يمرّ العراق هذه الأيام بواحدةٍ من ذرى البؤس الذي يعيشه، البؤس الذي عاشه، في الواقع، منذ 2003، بما لا يقلّ، ولعله يزيد، عما عاشه من قبل، حين كان ثمّة ديكتاتور اسمه صدّام حسين، ينتهي إليه الأمر في العراق، وينتهي إليه أيضاً كل نقد، بوصفه السبب في تعاسة العراقيين وتشرّدهم.
منذ حوالي عقدين، دخل الجيش الأميركي بغداد، ولم يكتف بخلع صدّام، بل فكّك نظامه المعتمد أساساً على الجيش وأجهزة الأمن، ولم ينجُ حزب البعث الحاكم هناك من قرارات النزع والتفكيك. لم يعد إذن لناقدٍ أن يقول إن الأمر لا يتعلق بالخلاص من الديكتاتور، بل يتطلب تحطيم الدولة المستبدّة كي لا تنتج مستبدّاً جديداً. وهو نقدٌ معقولٌ على كل حال، فلا يفتقر إلى المنطق السليم القولُ إن مقاومة جهاز الدولة المصرية كان من بين أسباب تعثّر أول رئيس منتخب في مصر، وقد جاء هذا الرئيس من خارج بنية الدولة، وإن جهاز الدولة العريق هذا، والذي بقي على حاله، ساهم في إفشال ذلك الرئيس، واستعاد السيادة لذاته عبر انقلابٍ عسكريٍّ على يد أحد “أبنائه”. هكذا يمكن القول إن جهاز الدولة نجح بذلك في الالتفاف على الثورة المصرية رغم قوتها، أي إن التليد تغلب على الطارف، إذا استخدمنا حوشيّ الكلام.
في العراق، لم يفض إسقاط المستبدّ العراقي وتفكيك جهاز دولته، إلى تأسيس آلية سياسية معقولة تساعد العراقيين على الخروج من بؤسهم العام. الفراغ السياسي الذي نجم عن تفكيك الدولة العراقية، ملأته مع الوقت مجموعات سياسية دينية لا تتمحور حول بناء دولة، بل تنشدّ إلى قوى مضادّة بالأحرى لبناء دولة متماسكة، فمن هذه المجموعات ما يدور في فلك الدولة الإيرانية، ومنها ما يرتهن إلى “قائدٍ” متقلّب يضع نفسه فوق الدولة، ويجمع الروحيّ إلى السياسي، والشخصيّ إلى العام، في خلطة عجيبة. في الحالتين، نحن أمام قوىً لا تساهم في انتظام دولة جديدة، ذلك أن انشداد كل مجموعة إلى مرجعيتها أو “دولتها” الخاصة يتفوّق على وحدة الدولة العراقية وقوة تماسكها والتمامها على ذاتها، وهو ما يخلق “ازدواجية الدولة واللادولة”، حسب تعبير رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي.
لم يفلح العراقيون في تحرير السياسة من المرجعيات الدينية
ويزيد تسلّح هذه المجموعات وانتظامها في “جيوش”، في مفعولها النابذ للدولة. الأخطر من هذا أن استيعاب الجيش العراقي هذه المجموعات المسلحة أدخل الانقسامات إلى داخل الجيش بما يهدّد بانفجاره هو الآخر، على الطريقة اللبنانية. على هذا، نلاحظ أن الدولة العراقية لا تكتسب أي تماسكٍ مع الزمن، وأنها تبقى قابلةً في كل لحظة إلى التعطّل والانفراط. وأن مؤسّساتها الأساسية من برلمان وحكومة ورئاسة، يمكن أن تصبح تحت أقدام أنصار هذا الطرف أو ذاك، بما يعطي فكرة كافية عن هشاشتها وعن قوة المرجعيات الفاعلة خارجها قياساً على مرجعيتها بوصفها دولة العراق. المفارقة المؤلمة في مثل هذه الحال أن الجماعات السياسية العسكرية، ذات النفوذ الشعبي غير القليل، تتغذّى على الدولة، وتستجر منها قوة مالية واعتبارية، وهي نفسها التي تدوس على مؤسّسات الدولة وعلى القيمة الاعتبارية للدولة حين تشاء، من دون أن تمتلك الدولة، بوصفها مؤسّسة عامة ومجمع إرادة العراقيين، ما يكفي من القوة لرد الاعتبار لذاتها.
إرادة العراقيين بقيت مهدورة، أكان في الفترة الديكتاتورية حين كانت المناصب في الدولة تمتلئ بقراراتٍ لا رادّ لها، أو في الفترة التالية، حين يعجز العراقيون عن الاتفاق على حكومة بعد حوالي عشرة أشهر من الانتخابات النيابية. في الإذعان الديكتاتوري المفروض على العراقيين، كما في التحاقهم الأعمى بمرجعياتٍ سياسيةٍ ودينية تتصارع على الدولة من خارج الدولة، تبقى إرادة العراقيين مهدورة. في صمتهم السابق، كما في صخبهم اللاحق الذي ينفجر بإشارة ويهمد بإشارة، تبقى إرادتهم مهدورة. وحين حاولت إرادة العراقيين في خريف 2019، التحرّر من هذه القنوات الهادرة للإرادة، تكالب عليهم الجميع وخنقوا إرادتهم.
لا ينبغي أن نكون محكومين إما لدولة مركزية مستبدّة تبتلع أو تخنق كل مراكز القوى المجتمعية، أو لدولة ضعيفة تتناهبها مراكز قوى خارجة عنها، أكانت مجتمعية محلية (دينية أو عشائرية أو عرقية … ) أو خارجية على شكل نفوذ دول أخرى. لا جديد في القول إن ضعف الدولة عنصر جاذب لقوى التدخل الخارجي، كما يقول المثال السوري اللبناني، والمثال الإيراني العراقي. ألا يمكن أن تكون الدولة عندنا قويةً من دون أن تكون مستبدّة؟
الفراغ السياسي الذي نجم عن تفكيك الدولة العراقية، ملأته مجموعات سياسية دينية لا تتمحور حول بناء دولة
لم يتمكّن العراقيون من جعل السياسة مرجعاً يحتكمون إليه، فتكون بغداد وليس النجف أو قم هي محلّ رسم سياسات البلاد وحل الصراعات بين القوى والتيارات. أي لم يفلح العراقيون في تحرير السياسة من المرجعيات الدينية. هذا ليس بالأمر اليسير، إنه في الوعي كالوشم في الجلد. وهذا ما يجعل مقتدى الصدر مطمئناً إلى ثقل حضوره، وإلى أن اعتزالاته المتكررة لن تكون نافذة في الواقع. وأنه إذا كانت تقلباته تجعله شخصاً غير موثوق من الدول والقوى السياسية، فإنها لا تطاول شعبيته، وإنه قادر، بعد ساعاتٍ فقط من قرار الاعتزال، على التوجّه إلى أنصاره وأمرهم بإخلاء الساحات والانسحاب في غضون ساعة واحدة.
ينسحب الأمر نفسه على خصوم الصدر “الإطار التنسيقي”، فهم بدورهم مطمئنون إلى استقرار مرجعيتهم فيما وراء الحدود، رغم الفساد والفشل. لا الشيعية العربية للصدر ولا الشيعية الأممية (الإيرانية) لـ”الإطار”، طريق سالك إلى كرامة العراقيين وأمانهم وازدهارهم.
في يوم نأمل أن لا يكون بعيداً، سيكتشف العراقيون أن لا أحد يهتم لخيرهم سوى هم أنفسهم، لا المرجعيات الدينية، أكانت محلية أو خارجية، ولا الزعامات السياسية التي تستند إلى هذه المرجعيات. وأن باب العنف هو مدخل من لا يريد للعراق وللعراقيين سوى السوء. حين تنتشر مثل هذه القناعة، يمكن لاحتجاجاتٍ سلميةٍ بأهداف محدّدة تطاول تحسين الحياة المباشرة للناس أن تكون بداية تأسيس واقع سياسي محترم لكل العراقيين من كل الانتماءات القومية والدينية والعرقية.
العربي الجديد