سعت إسرائيل منذ عام 2011 إلى الابتعاد عن تصنيف نفسها ضمن الاصطفافات الدولية مع، أو ضد، النظام السوري، في الوقت الذي تمحورت فيه الدول صراحة مع حماية النظام بدءاً من إيران إلى روسيا والصين وبعض الدول التابعة لمحورهم، أو مع الثورة السورية ضد نظام الأسد، وقادت هذا المحور الولايات المتحدة إلى جانب دول عربية وغربية، وكانت إسرائيل من أول المبادرين إلى طرح ما يسمّى النأي بالنفس عن الصراع السوري – السوري، ما يفرض علينا إدراك أن الغارات الإسرائيلية المتوالية على سورية لم يكن غرضها، منذ البداية، إضعاف النظام، أي الاصطفاف مع الثورة، ولا إضفاء قوة على وضع المعارضة، أي السير في ركاب الموقف الأميركي.
وعلى خلاف المواقف الدولية الواضحة، انتهجت إسرائيل سياسةً قوامها الاستثمار في الصراع الدائر في سورية، بما في ذلك اعتبار نظام بشار الأسد أفضل الخيارات بالنسبة لها، قياسا بحال المعارضة وتشتتها وتداخلات مشاريعها بشأن سورية، وبحال هشاشة الاستقرار في الشمال، حيث يخدم إسرائيل واقع غربة النظام وتعاميه عن رغبة أغلبية السوريين في تحقيق دولة مواطنة وحرّيات، وبالتالي السعي إلى تنفيذ القرارات الدولية، بما فيها المتعلقة بالجولان السوري والقضية الفلسطينية.
وضمن ذلك، أتت مداخلات إسرائيل مع الولايات المتحدة أو منفردة، في سورية، بترك الأمور وفق منهج لا غالب ولا مغلوب، ولا استقرار كامل، ولا استدامة النزاع المسلح، على خلاف ما حصل من تدخلات أميركية مباشرة لتغيير الأنظمة في العراق ومصر وتونس وليبيا مثلا، ما يفسّر السماح لروسيا، وقبلها إيران ثم تركيا، بالدخول في الصراع السوري، وفقا لتلك المعادلة، بحيث لا يسقط النظام، ولا يفوز تماما، ولا تبقى سورية موحدة.
مئات الضربات الإسرائيلية في سورية لم تمسّ هدفا استراتيجيا واحدا للنظام، إذ هي ظلت بمثابة ضربات ردعية، ووقائية
وفقا لذلك، يمكن تفسير الغارات المتوالية بمحاولة إسرائيل خدمة مصالحها على المستوى الاستراتيجي، سيما في ثلاثة أهداف أساسية: أولا، تعزيز مكانتها في حل الصراع الدائر في سورية، إزاء الأطراف الآخرين الإقليميين (تركيا وإيران) والدوليين (روسيا والولايات المتحدة)، وفي المشاركة في رسم مستقبل سورية وفقا لرؤيتها (أي إسرائيل) لذاتها ولدورها في المنطقة. ثانيا، الحؤول دون تمكين إيران، والميلشيات الطائفية المسلحة التابعة لها من تشكيل مركز قوة يهدد إسرائيل في حدودها الشمالية في المدى المنظور، والمستقبلي. ثالثا، إعطاء انطباع لدول المنطقة أن إسرائيل ورقة لا غنى عنها لإيجاد حلول لمشكلات المنطقة، وضمنها المشكلة المتعلقة بتزايد النفوذ الإيراني في سورية ولبنان والعراق، علما أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما من سهلا ذلك، أو سمحا به، بشكل غير مباشر، من مدخل تسليم العراق لإيران بعد إسقاط نظام صدّام حسين (2003)، ومن مدخل السماح بتنامي قوة حزب الله قوة قمعية ومتسلطة في الداخل اللبناني، وتاليا، فتح المجال لإيران ومليشياتها للعمل في سورية بحرية.
وكما هو واضح، مئات الضربات الإسرائيلية لم تمسّ هدفا استراتيجيا واحدا للنظام، إذ هي ظلت بمثابة ضربات ردعية، ووقائية، تستهدف شحنات ومستودعات صواريخ وأسلحة إيرانية، وقواعد لميلشيات الحرس الثوري والجماعات التابعة له. وما يميز الغارات التي جرت أخيرا، والتي ازدادت كماً ونوعاً أنها، أولاً، أتت بالتزامن مع التفاوض على البرنامج النووي الإيراني، كأنها تقول إنه لا صلة بين أي اتفاق على الملف النووي والقضايا الأخرى، ومنها أمن إسرائيل كما تراه إسرائيل وليس مجموع الدول التي تتفاوض مع إيران. ومن هنا يمكن قراءة الطلب الفرنسي أن تكون السعودية والإمارات إلى جانب إسرائيل على طاولة التفاوض مع إيران، أي أن الاستقرار الذي يطمح له الاتفاق النووي ما لم يترافق مع خطوات إقليمية تحقق مطالب إسرائيل أولاً، واتفاقاتها الجانبية مع دول خليجية ضمناً، سيُبقي المنطقة في توتر قابل للانفجار لاحقاً والعودة إلى نقطة الصفر لكل الأطراف، بما فيه استمرار إيران في التطلع إلى أن تكون الدولة النووية في المنطقة. إلى جانب أن إسرائيل لا تتورّع عن توجيه رسائلها العسكرية “الفجة” لكل من روسيا الصديقة والنظام الذي ينعم بالرضا عنه من قبلها، بالتخفف من العلاقة مع إيران، أو تحمل تبعيات التحالف معها.
باتت إسرائيل كأنها جزء من هيكل الإقليم، ومعنية باستقراره، وفقا لاتفاقات أبراهام
وأيضا لا يمكن تجاهل أن تلك الغارات (أميركية وإسرائيلية) أتت في مناخ من التوتر الدولي الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي تفيد بأنه لا يمكن التسليم بسورية ساحة لروسيا، تؤجرها لمن تشاء، وتتلاعب في عقد تقارباتها الإقليمية تارّة باتجاه إيران، وتارّة باتجاه تركيا، وعلى وجه التحديد في حال استمرّ الصراع على ما هو عليه في أوكرانيا، واستمرّت روسيا في استخدام ملف سورية ورقة تتلاعب فيها إقليمياً.
ثانيا، الفرق الآخر، في هذه المرحلة، ينبع من التغير في مكانة إسرائيل على الصعيد الإقليمي، إذ باتت كأنها جزء من هيكل الإقليم، ومعنية باستقراره، وفقا لاتفاقات أبراهام، واجتماعات القمة التي جمعتها، بغطاء أميركي، مع عديد من القادة العرب. كما ينبع في الاعتماد عليها، من أنظمةٍ عديدة، في تحجيم النفوذ الإيراني، وضمنه إنهاء قدرتها على تملك قوة نووية، رغم أن العداء لإيران عربياً لم يتأسّس بسبب طموحاتها النووية، وإنما لسياساتها التوسعية، سواء بتمكين أذرعها المحلية المسلحة بالاستيلاء على القرار السيادي لبلدانها، كما يحدُث في لبنان والعراق واليمن، أو بتغلغلها في المجتمعات وتحويلها إلى “كانتونات” تابعة لها مذهبياً وعقائدياً.
استثمرت إسرائيل في القاسم المشترك الذي يجمع بين عداوتها إيران ونزاعها معها على النفوذ في المنطقة، ومخاوف الدول العربية من طموحات إيران التوسّعية، وقدمت نفسها خلال السنوات العشر الماضية على أنها فتوة المنطقة وحاميها، على غرار ما شهدناه في المسلسل السوري “باب الحارة”، وطوت ملف عداوة الدول الأكثر تأثيراً في القضية الفلسطينية، ما ترك لها مساحة ممكنة أن تتهرّب من التزاماتها الدولية بما يخص الفلسطينيين من جهة، وأن تتدخل في الشأن العربي بوصفها دولة ذات تأثير إقليمي كبير، وربما وحيد.
العربي الجديد