوان ما رد هذه الأخيرة؟ وإذا قصفت الصين الجزيرة ما رد أميركا؟ ويأتي السؤال الأكبر إذا قامت الصين بإنزال على السواحل كيف ستكون الحرب ومن سيحسمها؟ وهل تتدخل الولايات الأميركية بقوات برية على أرض الجزيرة؟
سيناريو كوريا
إذا تفجرت الحرب الصينية على تايوان، هل تستفيد كوريا الشمالية وتشن حرباً على كوريا الجنوبية؟ أو هل ستشجع بكين القيادة الكورية الشمالية للقيام باجتياح فتضغط على واشنطن لتضع الأولوية في الجبهة: كوريا على حساب تايوان؟ هل تتدخل القوات الأميركية على جبهتين في تايوان وكوريا؟
سيناريو اليابان
إذا اندلعت حرب صينية في تايوان أو حرب كورية جديدة هل تهب اليابان لمساعدة حليفتيها؟ هل تقوم الصين بضربة وقائية ضد اليابان لتحييدها من الصراع؟ هل ترد اليابان بعمليات بحرية وجوية ضد الصين؟
سيناريوهات لا تنتهي ويبقى سؤالان كبيران. إلى أي مدى ستدخل واشنطن في هذه الحروب في ظل انقسام سياسي داخلي عميق؟ هل يستوعب الرأي العام الأميركي حرباً شاملة ولو غير نووية؟ وبالمقابل هل تحرك روسيا جبهتها الشرقية على المحيط الهادئ لدعم حليفتها الصين؟ وهل تتواجه روسيا والولايات المتحدة في مضيق بيرنغ؟
الخلاصة مفتوحة
لا يمكن التكهن بما تراه الصين، وكيف تحسب هذه الأخيرة أمام هذه النافذة التاريخية، وما هي نصائح الكرملين لها، أو نصائح البيت الأبيض لتايبيه. إنه باب الاحتمالات التي لا تنتهي لأن شيئاً ما انكسر في العلاقات الدولية منذ العام الماضي وهو قوة الردع المعنوي لأميركا. فهي لا تزال على قوتها ومعظم قوتها ليست مرئية بعد. إلا أن خصومها الكبار والصغار اعتبروا أن شيئاً ما قد تغير في واشنطن منذ الخضوع لمشيئة “طالبان” في العام الماضي والقبول بشروط إيران هذا العام. القوى المضادة لواشنطن تعتقد أن هنالك ثغرة في القرار الاستراتيجي الأميركي. قد تكون على صواب، وقد تكون على خطأ.
سنرى…