في تصريح لافت تناقلته وسائل الإعلام على نطاق واسع، قال مدير الإدارة العامة للأمن الخارجي الفرنسي (رئيس الاستخبارات) إدوار باغوليه “الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى، ودول مثل العراق وسورية لن تستعيد حدودها أبداً”.
التصريح مهم في معناه وفكرته، وفي الشخص الذي أطلقه، والمكان الذي قيل فيه، فهو صدر في مؤتمر حول الأمن، نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأميركية، وشارك فيه رؤساء كبرى أجهزة الاستخبارات في العالم، ووافق عليه رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، جون برينان، والذي قال: “أجل الشرق الاوسط انتهى، وأشك أن يعود مجدداً”.
ما يلفت في التصريح المثير عبارة “الذي نعرفه”، فهل حقاً يعرفونه؟ وهل يصح منطقياً أن ينتهي لو كانوا يعرفونه؟ أو لنكتب السؤال بطريقة أكثر تشككاً، وأقرب إلى حس المؤامرة الذي “لا يعرفونه في الشرق الأوسط”، إذا كانوا يعرفونه، فهل كان له أن ينتهي، لولا أنهم أرادوا نهايته؟ أو ربما خططوا لها؟ أو ساهموا فيها؟
أشك من حيث المبدأ في أن أحداً في العالم يمكنه أن يعرف الشرق الأوسط أو يفهمه، لا أجهزة استخبارات، ولا علماء اجتماع ولا فلاسفة ولا غيرهم، فهذه المنطقة من العالم التي تختلط فيها العجائب بطريقةٍ، لا توجد في أي مجتمع بشري.
أعرف طبعاً أن كل المجتمعات البشرية، أو معظمها على الأقل، خليط من الأعراق والقوميات والديانات والثقافات، وخصوصاً المجتمعات الجديدة، كالأميركي والكندي والأسترالي وغيرها، وأن المجتمعات الأوروبية خليط ثقافي متنوع، استقر مع مرور السنين، بعد أن جرب كل أنواع الحروب والخلافات. ولكن، للشرق الأوسط خصوصية في تنوعه، لا تشبه شيئاً. ولننظر إلى الشرق الأوسط اليوم، ولنقارن الأسواق المشهورة الموجودة فيه، فهي ربما تقدم لنا نموذجاً لهذا التنوع.
أسواق دمشق، مثالاً، هي تاريخية، تنتمي بعمارتها وشكل متاجرها ومشاهد باعتها ولغتهم وبضاعتهم إلى القرن الثامن عشر، وهي أسواق نشأت قبل ذلك بكثير، لكنها أخذت شكلها الحالي في القرن التاسع عشر، ثم حافظت عليه، وهي أسواق تحتوي البضائع المشغولة يدوياً، وكذلك البضائع المصنوعة في الصين، وغير بعيد عنها في بيروت، مثلاً، هناك سوق البارات والمشروبات والسهر واللهو، وهو يشبه شوارع اللهو الأوروبية في منتصف القرن العشرين. إلى الشرق قليلاً هناك سوق السلاح في العراق، ويمكنك فيه أن تشتري أي نوع تريد من السلاح، حتى المدفع والدبابة. جنوباً تقع دبي، وفيها أسواق هي مولات ضخمة، بل فائقة الضخامة، تتجاور فيها أشهر الماركات العالمية وأحدث التقنيات والموديلات، وهي أسواق تنتمي إلى ما بعد العقد الذي نعيش فيه، وهي تشبه المدن الكبرى، كما ستصبح أسواقها بعد عقد أو عقدين. على بعد كيلومترات قليلة، تحولت إمارة أخرى، هي الشارقة، إلى سوق ثقافي يحفل دائماً بالمهرجانات ومعارض الكتب والمؤتمرات الثقافية والاحتفالات، وتوزيع الجوائز الأدبية، غير بعيد عنها، هناك سوق المال والمصارف في المنامة التي ثبتت نفسها مدينة للمال في منطقة الخليج. وفي القاهرة، هناك سوق غير معلن وغير رسمي، يقع في الشوارع الخلفية والحارات الضيقة، تباع فيه كل أنواع المخدرات، لا سيما الحشيش والبانغو، ويمكن أن يحصل عليها بسهولة أي راغب.
نعود إلى الشرق، لنجد، في الموصل، سوقاً للجواري، تباع فيه النساء الأسيرات والمخطوفات من سورية والعراق، كما كان يحصل في “الشرق الاوسط الذي يعرفونه” قبل الإسلام، وحتى بالشكل واللباس وطريقة البيع التي كانت سائدة آنذاك.
ما زال النظام السوري، وبعد خمس سنوات، مستمراً في محاولاته لإعادة فتح سوق المزايدات القومية، وبيع الشعارات والوهم، وتجار الدين في معظم الشرق الأوسط ما زالوا يبيعون بضاعتهم على الفضائيات، وعلى المنابر وفي الدوائر الاجتماعية المختلفة، ويحيلون حياة الناس جحيماً، ويزرعون فيهم الكراهية والحقد والعنف، عبر إيقاظ خوفهم من الآخر، وتكفيرهم له.
سوق الجواري وسوق الشعارات وسوق الدين، كفيلة بإسكات أي شخص في العالم يريد أن يستخدم تعبيراً مجافياً للحقيقة، مثل “الشرق الأوسط الذي نعرفه”.
علا عباس
صحيفة العربي الجديد