يكون قد جانب الصواب من يعتقد أن التصريحات عن “الأقطاب” التى أدلى بها بوتين في الأيام الأخيرة قابلة لأن توضع في وعاء التصريحات الإعلامية المعتادة من الكرملين، ظاهرها حقيقة ماثلة، باطنها كلام مطروح للاستهلاك المحلي، أو بعبارة أخرى، بروباغندا.
لن أقول إن بوتين هو الصواب عينه كما لن أقول أيضا إن زيلينسكي هوالصواب عينه. وبهذا الكلام أكون قد أمنت على أغلب المواقف العربية التي لن اختصرها في عبارة “اختارت ألا تختار” بقدر ما سأجملها في أنها استبقت للمستقبل مستحضرة دروس الماضي .
لن يكفي هنا تسويق الخطاب التقليدي بأن عددا من الدول العربية تتشارك المصالح الاستراتيجية مع روسيا اقتصاديا بل جيوسياسيا، لأن ظهور “عالم متعدد الأقطاب يضع نهاية للقرن الأمريكي” كما يرى بوتين أخذ يتطور بشكل مطرد”، نعم، لكن ليس وليد الفترة التي نعيشها بقدرما يضرب جذوره في سجل أرخ لإرهاصات هذه “النشأة المطردة” منذ ستينيات القرن الماضي في صورة مؤتمر دول عدم الانحياز، حيث عمل كل من جمال عبد الناصر ونهرو، الأبوان المؤسسان للحركة التي ستحمل هذا الاسم لاحقا، على تأصيل طريقا ثالثة تسرع مراقبون إلى حصرها ضمن خطوات متعثرة لعالم ثالث يبحث عن نفسه، بيد أن الحركة تحولت إلى “حركية” تنذر بظهور مجموعات وتكتلات منافسة لمجموعات المعسكر الغربي وتكتلاتها ستعتمد مبدأ التكامل كقاعدة مثل دول “بريكس” أو منظمة “إيكواس”.
نهج قديم جديد إذن يشق طريقه منذ زمن وليس منذ الآن. وإذا كان بوتين قد اختار منتدى “آرميا” العسكري ليتناول موضوع الأقطاب ( وهوموضوع جيوسياسي) من زاوية التعاون العسكري فلأن الزاوية توفر له فرصة ذهبية لتفعيل الكتل التي تساهم في فرض نظام عالمي جديد وفق نهج يعاكس تماما طبعا ما كنا قد اصطلحنا على تسميته بالنظام العالمي الجديد في التاريخ الحديث، أي تثبيت الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والسياسية العالمية بعد نهاية الحرب الباردة.
ليس الحديث عن تعدد الأقطاب والمنافسة الاقتصادية التي ستنجم عنه، أمرا جديرا بإقلاق المجتمع الدولي فالمنافسة، متى تكون شريفة تكون منتجة. لكن الأمر المحير هوالكيفية التي سيتمكن بها المجتمع الدولي من الحفاظ على توازن بين هذه الأقطاب لا يعيدنا إلى توازن الرعب
فتناول موضوع “الصناعات العسكرية والتعاون العسكري” و”إنشاء نماذج جديدة من الأسلحة والمعدات” يندرج ضمن رؤية روسية – صينية مشتركة للأمن الجماعي تمر عبر تفعيل مجموعات وكتل ومنظمات تساهم في نحت توازنات جديدة مثل منظمة شنغهاي للتعاون .
فإذا كانت حرب النفوذ التي تقودها روسيا والصين، معا حاليا لأن مصالحهما متقاطعة، تفرز واقعا ميدانيا انطلق بالنسبة لروسيا منذ أن ضمت شبه جزيرة القرم، ويتواصل الآن مع النزاع الأوكراني، ويتمظهر مؤخرا عبر استعراض الصين أسطوله البحري في عرض المياه الإقليمية ردا على ما اعتبرتها أزمة خلقتها زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، فليس المنحى العسكري سوى الوجه الظاهر من جبل الجليد…
فالوجه الآخر، الذي يفرض قراءة جديدة للتاريخ، يتجلى في صعود ما سأسميه “الرباعي الجديد” المتكون من روسيا والصين من جهة، ولكن أيضا من تركيا وإيران من جهة أخرى.
باتت تركيا لاعبا إقليميا نافذا في المنطقة فرض نفسه منذ حوالي عشرة أعوام، أي منذ بداية الحرب في سوريا، وقد تمثل تزايد نفوذها الجيوستراتيجي بتعاملها الحذر مع القضية الكردية التي لم تتخط فيها أبدا الإطار الذي رسمته كل من اتفاقية استانة وسوتشي، اللتين يمكن قراءتهما كإجازة روسية ضمنية لتحرك تركي بأريحية في المناطق الخاضعة للإدارة الكردية في شمال شرق سوريا.
كما كانت تركيا قد دخلت في مساومة شرسة مع المجموعة الأوروبية لمنع وصول اللاجئين السوريين إلى أبوابها، لتعود مؤخرا إلى تطبيق مقاربة العزف على وترين التي ألفناها منها جاعلة من النزاع الروسي الأوكراني أرضية لدعم عسكري للأخيرة دون أن تلحق في الوقت نفسه بركب الدول التي فرضت حزمة من العقوبات على روسيا.
هنا، تمثل القدرة التركية على الإمساك من المنتصف عمليا بالملفات الساخنة ورقة أساسية في يدها تقويها، عمليا أيضا، عضويتها في منظمة حلف شمال الأطلسي التي تضع الفرقاء في موقف حرج، فهم من جهة بحاجة إلى الدعم التركي في تنفيذ القرارات الجيوستراتيجية الأساسية في المنطقة، لكنهم مجبرون أيضا على ترخص مستمر مع قوة إقليمية تستمد نفوذها من تمايل دائم بين المعسكرين الغربي والشرقي.
أما الطرف الإيراني، فترسم الإفرازات الجيوسياسية لصعود هذه القوة الإقليمية في المنطقة ملامح أجندة لا يمكن للمعسكر الغربي الاصطفاف عليها، أكان الأمر متعلقا بضرورة إدخال قوة نووية صاعدة في نسق بروتوكولي يمنح من ناحية الثقة لإيران ويعطي للمجتمع الدولي من ناحية أخرى ضمانات الالتزام بالشرعية الدولية، كما يحتم البدء التدريجي برفع العقوبات بما فيها الخارجة عن اتفاق فينا، كالسماح بتصدير النفط الإيراني في سياق المعادلة النفطية والغازية العالمية الجديدة لأن خطوة من هذا النوع تصب في مصلحة الجميع.
وإذا كان بوتين قد أعلن عن “نهاية ما يسمى بالقرن الأمريكي”، فلا بد أيضا من الإعلان عن نهاية ما كان سماه بوش الابن بـ”محور الشر”
ليس الحديث عن تعدد الأقطاب والمنافسة الاقتصادية التي ستنجم عنه، وإن كانت شرسة، أمرا جديرا بإقلاق المجتمع الدولي فالمنافسة، متى تكون شريفة تكون منتجة. لكن الأمر المحير بكل تأكيد هوالكيفية التي سيتمكن بها المجتمع الدولي من الحفاظ على توازن بين هذه الأقطاب لا يعيدنا إلى توازن الرعب.
القدس العربي