على الرغم من دعم الرئيس أردوغان لأوكرانيا عسكرياً، إلّا أن هناك أسباب سياسية واقتصادية حاسمة تدفعه إلى الحفاظ على العلاقات الجيدة مع موسكو، لذلك من غير المرجح أن يتخذ أي إجراءات في البحر الأسود غير منصوص عليها بدقة في “اتفاقية مونترو”.
خلال الأسبوع الأخير من شهر آب/أغسطس، أفادت بعض التقارير أن روسيا شحنت أنظمة الدفاع الصاروخي “أس-300” من سوريا لتعيدها إلى أراضيها عبر المضيقين التركيين (البوسفور والدردنيل)، مما أثار تساؤلات حول طبيعة سيطرة تركيا على هذه الممرات المائية. وتمنح “اتفاقية مونترو” لعام 1936 أنقرة حقوقاً واسعة لمراقبة أنواع السفن المبحِرة في البحر الأسود وتحديدها. فكيف يفسر الآن المسؤولون الأتراك هذه الحقوق بعد أن اندلعت الحرب بين دولتين ساحليتين؟ يبدو أن الإجابة تلقي بظلالٍ من الشك على قدرة واشنطن على توجيه أنقرة نحو اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تُضعف الهجوم العسكري التي تقوم به موسكو ضد أوكرانيا، مثل مراقبة الشحنات الروسية التي تعبر البحر الأسود.
تفعيل معاهدة مواتية
في الأول من آذار/مارس، وبعد وقتٍ قصيرٍ من شن موسكو الحرب، أغلقت تركيا المضائق في وجه السفن البحرية الروسية والأوكرانية. واستند القرار إلى “اتفاقية مونترو”، التي تنص على أن تركيا هي حارس المنفذ الوحيد من البحر الأسود إلى المحيط المفتوح الجهات.
وقبل “اتفاقية مونترو”، وَضعت “معاهدة لوزان” لعام 1923 أيضاً، والتي أسست تركيا الحديثة، قيوداً معينة على السيطرة على المضائق. وعلى الرغم من أن المعاهدة اعترفت بالسيادة التركية على مضيقَي البوسفور والدردنيل، إلّا أنها نصت على أن يظلا مفتوحين أمام حركة المرور المدنية والعسكرية غير المقيدة تحت رعاية “لجنة المضائق الدولية”.
غير أن هذا الترتيب تغيَّر في منتصف الثلاثينيات. ففي ظل نهوض ألمانيا النازية، سعت بريطانيا وفرنسا إلى استمالة تركيا لجانبهما من خلال إلغاء “لجنة المضائق”. وبلغت هذه التطورات وغيرها ذروتها في “اتفاقية مونترو”، التي أعادت السيادة التركية غير المحدودة على مضيقَي البوسفور والدردنيل. وبناءً على ذلك، تمتعت أنقرة بالحرية المطلقة لعسكرة المضيقين وتأكيد بعض الامتيازات لتنظيم الدخول البحري إليهما. وفي عام 1938، قدّمت باريس المزيد من التنازلات لتركيا من خلال موافقتها على منح الاستقلال لـ “لواء الإسكندرونة”، وهو جزء مستقل من سوريا في ظل الانتداب الفرنسي والذي سرعان ما أصبح مقاطعة تركية قبل أسابيع قليلة من بدء “الحرب العالمية الثانية”.
حقوق تركيا في السلام والحرب
بعبارات بسيطة، تنص “اتفاقية مونترو” على أنه بإمكان السفن التجارية التابعة لكافة الدول الإبحار بحرّية عبر المضيقين في وقت السلم. إلا أن هذه الاتفاقية تمنع الدول غير الساحلية من الحفاظ على وجود بحري دائم أو كبير في البحر الأسود – حيث لا تستطيع سوى تركيا وروسيا وأوكرانيا ورومانيا وجورجيا وبلغاريا الحفاظ على مثل هذا الوجود. ويجب أن تمتثل القوات البحرية الخاصة بالدول الأخرى لقيود الاتفاقية الصارمة المتعلقة بالحمولة وفترة التواجد، حيث يتدنى الوزن المسموح به إلى 15000 طن في بعض الحالات، مما يمنع بشكل أساسي القوى الأجنبية من إرسال أكثر من سفينتين أو ثلاث سفن قتالية سطحية عبر المضيقين.
وعلى الورق، تتشارك كافة الدول الساحلية الست البحر الأسود عسكرياً. ومع ذلك، تمتلك أربعة منها (بلغاريا، جورجيا، رومانيا، وأوكرانيا) أساطيل بحرية صغيرة نسبياً، مما يجعل البحر بحكم الأمر الواقع مجالاً للسيادة البحرية المشتركة بين تركيا وروسيا. لذلك، تعتبر أنقرة “اتفاقية مونترو” وثيقة مواتية للغاية وتحميها بغيرة.
وتبدو هذه الحقيقة أشد وضوحاً في حالات الحرب، حين تُمكِّن الاتفاقية تركيا من إغلاق المضيقين في وجه السفن البحرية لأي دولة، بما فيها السفن الروسية – وإن كان ذلك يحدث مع بعض التحذيرات. ففي الأول من آذار/مارس، أعلنت تركيا أنه لن يُسمح للسفن البحرية الروسية والأوكرانية بالمرور من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود طالما استمرت الأعمال العدائية. ولتبرير هذه الخطوة، استشهدت أنقرة بالمادة 19 من الاتفاقية، التي تخوّلها إغلاق المضيقين في وجه الدول المتحاربة ما لم تعُد سفنها إلى موانئ تسجيلها.
دعم أوكرانيا عسكرياً، والاستفادة من روسيا اقتصادياً
للوهلة الأولى، بدت عملية الإغلاق في الأول من آذار/مارس إجراءاً محايداً يهدف إلى الحد من دخول كلا الجهتين المتحاربتين إلى البحر الأسود وخروجهما منه. ولكن في الواقع، كان القرار موجهاً بوضوح إلى روسيا – ففي ذلك الوقت، كانت أوكرانيا تملك سفينة بحرية واحدة وعدداً قليلاً من زوارق الدوريات، وكانت جميعها متواجدة أساساً في البحر الأسود، بينما كان ما يقرب من نصف الأسطول الروسي المشترك بين البحر المتوسط والبحر الأسود (أكثر من أربعين سفينة) منتشراً خارج المضيقين.
ويتماشى هذا النهج مع السياسة الأوسع نطاقاً التي تتبعها تركيا في البحر الأسود، والتي يمكن وصفها بـ”الحياد الموالي لأوكرانيا”. فعلى الرغم من أن أنقرة وموسكو هما القوتان العسكريتان الرئيسيتان في المنطقة المجاورة، إلّا أن روسيا هي القوة الأكبر والعدو التاريخي لتركيا. وبالتالي، تنظر أنقرة إلى كافة الدول الساحلية الأخرى على أنها قوة موازنة لا غنى عنها ضد موسكو، وستبذل جهوداً كبيرة لمنع كييف من الوقوع تحت رحمة فلاديمير بوتين. ويشمل ذلك بيع الطائرات بدون طيار إلى أوكرانيا، وفرض تطبيق “اتفاقية مونترو” بطريقة “محايدة” لها تأثير عملي يتمثل في تقويض الوجود البحري المحلي لروسيا.
ومع ذلك، حتى مع دعمها لأوكرانيا عسكرياً، كانت تركيا حريصة على عدم تعريض علاقاتها الاقتصادية مع روسيا للخطر. فالرئيس رجب طيب أردوغان يقترب من الانتخابات الوطنية التي ستجري في حزيران/يونيو 2023، لذلك يشعر بحاجة ملحّة إلى تعزيز التجارة والسياحة مع موسكو من أجل فتح اقتصاد بلاده قبل ذلك بوقت طويل. على سبيل المثال، كان حوالي سبعة ملايين سائح روسي يزورون تركيا سنوياً قبل انتشار جائحة “كوفيد-19” في عام 2019.
كما يقوم أردوغان بجذب المزيد من الاستثمارات الروسية المباشرة. فبعد اجتماعه مع بوتين في 5 آب/أغسطس، أرسلت موسكو ما يقرب من 5 مليارات دولار لتسهيل قيام شركة روسية ببناء محطة “أكويو” للطاقة النووية في جنوب تركيا. وتميل هذه التحويلات وغيرها إلى إحداث أثر تدريجي على الاقتصاد التركي، مما يولّد إحساساً بالارتياح من التضخم المفرط والمشاكل الأخرى. باختصار، وسط ازدياد المعارضة في الداخل، حاول أردوغان تحقيق التوازن بين كونه موالياً لأوكرانيا وتجنُّبه اتخاذ موقف مناهض لروسيا بشكل علني، وفي الوقت نفسه حماية المصالح الأمنية لتركيا في البحر الأسود ومصالحه السياسية الخاصة.
التداعيات على السياسة الأمريكية
على الرغم من النهج الحذر الذي يتبعه أردوغان، إلا أنه ما زال من الممكن أن تحفز الحرب نشوء حالة تطالب فيها روسيا بدخول بعض سفنها البحرية العالقة في البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود. ومع ذلك، في حال عدم توجيه مثل هذا الطلب أو حدوث أزمة أوسع نطاقاً بين موسكو و”حلف شمال الأطلسي”، فمن غير المرجح أن تتخذ تركيا أي خطوات لم تدعُ إليها “اتفاقية مونترو”. ويتضمن ذلك الطلبات الأمريكية أو الدولية المحتملة لمراقبة الشحنات، أو تنظيم المعابر البحرية التجارية الروسية عبر المضيقين، أو غير ذلك كمحاولة السيطرة على هذه الممرات المائية بأي طريقة أكثر صرامة من تلك المنصوص عليها في الاتفاقية. ومن وجهة نظر أردوغان، فإن دعم أوكرانيا عسكرياً، واحتواء تداعيات الحرب، والحفاظ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية المفيدة مع بوتين، هي عوامل ضرورية لاستراتيجيته من أجل البقاء في السلطة العام المقبل.
سونر چاغاپتاي
معهد واشنطن