عن “يمن” الثنائيات الحاكمة

عن “يمن” الثنائيات الحاكمة

حتى هذه اللحظة، ربما لا يزال هناك الكثيرون يرزحون تحت هول الصدمة التي لحقت باليمنيين صبيحة الــ21 سبتمبر/أيلول الماضي، جراء تورط قيادات عسكرية كبيرة، بتسليم العاصمة اليمنية صنعاء للمليشيات الحوثية “المتمردة”، التي لا شك في انتصارها السياسي لا العسكري فيما أقدمت عليه.

فما جرى للعاصمة صنعاء صبيحة ذلك اليوم لم يكن شيئا مفاجئا للمراقبين لخلفيات المشهد السياسي وتعقيداته، إلا من حيث سرعة ذلك الحدث، أما عن توقعات حدوثه فكان أمرا واردا و متوقعا بالنظر إلى خلفيات ذلك الحدث وعمق تأثيراتها في صناعة الأحداث و السياسات.

فتاريخيا، ثمة معادلة سياسية مختلة تعبر عنها مجموعة “ثنائيات” حاكمة للاجتماع السياسي اليمني منذ قرون من الزمن، ذلك الاختلال الذي عاود ظهوره بقوة بُعيد انسحاب العثمانيين الأتراك من شمال اليمن عام 1918، جراء هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى من قبل الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا المحتلة لجنوب اليمن حينها، التي فرضت شروطا على الأتراك كان من أخطرها تلك التي ترتب عليها وضع يمني مختل حتى اللحظة.

فقد أجبر البريطانيون حينها العثمانيين على تسليم الأراضي التي كانت تحت سلطتهم -كتعز والضالع وبعض من مناطق الحديدة وإب التي كانت جزءا من تعز- لسلطة الإمام الزيدي يحيى حميد الدين، وهي أراض ينتمي كل سكانها مذهبيا إلى المذهب الشافعي ولم تحكمها الأقلية الزيدية من قبل.

ورغم معارضة ولاة العثمانيين على تلك المناطق -كبيت النعمان في الحجرية وبيت باشا في العدين- وغيرهم من وجهاء تلك المناطق، تسليم مناطقهم لسلطة الإمامة الزيدية؛ فقد تغير الموقف بعد ضغط تركي عليهم من قبل آخر ولاتهم سعيد باشا، الذي قدم ضمانات شفهية للمعارضين بعدم تعرضهم لأي أذى من قبل الإمام، وبقائهم في مهامهم التي كانوا عليها.

وبمجرد تسليم وجهاء تعز وإب مناطقهم ومبايعتهم لسلطة الإمام يحيى -الذي قدم لهم كلاما معسولا ريثما يتمكن من بسط سيطرته على تلك المناطق من قبل واليه علي الوزير- نكث بوعوده كلها، واعتقل وجهاء المنطقة ومشايخها، واقتادهم حفاة مكبلين بالسلاسل من تعز إلى صنعاء ومنها إلى سجن حجة الرهيب، حيث تم إبقاؤهم هناك لأكثر من عشرين عاما معتقلين دون أي تهمة أو محاكمة.

وهكذا بدأت أولى فصول “الثنائية الحاكمة” ومحنة هذه المناطق التي تمردت قبائلها كثيرا على القبضة الإمامية الاستبدادية التي كانت مدعومة من قبل القوى الاستعمارية حينها كبريطانيا، التي أرغمت الأتراك على تسليم هذه المناطق لسلطة الإمام يحيى.

لذا جوبهت ثورة قبائل الزرانيق التهامية في عشرينيات القرن الماضي بإبادة عرقية طائفية، كما جوبهت ثورة المقاطرة في ثلاثينيات القرن الماضي أيضا بالقمع والقهر والتكفير.

وتعرضت كثير من المناطق الشافعية للغزو فضلا عن ما ترتب عليه من سلطة جبائية قمعية لا مهمة لها سوى جباية المال بحق وغير حق، مما أرهق كاهل الناس كثيرا، في ظل حالة قمع شديدة دفعت بمواطني هذه المناطق للهجرة والبحث عن مواطن أخرى في أفريقيا وآسيا وغيرهما.

ففي كتابه الشهير “الرحلة اليمانية” أشار المفكر والسياسي التونسي عبد العزيز الثعالبي لبعض من هذه المآسي التي رآها بعينيه وشكاها له من التقى بهم في طريقه من وإلى صنعاء قادما من ميناء عدن في عشرينيات القرن الماضي.

ولعل حواريته مع تلك المرأة اليمنية في منطقة السياني بمحافظة إب، بمثابة مؤشر لمدى الظلم والقهر الذي لاقاه سكان ما يُسمى باليمن “الأسفل” من قبل حكام اليمن “الأعلى”، الهضبة الزيدية.

فقد بادرت تلك المرأة الثعالبي بالقول، إن رحيل الأتراك عنهم ترك فراغا أضر بمصالح الناس وأمنهم واستقرارهم، فقد جلب الأتراك المدارس والمشافي والطرق، فيما لم يجلب “الزيود” سوى الظلم والفقر بإتاواتهم الكبيرة والكثيرة، متمنية عودة الأتراك. وقول كهذا ليس سوى نتيجة طبيعية لحقبة سادها الظلم والقهر الذي مارسه الأئمة.

سياسيا كان حرص أئمة الزيدية على استغلال تناقضات ثنائية السهل والجبل -كما يسميها الزميل محمد جميح- أي الشدة والرخاء، حيث تتميز الهضبة بالجدب ويتميز السهل بالخصب، فجند الأئمة قبائل الهضبة ضد سكان السهول لإخضاعهم.

ثنائية الأضداد الحاكمة، من هاشمي وقحطاني عرقيا، الأسفل والأعلى أو مطلع ومنزل تهكميا حسب أدبيات الأئمة، والزيدي والشافعي مذهبيا، والرعوي والعسكري اجتماعيا، و”برغلي” و”لغلغي” شعبويا؛ كلها ثنائيات نمطية، قولبتها سياسة الكهنوتية، كمسلمات طبيعية، وإن كانت كلها ليست سوى نتاج طبيعي لماهية “الميثلوجيا” الذهنية الحاكمة، التي قسمت المجتمع بين طبقات للسادة وأخرى للقبائل وللعبيد والتوابع.

ففي كتابه “ملوك شبه جزيرة العرب”، ذكر المستشرق البريطاني هارولد يعقوب، أنه حينما قدم اليمن وسمع تردد لفظ زيدي وشافعي بين الناس بشكل لافت، أراد أن يعرف معنى مثل هذه الأسماء ومدلولاتها المجتمعية اليومية، فأراد أن يسأل بسطاء الناس في الطرقات والشوارع بكل تلقائية وعفوية.

فقرر أن يسأل عن معني شافعي في المناطق الزيدية، والعكس، فكانت جل الإجابات تأتيه بأن الشافعي شخص “رعوي” أي فلاح، وحينما كان يسأل عن معنى زيدي في مناطق الشوافع كانت جل الإجابات التي تأتيه بأن الزيدي هو شخص “عسكري”.

وهكذا فإن ما بين مفردتي “الرعوي” و”العسكري” ربما اختُصر تاريخ طويل لليمن، تجاذبته هذه الثنائيات المتناقضة، وما عكسته على الأرض من واقع سياسي سيئ بممارسات كلها بالضد من كرامة الإنسان وحريته وإنسانيته.

وليس مبالغة القول إن مثل هذه النمطية من التوصيف السوسيولوجي، هي التي ما زالت حاضرة ربما في اللاوعي الجمعي لأفراد هذه المجتمعات، رغم فارق التطور الكبير الذي حدث مجتمعيا وثقافيا وتعليميا منذ نصف قرن مضى.

صيرورة ثنائية الأضداد هذه هي التي ظلت حاكمة لسلوكيات المجتمع ولا شعوره الجمعي على ضفتي هذه الثنائية، مع فارق ضيق فجوتها إلى حد ما في البيئات المحفزة تعليميا، وبقاء تلك الثنائية بكل تصوراتها النمطية المتخلفة، كذهنية حاكمة في البيئات المغلقة تعليما، كبيئة شمال الشمال التي تشكل الحوثية أوضح تجلياتها الاجتماعية الراهنة.

ثم جاءت ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، والتي كان أبرز أهدافها تفكيك تلك الثنائيات، وخلق معادلة سياسية جديدة محورها الإنسان كمواطن يمني، في أي مكان وزمان كان. لكن المهمة كانت شاقة وكبيرة أمام ثورة تكالب عليها كل الأضداد في الداخل والخارج، فكان من الطبيعي أن تغرق الثورة في سبع سنوات حرب أهلية حتمية ضد قوى استمرار دوران عجلة تلك الثنائية الحاكمة.

و جريا مع منطق حركة التاريخ، تثبتت فكرة الجمهورية لكنها ربما بعد تلك الحروب أفرغت الجمهورية من مدلولها الاجتماعي منذ البداية و تلاها إفراغها من مدلولها السياسي، فتلاشت ربما الأسماء وبقيت الممارسات، التي أسست تاليا لعودة الأفكار المؤسسة من جديد وإن بعناوين وأسماء جديدة، لكنها تحمل نفس المضامين والأهداف القديمة.

صحيح أيضا أن حضور مفهوم الجمهورية رغم كل إخفاقاته، كان قد أحدث اختراقات عدة لا بأس بها في ثنائية الرعوي والعسكري، بتحول أعداد كبيرة من أبناء مناطق “الرعية” إلى “عساكر”، بل ضباط كبار في الجيش، كحقيقة فرضتها أهمية تلك اللحظة التاريخية العاصفة كالتي تجلت ذروتها فيما يسمى بحصار السبعين يوما.

لكن كهنوتية الفكرة الذهنية المذهبية الحاكمة، وصيرورتها حالت دون ذلك وبقوة، فتجلت بأبشع صورها في أحداث أغسطس/آب 1968، والتي راح ضحيتها الآلاف، وسرح وطرد وأعدم جراءها الكثير من عساكر وضباط “منزل” ومن تبقى منهم تكفل بهم جهاز الأمن الوطني سيئ السمعة، الذي أخفي على يديه المئات من مثقفي وسياسيي “منزَل”، وبعض رفقائهم من أبناء “مطلع” ممن لم ترقه هذه الثنائية المقيتة كامتداد طبيعي لميثلوجيا الكهانة المقدسة التي ثاروا عليها.

وتحت ضغط ذهنية الثنائية الحاكمة، وطوال عقود الثمانينيات والتسعينيات وحتى اللحظة، تم احتكار الجيش والأمن وكل مفاصل الدولة الرسمية، خوفا وتوجسا من اختراقات ما للأغيار أي “البراغلة”، بحسب معادلة الثنائيات المتناقضة.

وهكذا ظلت الكليات والوحدات العسكرية المختلفة حكرا على جغرافيا بعينها ومذهب بعينه وفي صميم وعزّ أيام الجمهورية، فضاقت دائرة الهواجس في وطن يتسع لكل أبنائه، فبدأت دائرة التضييق للثنائية الحاكمة بالعمل، فحضرت ثنائية “حاشد” و”بكيل”، وهكذا ضاقت الدائرة لتحضر ثنائية سنحان وما جاورها، حتى وصلت دائرة الثنائية إلى أسرة صالح وبقية عائلته وأقاربه.

وكلما ضاقت دوائر الانتماء وثنائياته المتكاثرة، زاد الضغط الشعبي على جدران هذه الدوائر الصغيرة والضيقة، وهذا هو الذي حدث تماما خلال ثورة 11 فبراير/شباط 2011، حينما انفجر صبر اليمنيين ثورة من أعظم ثوراتهم على الإطلاق، مدنية وسلمية وشابة.

ولهذا تكتلت كل دوائر الثورة المضادة لتنفجر انقلابا مليشيويا غاشما في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، ليعود بذلك اليمنيون إلى نقطة البداية الأولى لمعادلة الثنائيات الحاكمة، تلك المعادلة التي أنتجتها الميثلوجيا الذهنية، كسلوك حاكم.

فبدأت أولى تعبيرات هذه الثنائية اليوم بالحديث عن دمج المليشيات في الجيش، وقبلها الحديث عن ثورة شعبية مؤطرة جغرافيا ومذهبيا، لكن يبقى الأخطر والأسوأ من كل هذا هو تحويل الجيش إلى مليشيا، وهو الذي لم يبرأ من مرض ولائه القبائلي والعائلي، ذلك المرض الذي تجسد بتسليم صنعاء للمليشيات التي تنتمي ذهنيا وسلوكيا إلى ذات الجهة وذات الفكرة الميثلوجية.

كارثية الثنائيات الحاكمة اليوم تكمن في إصرارها على إنتاج مزيد من الثنائيات، كما هو الحال في إحدى أهم تجلياتها الراهنة أي ثنائية “شمالي” و”جنوبي”، هذه الثنائية التي نفذ من خلالها لوبي ثنائية “المقدس” و”المدنس”، موظِفين جهل وغباء وخيانة بعض المسؤولين لضرب وتحييد مؤسسة الجيش في مواجهة تمرد صانعي الثنائيات الكهنوتية الحاكمة “الحوثيين”.

صحيح أن الثنائيات الحاكمة هي خصوصية سوسيولوجية عربية صرفة، مليء بها تاريخ العرب، من عاربة ومستعربة ويمانية وقيسية، وهاشمية وأموية، وأوسية وخزرجية، فمهاجرين وأنصار، فسنة وشيعة، وهلم جرا؛ لكن فرادة الحالة اليمنية أنها الحالة الوحيدة التي ما زالت تنتعش فيها مثل هذه الثنائيات القاتلة حيث يشهد سوقها رواجا كبيرا في هذه المرحلة التي تداخل فيها المقدس بالمدنس، عائدة باليمن واليمنيين قرنا وأكثر إلى الوراء.

نبيل البكيري: الجزيرة

http://goo.gl/aTKC2Y

كلمات مفتاحية: اليمن،الثنائيات الحاكمة،الأزمة اليمنية،الحوثيون،الثورة،الثورة المضادة