من المتوقع في البيئة الدولية أن تتأرجح العلاقات بين الأطراف المختلفة من حين لآخر بمقتضى تغير أهداف تلك الأطراف أو زوال دوافع إقامتها، أو كما يقول مكيافيللي “عدو اليوم قد يصبح صديق الغد، وصديق اليوم قد يصير عدو الغد”. ومع تتبع تاريخ العلاقات الصينية-الروسية نلاحظ ذلك بوضوح؛ فقد بدأت العلاقات بين الاتحاد السوفيتي السابق وجمهورية الصين الشعبية بشكل ودي منذ قيامها عام 1949 بقيادة ماوتسي تونج، وذلك حتى وفاة الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين، ومن ثم خلفه نيكيتا خروتشوف عام 1953، الذى اتبع سياسة التعايش السلمي تجاه الغرب خلاف سياسة احتدام الصراع مع الغرب التى اتبعها سابقه، ما أدى إلى تدهور العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية من ستينيات القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينيات، والتى كان أبرز حلقاتها الصراع حول جزيرة “دامانسكي”.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، عادت العلاقات بين الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية مرة أخرى، بالإضافة إلى ترسيم الحدود بينهما لتجنب الخلافات السابقة. إلا أنها ظلت في حالة من السكون إلى أن تم عقد اتفاق شراكة استراتيجية عام 1996، ثم معاهدة صداقة وتعاون عام 2001. فمع تسلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زمام الحكم، سعى نحو التصدي للقوة الأمريكية المهيمنة على العالم، فأقدمت الدولتان على عقد اتفاقية “حسن الجوار والصداقة والتعاون” عام 2001 التى تهدف بالأساس إلى التصدي للنفوذ الأمريكي، كما تهدف إلى توثيق العلاقات الثنائية بين الدولتين في شتى المجالات المختلفة، وقد بدأت هذه الاتفاقية تؤتى ثمارها عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، حيث كانت الصين الداعم الأكبر للاتحاد الروسي في مواجهة عقوبات الغرب القاسية، خاصة في الجانب الاقتصادي مقابل مجموعة من التنازلات والامتيازات الخاصة التي كان يتعين على روسيا تقديمها للاستثمارات الصينية داخل روسيا، كما تحولت معظم النشاطات التجارية الروسية تجاه بكين التي استحوذت على ما يربو على 10% من حجم التجارة الخارجية الروسية عام 2014 التي ظلت في تنامي مستمر، كما أصبحت التكنولوجيا النووية مسارا للتعاون بين البلدين؛ ففي عام 2017 تم عقد اتفاق بين بكين وبين مؤسسة “روساتوم” الروسية لإقامة أربع محطات نووية داخل الصين.
وبالرغم من الشعارات المناوئة للأحلاف السياسية التي انتهجتها كل من روسيا والصين في مواجهة حلف شمال الأطلسي (NATO) وتوسعه تجاه الشرق، إلا أنهما لم ينفيا إمكانية إنشاء حلف عسكري بينهما، بل كانتا دائمي التأكيد على أن العلاقات الودية بين روسيا والصين ليست لها حدود، الأمر الذي دعا إلى تمديد اتفاقية “حسن الجوار والصداقة والتعاون” عام 2021، مع تأكيد على إمكانية تكوين تحالف عسكري ثنائي بين البلدين لمواجهة أية تهديد لأمن ومصالح أحد الطرفين، وهو ما تبعه العديد من التدريبات العسكرية الثنائية بين البلدين المتزايدة باستمرار. ومع وقوع الحرب الروسية-الأوكرانية، اتخذت بكين موقفا حذرا؛ فهي لم تؤيد السياسة العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا مؤكدة على احترامها لسيادة الدولة وسلامتها الإقليمية، إلا أنها في ذات الوقت لم تدين موسكو وطالبت بتفهم مخاوفها حول أمنها القومي، كما لم تشارك الغرب في العقوبات المفروضة على روسيا، بالإضافة إلى أن بكين لم تكذب المعلومات الروسية المعلنة حول الأبعاد العسكرية في برامج الأبحاث البيولوجية في أوكرانيا كما فعل الغرب رغم الضغوطات عليها، وهذا يعد تأييدا غير مباشر من بكين لموسكو، مع الحذر من التعرض لاتهامات بانتهاك سيادة الدول والشرعية الدولية بما يهدد مكانتها العالمية التي تطمح إليها.
وفى 4 فبراير 2022 تم عقد قمة ثنائية بين بكين وموسكو تحت شعار “إلى دخول العلاقات الدولية عهدا جديدا”، معلنين انتهاء عهد الهيمنة الأمريكية وبداية نسق دولي متعدد الأقطاب، يحترم سيادة الدول ولا يسمح فيه بنشر الأفكار المذهبية والأيديولوجية على الدول قسرا، كما أكدا على تعميق التعاون في شتى المجالات، وقد رصدت المؤسسات التجارية زيادة 27.8% في حجم التجارة الثنائية بين البلدين خلال الفترة التي أعقبت الحرب الروسية-الأوكرانية، لتحل الصين محل الاتحاد الأوروبي كأكبر شريك تجاري لروسيا.
دوافع التقارب:
يرى العديد من المتابعين للعلاقات الصينية-الروسية أنها ستصل إلى حالة من التحالف شبه الدائم، نتيجة الزيارات المتبادلة وإعلان الثقة المتبادل خلال العديد من المحافل الدولية، ويبررون ذلك بتنامي العلاقات بين الجانبين بشكل ملحوظ منذ إعلان الجانبين نفسيهما شريكين استراتيجيين عام 1996 وحتى الوقت الراهن، مروراً بالعديد من الاختبارات بشأن العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا أكثر من مرة، وكذلك الدعم الروسي لبعض القضايا المتعلقة بسيادة الصين باستخدام حق الفيتو، خاصة تلك المتعلقة بمنطقة بحر الصين الجنوبي. وفيما يلي أبرز الدوافع التي تعمل على بقاء العلاقات بين الجانبين في حالة استقرار وتفاهم:
· التصدي للهيمنة الأمريكية المتزايدة: حيث تشترك كلتا الدولتين في معارضة سياسات التحالفات الأمريكية في مواقع يعتبرها كل منهما مناطق نفوذ خاصة به؛ فموسكو ترى أن حلف شمال الأطلسي (NATO) يمثل تهديدا كبيرا لأمنها القومي بما يسعى إليه من ضم الدول المجاورة لها والتوسع على حساب نفوذها في الغرب. أما بالنسبة لبكين، فترى ذات التهديد من جانب شبكات المعاهدات الدفاعية التي تقيمها واشنطن مع دول الجوار في منطقة المحيطين الهادى والهندي، وأبرزها رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، كما عمق هذا الترابط العزلة التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرضها على كلتيهما بشكل مستمر.
· التشابه بين قضيتي تايوان وأوكرانيا: فبينما ترى موسكو أن الأراضي الأوكرانية جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الروسية لوحدة التاريخ والهوية، وتعتبرها موقعا استراتيجيا لحماية أمنها القومي، كذلك ترى بكين أن تايوان تمثل جزءاً من الأراضي الصينية، كما تنادي دوما بوحدة أراضيها التي تضم العديد من العرقيات والهويات المتباينة، كما أن ظروف كلتا الدولتين التي تضم بداخلها العديد من الهويات لا تسمح بالتهاون في المسائل المتعلقة بوحدة أراضيها والتصدي لأية تدخلات أجنبية.
· الاستثمار وظروف الاقتصاد الروسي: فبينما الصين مكتظة بالشركات النامية القادرة على الدخول بقوة في استثمارات حيوية، نجد روسيا، لاسيما بعد خروج العديد من الشركات الأجنبية، أصبحت في حاجة ملحة إلى تلك الاستثمارات التي تعيد بناء الدولة مرة أخرى، كما توجد قطاعات تحتاج إلى الحضور الصيني بها كقطاعات التعدين والتكنولوجيا والمشروعات الخدمية والصناعات التقنية، وهذا قد يمثل أحد محاور التعاون المشترك بين كلتا الدولتين.
· الروابط الشخصية بين الرئيسين بوتين وشي جين بينج: فكلا الرئيسين أظهرا تصميما على السعي قدما تجاه تعاون البلدين، رافعين شعار “علاقة بلا حدود” كما اشتركا في رغبة التصدي للنفوذ الأمريكي في السيطرة على العالم، هذا إلى جانب التشابه الكبير في ظروف نشأة كل منهما، بالإضافة إلى التقارب في سياسات كل منهما داخليا، والطامحة إلى الانفراد بالسلطة وتراجع المعارضة. وخارجيا، تسعى إلى الصعود ببلديهما على رأس منظومة النسق الدولي.
معوقات في طريق تطور العلاقات:
من ناحية أخرى، نجد أنه رغم الاتفاق بين موسكو وبكين على التوجهات الأساسية والمحاور الرئيسية للسياسة الدولية إلا أنه من الملاحظ أيضا أن العلاقة بين الجانبين لم تبلغ حد التوافق التام، بل يوجد مجموعة من العقبات أمام ذلك التكامل شأن بعض النزاعات الحدودية أو القضايا الأيديولوجية التي لم يتم تسويتها بشكل كامل فيما بينهما، كما توجد مجموعة من العقبات التي ينظر إليها بعض الباحثين على أنها تمثل حائل أساسي لاندماج روسي-صيني بشكل كامل مثل:
· تعارض الأهداف القومية الخارجية: لا شك فى أن الأحلاف الدولية تتبدل دوما لتحقيق أهداف الدولة خارجيا. فبينما تشكل التهديدات الأمريكية دافعا رئيسيا لكلتا الدولتين لتلاشي الخلافات فيما بينهما، إلا أنه في حال تخلى أحد الطرفين عن التصدي للولايات المتحدة ستظهر حينئذ خلافات فى شأن التعارض بين أهدافهما؛ فنجد أن هدف موسكو في الترقي داخل النسق يرتبط بقدرتها على التصدي للتحديات الخارجية، سواء كانت مرتبطة بالسياسات الأمريكية والتدخل في مناطق النفوذ الروسي، أو تلك المرتبطة بتنامي قدرات الصين السريع. فكما يمثل (NATO) تهديدا لمصالح روسيا الخارجية، فإن مشروع “الحزام والطريق” الصيني يمثل عقبة كبيرة أمام مشروع روسيا “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” الذي يهدف لحماية مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية ذات الطابع الجيوسياسي.
· التكلفة الباهظة التي يتحملها الاقتصاد الصيني: نظرا للمكانة الاقتصادية للصين خلال الوقت الراهن التي تشكل في المقام الأول المحدد الأساسي لسير السياسة الصينية الخارجية، ونلاحظ ذلك من حذر السياسة الخارجية الصينية في التعامل مع الأزمات الدولية التي قد تؤثر بشكل سلبي فى النشاط الاقتصادي لها، كما حدث في أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية. فبينما تمثل روسيا حليفا استراتيجيا للصين إلا أن بكين لم تتجرأ على دعم روسيا بشكل مباشر، وذلك لعدة أسباب منها؛ أنه رغم أن الصين تمثل الشريك التجاري الأول لروسيا بحجم 147 مليار دولار لعام 2021 التي من المستهدف أن تصير بحجم 250 مليار دولار عام 2025، إلا أن هذه التجارة لا تمثل سوى 2.5% من التجارة الخارجية للصين. بينما تجارة الصين مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين تبلغ 1584 مليار دولار، أي 27% من حجم تجارة الصين الخارجية. ومن ناحية أخرى، فإن العلاقات الصينية-الأوكرانية كانت تمثل علاقات ودية إلى حد كبير نتيجة التبادل التجاري بينهما، بالإضافة إلى استيراد الصين للعديد من السلع الأوكرانية، وعلى رأسها المعدات التقنية العسكرية المستخدمة في صناعات الطيران الحربي وأنظمة الرصد الراداري ومعدات الحرب الإلكترونية، بجانب الاستثمارات الصينية في مجالات الطاقة والتعدين والنقل البحري والإلكترونيات، كما تمثل أوكرانيا منطقة حيوية في مشروع “الحزام والطريق” الصيني، ما كان يدفع الصين للاستثمار بكثافة في البنية التحتية الأوكرانية، وبالتالي فإن العائد المتحصل للصين نتيجة دعم روسيا في سياستها العنيفة لن يوازي حجم تكلفة ذلك الدعم.
· السياسات الاستثمارية الروسية: التي عُبر عنها في خطة “الأهداف القومية ومهام التنمية الاستراتيجية لروسيا الاتحادية حتى عام 2024” والتي تستهدف خفض معدلات الفقر، ورفع مستويات الدخل والمعيشة، وتحسين التعليم، وحماية الصناعات الاستراتيجية، وتوطين الإنتاج، وكل ذلك يسعى لاستعادة مكانة الدولة الروسية عالميا، ولذا نجد أن روسيا لم تف بتحقيق التزاماتها تجاه الشركات الصينية بتقديم تنازلات وامتيازات لها وإعفائها من بعض الرسوم والجمارك، حتى لا يكون لها ميزات تنافسية في مواجهة الشركات الروسية كاستجابة لمطالب اتحاد العمل الروسي (KRT)، ما أدى إلى استياء عديد من الشركات الصينية كتلك التي انسحبت من روسيا فور العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها بعد الغزو الأوكراني، والتي ترى أن فرص الاستثمار في دول أخرى سيعود عليها بعوائد أكبر وبشكل أكثر راحة من الاضطرابات داخل السوق الروسية.
· سياسات توازن القوى: وفقا لنظرية توازن القوى التي قدمها أورجانسكي، فإن وصول دولة إلى موقع القيادة في النسق الدولي يوازيه هبوط أو فقدان دولة أخرى لموقعها فيه، وبالتالي فإنه من مصلحة أية دولة أن تبقى في حال من التفوق النسبي على غيرها من الدول. وهو ما يظهر في مواقف روسيا من الصين، حيث تسعى للحصول على منافع من تلك العلاقة دون تقديم تنازلات موازية، وهو ما ظهر في محادثات صينية ترى أن “روسيا حصلت من الصين بعد تدهور العلاقات مع الغرب أكثر مما تلقته الصين من روسيا”، كما يظهر من عدم تقديمها تسهيلات للاستثمار الصيني في شرق سيبيريا، خوفا من تغلغل الصينيين بها، نظراً لأزمتها الديموجرافية، كما يظهر ذلك أيضاً من سياسات الصين خلال أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية التي لم تكن لتتردد في التخلي عن حليفتها في سبيل الحفاظ على مصالحها الدولية، هذا بالإضافة إلى موقف كل من الدولتين من بعض القضايا الاستراتيجية شأن الصراع الهندي-الباكستاني والذي شكل في بعض الأوقات دافعا لتدهور العلاقة بين البلدين.
ختاما، تمثل الخلافات الروسية-الصينية تهديداً ثانوياً لكلتيهما مقارنة بالتهديد الرئيسي المتمثل في انفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم، فتتلاشى أمامه، إلا أنه من الملاحظ أن دوافع التقارب بين الجانبين تدعمها بشكل أساسي عوامل شخصية بين رئيسي الدولتين، أما الجوانب الأخرى، فهي تتلاشى أمام عقبات وتحديات ذاك التقارب، وعلى هذا فليس من المؤكد أن تظل علاقة الدولتين على حالها في حال نشوب خلاف استراتيجي بينهما، أو حاول الغرب التقرب من إحداهما وتنحية خلافات الماضي جانباً.
مركز الأهرام للدراسات