بدأت الثقة تعود تدريجياً للاستثمار بأسواق المال العالمية استناداً لما طرأ من تحسن كبير في المؤشرات الرئيسية بالبورصات العالمية، ولكن هل خرجت الأسواق من “عين العاصفة” التي ضربتها بسبب جائحة ” كوفيد 19″ وما تلا ذلك من تداعيات العزل الاجتماعي وإغلاق الاقتصاديات، ومتى سيعود الانتعاش إلى الأسهم العالمية؟
هذا هو السؤال الذي يبحث البعض عن الإجابة عنه في أسواق المال، ويتم تداوله بين كبار المستثمرين في الأسهم، خاصة في أميركا وأوروبا اللتين تقودان عادة دورات الانتعاش أو التصحيح.
المؤكد حتى الآن هو أن العالم بدأ بالخروج من الإغلاق في أوروبا وأميركا وآسيا، وأن الثقة بدأت تعود تدريجياً لقيادات الأعمال التجارية والمستهلكين في العديد من أنحاء العالم، وفقاً للمسوحات التي نشرت نتائجها حتى الآن، ومنها المسح الذي أجرته شركة “ماكينزي آند كومباني” الأميركية، ونشرت نتائجه يوم الأربعاء على موقعها.
وأظهرت نتائج المسح الذي شمل ثلاث قارات، أن قيادات الأعمال التجارية ومديري الشركات بدوا أكثر تفاؤلاً خلال شهر مايو/ أيار الجاري في المستقبل المالي والاقتصادي مقارنة بما كانوا عليه من التشاؤم في شهر إبريل/ نيسان السابق، كما بدوا كذلك أقل قلقاً من تداعيات الجائحة على صحتهم عما كانون عليه في الأشهر الماضية.
ويشير المسح إلى أن الشركات في كل من آسيا وأميركا وأوروبا بدأت تجري تعديلات في المكاتب وأماكن العمل ضمن الاحترازات الصحية، وهو ما يعني أن عالم المال والتجارة يعد نفسه تدريجياً في الوقت الراهن للتعايش مع الظروف الجديدة التي نشأت مع جائحة كورونا، وأن المعنويات على المستوى التجاري والاستهلاكي بدأت تتجه نحو التحسن، وأن هنالك نوعاً من التفاؤل مقارنة مع موجة التشاؤم التي سادت العالم في الأشهر الأولى من العام.
وحسب مسح “ماكينزي آند كومباني”، فإن عالم التجارة والصناعة يعيش مرحلة تحول استراتيجية في الوقت الراهن ويتحول تدريجياً من”المقاومة السلبية” المتمثلة في العزل الاجتماعي والإغلاق الاقتصادي في تعامله مع الجائحة إلى استراتيجية “العودة الإيجابية”، مع الأخذ في الاعتبار الاحتياطات الصحية التي تضمن عدم عودة انتشار الفيروس.
وفي هذا الشأن، أظهر المسح الشهري للمفوضية الأوروبية، أمس الخميس، أن المعنويات الاقتصادية في دول منطقة اليورو تحسنت إلى 67.5 نقطة هذا الشهر من أدنى مستوى على الإطلاق عند 64.9 في إبريل/ نيسان، بسبب التفاؤل في أوساط الصناعيين والمستهلكين. ولكن المخاوف من تجدد ارتفاع عدد الإصابات بالفيروس لم تنته بعد، حيث تجاوز عدد الإصابات 5.6 ملايين في العالم، كما تجاوز عدد الوفيات 356 ألف وفاة.
من جانبها، ترى شركة “آي جي” اللندنية المتخصصة في الخدمات المالية”، أن “من الصعوبة التنبؤ بالزمن الذي ستعود فيه أسواق المال لوضعها الطبيعي، ولكن المؤكد أن الثقة بدأت تعود للمستثمرين”.
على صعيد مؤشرات أسواق المال الكبرى، يلاحظ أنها بدأت تستعيد جزءاً من خسائرها التي تكبدتها في الأشهر الأربعة الأولى من العام، خاصة خلال فترة الانهيار الكبير بين فبراير/ شباط ومارس/ آذار. وكمثال على ذلك، فإن مؤشر “ستاندرد آند بورز ــ 500” الأميركي، هبط من 3380 نقطة في فبراير، بنسبة 30%، إلى أقل من 2000 نقطة في مارس، وذلك في مدة 23 يوماً فقط. كما انهارت مؤشرات أسواق المال العالمية في أوروبا وآسيا بمعدلات مشابهة.
ولكن منذ ذلك الوقت استرجعت أسواق المال جزءاً كبيراً من خسائرها، إذ صعد مؤشر “ستانادرد آند بورز ــ 500” إلى ما فوق 3000 نقطة، يوم الأربعاء، كما أن مؤشر داو جونز أغلق كذلك فوق 2500 نقطة، لأول مرة منذ مارس/ آذار. وهذه المعدلات لا تبتعد كثيراً عن مستوياتها القياسية قبل الانهيار الذي سببه إغلاق الاقتصادات وتعطل حركة السفر والتجارة.
كما ارتفعت مؤشرات الأسهم في البورصات الرئيسية في آسيا وأوروبا. إذ قفز المؤشر نيكاى الياباني، أمس الخميس، متخطياً مستوى المقاومة الفني الرئيسي لمتوسطه المتحرك في 200 يوم. كما ارتفع مؤشر “ستوكس 600” الأوروبي وبلغ ذروته في تعاملات الأسبوع الماضي، وواصل الارتفاع حتى نهار أمس، الخميس. وبالتالي تشهد أسواق المال دورة ارتفاع سريعة حتى قبل الافتتاح الحقيقي للاقتصادات، وهو ما يعكس المعنويات المرتفعة للمستثمرين.
وفي تعليقه على الارتفاع الكبير الذي تشهده البورصات العالمية، قال كبير مديري الاستثمار بشركة “يو إس بنك ويلث منجمنت” الأميركية، بيل نورثي: “هذا الارتفاع يحدث بسبب التفاؤل حول فتح الاقتصاد الأميركي والاقتصادات العالمية”.
ومقارنة بدورات الكساد السابقة والأزمات المالية خاصة تلك التي شهدها العالم في العامين 1929 و2008، تشير التوقعات إلى تعاف سريع. ففي العام 1929، تمكنت سوق وول ستريت من التعافي وعادت إلى طبيعتها خلال 17 عاماً. ولكن هذه الفترة شهدت الحرب العالمية الثانية التي ساهمت في تأخير الانتعاش، رغم أن الحرب ساهمت في النمو الاقتصادي الأميركي عبر تحفيز الصادرات إلى أوروبا ودول التحالف.
وفي أزمة المال العالمية في العام 2008، عادت بورصة “وول ستريت” للتعافي خلال قرابة خمسة أشهر ونصف، وبالتالي فإن التوقعات تشير إلى أن هذه الدورة ربما ستأخذ فترة أقل من ذلك، وسط الارتفاع السريع في مؤشرات أسواق المال. ولا يستبعد خبراء أن تستعيد مؤشرات “وول ستريت” مستوياتها المرتفعة خلال الخريف المقبل، في حال لم تحدث انتكاسة جديدة في إصابات جائحة كورونا.
وتستفيد أسواق المال العالمية والاقتصادات الكبرى خلال دورة الانهيار هذه من موجات تحفيز ضخمة قدمتها الحكومات والبنوك المركزية العالمية، بلغت حتى الآن أكثر من 12 ترليون دولار. كما واصلت البنوك المركزية الكبرى في أميركا وأوروبا وآسيا دعم المصارف والشركات عبر شراء السندات وتأمين تدفقات النقد عبر “خطوط الائتمان” وبمبالغ مفتوحة، وهو ما شجع المستثمرين على الاستمرار في عمليات التداول على الرغم من إغلاق الاقتصادات وتوقف الحركة الاستهلاكية.
وحسب شركة “آي جي” المالية البريطانية، تختلف دورة الكساد التي خلقتها جائحة كوفيد 19 في أسواق المال، عن دورات الكساد السابقة في أن مؤشرات الأسواق انهارت بسرعة وفي فترة زمنية وجيزة جداً، إذ تحولت المؤشرات الرئيسية من الارتفاع القياسي إلى الانهيار خلال حوالى شهر واحد.
كما تختلف كذلك عن سابقاتها في أنها لم تحدث بسبب إفلاسات البنوك أو المؤسسات المالية، وإنما حدثت بسبب خارجي وهو جائحة كوفيد 19. وبالتالي فإن هنالك تفاؤلا في خروج سريع للأسواق المالية من الكساد مدفوعاً بآمال عودة الأنشطة الاقتصادية لوضعها الطبيعي بسرعة وسط اقتناص المستثمرين للأسهم التي شهدت انخفاضات حادة، مثل أسهم القطاع المالي وقطاع الطاقة.
ولكن رغم هذا التفاؤل، ترى شركة “آي جي” البريطانية للخدمات المالية في تحليل، يوم الأربعاء، أن دورة الكساد الحالية تمثل ظاهرة جديدة يصعب التنبؤ بتحديد نهاية لها وعودة الاقتصادات للنمو، وبالتالي فإن عودة الثقة الاستثمارية لأسواق المال، لا تعني أن المخاطر من موجة تفش جديدة للفيروس التاجي قد ولت، أو أن الأسواق عادت للتداولات العادية أو للانتعاش السريع، إذ إن التوقعات تشير إلى أن الركود الاقتصادي الذي يعيشه العالم في الوقت الراهن والتبعات المالية التي تكبدتها الشركات والأعمال التجارية ستواصل تأثيرها السالب على دورة الانتعاش في أسواق المال.
وإن كانت التوقعات متباينة حول المدة والحجم الذي سيأخذه الانتعاش، إلا أنَّها جميعاً تتفق على نقطة واحدة وهي أنه ستكون للركود الاقتصادي تداعيات خطيرة على المجتمع، وسيحتاج الاقتصاد لبعض الوقت ليعود إلى المستوى الذي كان عليه قبل الأزمة. وفي حين أنَّ الأزمة الصحية قد تستمر بعض الوقت، فإنَّ الأزمة الاقتصادية التي خلفتها ستدوم وستمتد بلا شك لعدة سنوات.
العربي الجديد