في الوقت الذي يترقب فيه العالم بتفاؤل التوصل إلى توافق دولي بإحياء الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى، وينتظر الرد الأمريكي النهائي، تقوم إسرائيل بجهود محمومة للتخريب والتعطيل، وتحاول إقناع الولايات المتحدة بوضع شروط تعجيزية، تؤدي إلى إفشال الجهود الدولية المتقدمة لجسر الهوة بين الموقفين الأمريكي والإيراني. وبعد توالي الأخبار عن قرب التوصل إلى اتفاق، وفي إطار مساعي التخريب الإسرائيلية، سافر إلى واشنطن إيال حولاتا رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ولحق به الجنرال احتياط بيني غانتس وزير الأمن الإسرائيلي، بعد أن عدّل أهداف زيارته، وأضاف إليها جهود التخريب والضغط على الإدارة الأمريكية لتشديد موقفها ولإقناعها بالخروج عن «النص النهائي» الذي وضعه الأوروبيون، والذي وافقت عليه إيران مع بعض التحفظات غير الجوهرية.
يعود التحرك الأوروبي الأخير، الذي أفضى عن طرح «نص نهائي» للاتفاق، إلى تداعيات الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة، التي يعيشها العالم. ويأمل الأوروبيون أن يزيحوا عن الطاولة قضية مزعجة ومقلقة، للتفرغ للتحديات الروسية الكبرى، التي يرون فيها مسألة استراتيجية وقضية أمن قومي مشحونة بتوتر كبير وباحتمالات تفاقم أزمات عسكرية واقتصادية وسياسية. كما تأمل أوروبا في أن يؤدي رفع القيود على تصدير النفط والغاز من إيران، إلى خفض الأسعار، وإلى تجنب نقص في احتياجات الطاقة.
كابوس إسرائيل هو أن تكون هناك علاقات طبيعية وعادية بين إيران والعرب، ومن الأجدر عدم تخليصها من هذا الكابوس
كذلك تسعى الإدارة الديمقراطية في واشنطن إلى التخلص من الملف الإيراني، من دون «التنازل» عما يوصف بأن الأمن القومي الأمريكي، الذي يشمل عمليا الأمن الإسرائيلي، كما تراه المؤسسة الأمنية الأمريكية. وتبعا للرؤيا الاستراتيجية الأمريكية، التي تنطلق من أن المبدأ الناظم للسياسة الأمريكية هو محاصرة نهوض الصين وروسيا، فإن إبعاد إيران عن حضنهما هو هدف ومحرك للتوجه الأمريكي.
صرح عموس يادلين الرئيس السابق لجهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية، والباحث في معهد دراسات الأمن القومي، بأن مسؤولين أمريكيين من الإدارة ومن المؤسسة الأمنية يتهمون إسرائيل بالمسؤولية عن قيام ترامب عام 2018 بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ويقولون بأنه فعل ذلك استجابة لإلحاح إسرائيلي، وليس انطلاقا من اعتبارات الأمن القومي الأمريكي. ويبدو أن الإدارة الديمقراطية، التي أعلنت من اليوم الأول أنها تسعى إلى العودة إلى الاتفاق النووي، وعبّرت بصريح العبارة أنها لا توافق إسرائيل بهذا الشأن، تحاول عدم الرضوخ للضغوط الإسرائيلية وتوضح أن بايدين ليس ترامب. ومع ذلك استطاعت إسرائيل أن تقنع الولايات المتحدة بالتراجع عن شطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب، وكذلك أقنعتها بعدم التراجع عن تضمين الاتفاق الجديد، بندا خاصا باستمرار التحقيق في الأسئلة التي تطرحها الوكالة الدولية للطاقة النووية المستندة إلى الشكاوى الإسرائيلية عن خروقات ومخالفات «نووية» إيرانية في مواقع عدة. ويبدو أن الإدارة الأمريكية استجابت لهذين الشرطين، مع التأكيد أنهما يقعان خارج الاتفاق النووي الأصلي، الذي يدور الحديث عن إحيائه من جديد. ما من شك في أن مساعي رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، أثرت وحتى حسمت موقف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بإلغاء الاتفاق النووي. وترى إدارة بايدن أن إلغاء الاتفاق كان إحدى حماقات ترامب، وتجاهر برغبتها بتصليح ما أفسده «الرئيس الأحمق»، وهي لا تقبل بأن تكون السياسة الأمريكية، بخصوص هذا الملف، رهينة للموقف الإسرائيلي. كما أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست حكومة نتنياهو، وهي تعتمد الاتصالات السرية الهادئة، ومحاولات التأثير من خلال النقاش والإقناع، وهي لن تذهب، كما ذهب نتنياهو، إلى التحالف مع الجمهوريين ضد الإدارة الديمقراطية، والحديث عن أن الحكومة الإسرائيلية ستعمل ضد المرشحين الديمقراطيين هو هراء.
وإذ يذهب معظم المحللين والخبراء إلى أن التأثير الإسرائيلي في القرار الأمريكي بشأن الاتفاق النووي هو ضعيف وهامشي، فإن الأمور قد تتغير كثيرا تبعا لنتائج الانتخابات الإسرائيلية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، واحتمال فوز نتنياهو حليف الجمهوريين، وكذلك فإن الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، التي ستجري بعد أسابيع قليلة، قد تؤدي إلى فقدان الديمقراطيين للأغلبية في الكونغرس. وباختصار، إذا لم تحسم الإدارة الأمريكية موقفها بأسرع وقت، فإن الأمور ستكون لاحقا أكثر تعقيدا، هناك حاجة لتفكيك مقولة التأثير الإسرائيلي لتشخيصها وتحليلها ولربطها بالأهداف المعلنة وغير المعلنة، فماذا تريد إسرائيل من إيران؟
*أولا، تعتقد إسرائيل باستحالة المصالحة مع نظام الجمهورية الإسلامية، وهي تعول على المدى البعيد على تغيير النظام في إيران وتراقب عن كثب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإيراني وتعرف أن تأثيرها المباشر هامشي، ولكنها تسعى الى تشديد العقوبات، أملا في نشوء ظروف اقتصادية لا تحتمل تؤدي إلى إسقاط النظام. وفي مقالة نشرها موقع «تايم» مؤخرا، كتب إيهود براك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أن «آيات الله لن يحكموا إيران إلى الأبد، وتنهار مثل هذه الثورات في الجيل الثالث (مثل الشيوعية وغيرها)، والمجتمع الإيراني الشاب سيصل إلى هذه المرحلة خلال العقدين المقبلين.. علينا أن نقف ثابتين ونحتوي الجمهورية الإسلامية، فعاجلا أم آجلا سينهار النظام وسيبدأ فصل جديد».
*ثانيا، تسعى إسرائيل الى منع إيران من الوصول إلى توازن استراتيجي مقابلها عبر إنتاج أسلحة نووية، وهي تعتقد أن هذا السلاح يحمي النظام ويدعم دور إيران الإقليمي، ويجعل خصومها يترددون قبل القيام بأي خطوة ضدها. وقد عبّر أحدهم عن موقف التيار المركزي في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالقول: «حكام إيران متطرفون ومتعصبون، لكنهم ليسوا أغبياء ولن يقدموا على خطوة (استعمال السلاح النووي) من شأنها أن تعيد بلادهم إلى العصر الحجري». إسرائيل تستبعد جدا أن تلجأ إيران إلى قصفها بالقنابل النووية، لكنها تخشى أن يدفع امتلاك إيران لسلاح نووي دولا أخرى في المنطقة، وبالأخص تركيا ومصر والسعودية، إلى تطوير إمكانيات نووية عسكرية، ما قد يجعل المنطقة خطيرة جدا على دولة صغيرة بحجم إسرائيل.
*ثالثا، هناك قلق إسرائيلي شديد من رفع العقوبات عن إيران ورفع مدخولاتها بمئات المليارات، ما سيساهم في ارتفاع قدرات إيران في إنتاج وامتلاك أسلحة متطورة جديدة، خاصة في مجال الصواريخ الدقيقة، والمسيرات الهجومية، وسلاح البحرية. وهي تقوم بمحاولات حثيثة لفرض نظام حظر سلاح صارم، وتشديد العقوبات المفروضة على إيران، خاصة تلك غير المرتبطة مباشرة بالاتفاق النووي، والتي فرضها ترامب بعد خروجه منه، وتعتبرها إسرائيل غير متعلقة بالملف النووي. ولعل أكثر ما تخشاه إسرائيل هذه الأيام ليس العودة الى الاتفاق النووي، بل رفع العقوبات عن طهران وضخ الخزينة الإيرانية بمئات المليارات يُستعمل جزء منها لتطوير أسلحة ودعم حلفاء إيران في المنطقة، وزيادة المخاطر المحدقة بالأمن الإسرائيلي.
بالنسبة للاتفاق النووي ذاته، فإن تأثير إسرائيل عليه يقارب الصفر، لأن الولايات المتحدة تصر على عدم إدخال أية تعديلات عليه، وقد باءت بالفشل كل المحاولات الإسرائيلية لجعله أكثر تشددا وأكثر تقييدا للمشروع النووي الإيراني. ولكن في المقابل لإسرائيل دور وتأثير كبير في كل ما حول نص الاتفاق النووي، وهي تلعب الدور المركزي على مستوى العالم في التأليب ضد إيران وحشد الضغوط عليها. وعلى سبيل المثال فإن تحقيق الوكالة الدولية للطاقة النووية والأسئلة التي تطرحها على الطرف الإيراني، هي من الألف إلى الياء صناعة إسرائيلية خالصة، وحين يقول المتحدث الإيراني، إن هذا التحقيق هو من صنع إسرائيل فهو يصيب كبد الحقيقة. كما تقوم إسرائيل بتحضير ملفات تأثير العقوبات على إيران، وأي منها يؤثر فعلا، وتقدم اقتراحات مفصلة حول تشديد عقوبات قائمة وفرض عقوبات جديدة.
لم تكن زيارة غانتس إلى الولايات المتحدة معدة للتعامل مباشرة مع الملف النووي الإيراني، بل خططت لاجتماعات في قيادة المنطقة الوسطى (الشرق الأوسط) في فلوريدا، لتخطيط التعاون الأمني الإقليمي بمشاركة إسرائيلية وعربية تحت مظلة أمريكية. وتخشى إسرائيل من أنه في حال التوصل لاتفاق مع إيران سيفتر الحماس العربي للتعاون معها، لذا هي تريد من الولايات المتحدة أن تدفع لها ثمن الاتفاق، وما يتبعه من زيادة في التحديات غير النووية، وذلك عبر الضغط على العرب ليزيدوا تعاونهم معها، وعبر تزويدها بأسلحة ومعدات متطورة بنوعيات غير مسبوقة وبكميات هائلة لمواجهة سباق التسلح والتحديات العسكرية، التي يفرضها ارتفاع منسوب التأثير الإيراني. وقد بدأ الفأر يلعب في العب الإسرائيلي، بعد إقدام الكويت على إعادة سفيرها إلى طهران، ونية الإمارات الإقدام على الخطوة نفسها، وتتابع الأخبار عن تحسن في العلاقات السعودية الإيرانية. إن كابوس إسرائيل هو أن تكون هناك علاقات طبيعية وعادية بين إيران والعرب، ومن الأجدر عدم تخليصها من هذا الكابوس.
القدس العربي