استعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطابه التقليدي السنوي أمام السفراء الفرنسيين في العالم والمجتمعين، كما جرت عليه العادة، في مؤتمر السفراء في قصر الإليزيه (ينعقد نهاية صيف كلّ عام)، الإنجازات التي حققتها إدارته في حقل السياسة الخارجية، والتي يوليها أشد الاهتمام ويشرف عليها عن قرب منذ توليه الرئاسة سنة 2017. هذا الإشراف اللصيق على علاقات الدولة الخارجية لا يرتبط حصراً بميول الرئيس ماكرون الشخصية، وإنما هو تقليد مرتبط بدستور 1958 الذي أقرّ قيام الجمهورية الخامسة في عهد الجنرال ديغول ومنح، بالتالي، تعزيزاً لدور رئيس الجمهورية، الأمر والنهي في السياسة الخارجية لفريق الرئاسة المعني.
منذ إعلان الجمهورية الخامسة في 4 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1958، أصبح ميدان السياسة الخارجية، إذاً، مجالاً حيوياً ولصيقاً بالقصر الرئاسي، على الرغم من وجود وزارة خارجية عريقة التقاليد تضم في جنباتها دبلوماسيين على أعلى المستويات. ويُكلّف رئيس الجمهورية فريقاً ضيقاً من المستشارين بتشكيل وزارة ظل تنسّق أحياناً مع وزارة الخارجية، ولكن ليس دائماً، ويُطلق اسم “الخلية الدبلوماسية” على هذا الفريق. ويكون أغلب أعضائه من الدبلوماسيين المشهود لهم بالكفاءة والولاء التام للخط الذي اعتمدته الرئاسة. وبالتالي، لا ازدواجية تذكر في القرارات المرتبطة بالشأن الخارجي، وإنما إطالة في التراتبية، ما يؤثر أحياناً على اتخاذ القرارات من الناحية الزمنية.
وقد شهدت وزارة الخارجية في بداية الصيف إضراباً نادر الوقوع في الثاني من شهر يونيو/ حزيران المنصرم. لم يحتج المضربون الممثلون بنقاباتهم حينها على سيطرة الخلية الدبلوماسية على الملفات الأهم، وإنما على سعي الرئيس ماكرون إلى إحداث إصلاحات جذرية في الإدارات الفرنسية ومنها وزارة الخارجية، فالرئيس يعتبر الحفاظ على التقاليد، مهما كانت، نوعاً من الركون إلى السكون والمحافظة على الامتيازات والهرب من التطوير. ومن خلال هذه الإصلاحات، سيكون بإمكان القصر الرئاسي تعيين دبلوماسيين من خارج الملاك لأسباب سياسية. وسيسمح هذا الأمر للرئيس، كما هي الحال في أميركا، باختيار أصدقاء سياسيين سفراء في العواصم المفتاحية.
شدّد ماكرون أمام مؤتمر السفراء على الاستمرار في محاولات التواصل الدبلوماسي مع موسكو
بالعودة الى مؤتمر السفراء واستعراض ماكرون أهم الإنجازات، والتي يغلب عليها طابع الخيبات في السياسة الخارجية، فقد قارب مسألة العلاقات مع روسيا بقدرٍ من الحذر والسعي إلى نسيان خطواته شديدة الإيجابية تجاه موسكو، فقد سبق له أن واجه السفراء، في مؤتمرهم قبل الجائحة نهاية صيف 2019، بانتقادات شديدة لما أسماها الدولة العميقة في وزارة الخارجية “التي لا تحاول أن تفهم سياسة اليد الممدودة إلى روسيا وفلاديمير بوتين”. جاء هذا التعليق في سياق الرد على الانتقادات التي تناولت استقبالاً حميمياً للرئيس الروسي بوتين في مقر إقامة الرئيس ماكرون الصيفي. حينها، برّر ماكرون موقفه قائلاً إنّ “روسيا قوة عظمى من دول الأنوار، ولها مكانها في أوروبا وتحمل القيم التي نؤمن بها”. وقد أثار هذا الاستقبال والتصريح الذي برّره انتقاداتٍ كثيرة داخل الجسم الدبلوماسي نفسه، والذي يتابع عن كثب ودراية ومهنية تطور التوجهات الإمبريالية لسياسة الكرملين، وقد عزّزت الأحداث أخيراً من مصداقية هذا التحليل. كما سبقها سعي روسي ناجح إلى إبعاد باريس عن أفريقيا جنوب الصحراء، والذي تمثل بانسحاب آخر الجنود الفرنسيين من مالي منذ عدة أسابيع، لتحلّ محلهم عناصر مسلحة من ميليشيا فاغنر الروسية المقرّبة من الكرملين. وبالتالي، اعتبر كثيرون أنّ رهان ماكرون على تحفيز عقلانية روسية تُعدّل من سياسة موسكو إيجابياً قد فشل.
اختار الرئيس ماكرون في هذا اللقاء المتجدّد الانتقال إلى ضفة الانتقاد الشديد لسياسة موسكو، معتبراً أن الهدف الأساسي للغزو الروسي لأوكرانيا هو القضاء على الوحدة الأوروبية وقيم أوروبا. في المقابل، شدّد أمام مؤتمر السفراء قبل أيام على ضرورة الاستمرار في محاولات التواصل الدبلوماسي مع موسكو، علّها تؤدي الى التخفيف من كارثية الحدث القائم، والذي تنعكس آثاره اقتصادياً وأمنياً وغذائياً ونفطياً على العالم كله.
انفراد أردوغان بتلقي انتقاد الرئيس ماكرون مكسبٌ يُعزّز حظوظه الانتخابية
وفي مسعاه إلى إيجاد سبب مقنع يشرح من خلاله الاستمرار في محاولاتٍ سبق أن فشلت، لم يتمكّن الرئيس الفرنسي من الابتعاد عن تحميل خصمه السياسي الإقليمي اللدود، وهو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مسؤولية دفعه إلى الاستمرار في مسعى التواصل مع الكرملين. متسائلاً: “من يرغب في أن تكون تركيا هي القوة الوحيدة في العالم التي تستمر بالتحدّث إلى روسيا؟”. وكان قد سبق لماكرون أن أشار إلى خطر امتداد النفوذ التركي في منطقة المتوسط وفي أفريقيا في أكثر من مناسبة إقليمية. ويزيد هذا الموقف في إضعاف السياسة الفرنسية بالتركيز فقط على النفوذ التركي.
الرئيس أردوغان، وفي معرض إعادة ترتيبه العلاقات الخارجية لبلده تحضيراً للانتخابات المقبلة، يسعى ليس فقط إلى مصالحة الأعداء، وحتى أولئك الذين شتموه بأقذع الكلمات، بل أيضاً إلى تعزيز علاقاته مع حلفاء موضوعيين، كموسكو وطهران، محاولاً الضغط على الغرب للتنازل أمام تسلطية سياساته الداخلية واتساع طموحاته الإقليمية. انفراده بتلقي انتقاد الرئيس ماكرون مكسبٌ يُعزّز حظوظه الانتخابية.
العراق الجديد