العراق جرحاً مفتوحاً

العراق جرحاً مفتوحاً

وصلت الأوضاع في العراق إلى حافّة الهاوية بعد الفشل في الوصول إلى توافق على رئاسة الحكومة بين الفرقاء السياسيين، وفي البيت الشيعي؛ بين المدعومين من إيران وأنصار مقتدى الصدر. وكانت النُّذُر واضحة، بعد صدامات مسلَّحة بين أنصار التيَّار الصدري وأمن “الحشد الشعبي” أوقع عشرات القتلى ومئات الجرحى، قبل أن تعود البلاد إلى فترة هدوء نسبي، على أثر قرار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إنهاء اعتصامات أنصاره داخل المنطقة الخضراء.

فيما أكَّد نوَّاب وسياسيون عراقيون أن الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ قرابة 11 شهرًا عقب إجراء الانتخابات البرلمانية في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ما زالت بعيدة عن أيِّ بوادر للحل، وأن فرصة الحوار بين التيار الصدري والإطار التنسيقي ضعيفة جدًّا، مشيرين إلى فشل جميع المبادرات التي طُرحت للحوار.

وكان وصول الأزمة إلى المواجهة بالسلاح علامة على فشل لغة الحوار، ومؤشرًا إلى مدى الانسداد السياسي، والاحتقان الشعبي، ولذلك فإن محاولات التهدئة ستكون جدواها مؤقَّتة. والضمانة لعدم تجدُّد تلك المواجهات المؤسفة تكون بالتوصل إلى حكومة مهنية، أقل استجابة للموازنات الحزبية، وأكثر ارتباطًا بالحلول الملحّة.

وصول الأزمة إلى المواجهة بالسلاح علامة على فشل لغة الحوار، ومؤشرٌ إلى مدى الانسداد السياسي، والاحتقان الشعبي

ولم تفلح الحكومات السابقة، منذ سقوط نظام صدّام حسين، في حلحلة الأزمات المعيشية الملحّة، التي تفاقمت في وجه المواطن العراقي، في بلد يُعَدّ من البلاد الغنية والعريقة. ولا يخفى أن مسؤولية كبرى تقع على إيران، وهي الدولة الإقليمية التي لها اليد الطُّولى في العراق، وفي هندسة الحكم فيه. ومن إيران وأميركا التي قوّضت نظام صدام، من دون أن تهتم ببناء دولة ومؤسسات حكم، بل هيَّأت لهذا النوع من الصراعات، حين جعلت الحكم قائمًا على المحاصصة وعلى الطائفية. ولكن المسؤولية المباشرة يتحمَّلها الساسة العراقيون، كلٌّ بحسب ثقله ونفوذه.

ومع الخشية أن يكون الخرق قد اتَّسع على الراتق، إلا أن الأوضاع تستوجب إعادة النظر إلى الأزمة، مع إدراك عمقها وخطورتها، لا على العراق وحده، بل على البلدان المجاورة أيضًا والإقليم. وبإدراك أن الاستفراد في الحكم لصالح جهة معينة لم يعد ممكنًا، لأن النزاع ليس بين طبقة الساسة، بقدر ما هو بسبب الأحوال المعيشية الملموسة التي لم يعد يطيقها العراقي العادي. وهنا التحدّي والاختبار الذي يقف أمامه كل السياسيين من دون استثناء.

وكان المفترَض أن يولي السياسيون العراقيون مزيدًا من الجهود التي تصبّ في تحسين حياة العراقيين، بعد إضعاف التنظيمات التكفيرية التي تمتهن التفجير وإزهاق أرواح المدنيين، لكن المواطن لم يلمس آثارًا تدفعه إلى رفع منسوب الثقة بذوي القرار، ممَّن جرّبهم، فكانت نتائج الانتخابات الأخيرة علامة على رغبة أكيدة لدى غالبية ملحوظة في حدوث التغيير.

والغريب أن البلد يعاني أوضاعًا بالغة الخطورة نتيجة التدهور غير المسبوق على صعيد الجفاف، فضلا عن الفقر، وتردِّي الخدمات الحيوية، ولا نلحظ أن الدولة تولي هذه الظروف الخطيرة، والتي تستوجب إعلان حالة طوارئ حقيقية، الأهمية الكافية.

عاد الوضع إلى أدوات القمع ولكن بمفردات خطاب أخرى، وتحت ذريعة مكافحة الجماعات الإرهابية

بعد غياب صدّام الذي تفرّد في الحكم، واستبدّ في القرار، من دون أن تنقصه سيمياء الرعب والترهيب، ما جعل قبضته على الحكم شديدة، لم ينجح العراق في تأسيس حكمٍ يقوم على المشاركة، بقدر ما استحوذت على القرار والمال فيه جماعات طائفية، متَّهَمة من الشعب العراقي بالفساد والنهب، والاستقواء بالقوة المسلحة وبإيران، وعاد الوضع إلى أدوات القمع ولكن بمفردات خطاب أخرى، وتحت ذريعة مكافحة الجماعات الإرهابية، مع فارق أن العراق في زمن صدّام لم يعرف هذه المقادير من الفقر والانهيارات. فقد كان مستبدًّا، ولكنه ضابط للدولة، ومعنيٌّ بالحفاظ على قوامها وديمومة التماسُك في الشعب.

وقد تخطر بالبال المقارنة بين أوضاع الفلسطينيين، تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، وأحوال عربٍ كثيرين، كما في العراق ولبنان وغيرهما، فمستوى الخدمات، حتى لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية، أفضل بكثير منه في تلك الدول العربية،.. ولكن دولة الاحتلال التي تستأثر بمقدَّرات الأرض المحتلة، خصوصًا مناطق ج، وهي التي تمثل ما يقارب 60% من أراضي الضفة الغربية، تمنح الفلسطينيين فسحةً من الوقت، مع مستوىً محتمَل، بالمجمل، من الخدمات، بما لا يعوق أجنداتها الاحتلالية الاستراتيجية البعيدة المدى، في توسيع الاستيطان والتهويد، مقابل تقويض ركائز الإنتاج الفلسطيني، أو أيّ مشروعات حقيقية في هذا الاتجاه، بما يبقي الاقتصاد الفلسطيني ملحَقًا باقتصاد الاحتلال وخادمًا له.

استحوذت على القرار والمال في العراق جماعات طائفية، متَّهَمة من الشعب بالفساد والنهب

إلا أن المؤلم والمقلق والمَعِيب أنْ يخفق حكَّام يُفترَض أنهم منتخَبون، ومن أبناء البلد، والشعب، ومسؤولون أمامه، وأمام نوّابه، في تقديم نموذج من الرعاية ومستوى من المعيشة يقارب المستوى الذي يصل إليه شعب عربيٌّ محتل، هو الشعب الفلسطيني، مع الإقرار بالفارق الكبير بين مستوى الفلسطينيين، من جهة، ومستوى المستوطنين الذين يسرقون الأرض ويجثمون على خيراتها، من الجهة الأخرى.

ماذا يتبقّى من الاستقلال ومعانيه، وهل من أجل هذا النوع من العيش ضحّت الشعوب العربية للتخلُّص من الاستعمار؟

مع أننا لسنا مضطرّين أن ننحشر بين هذه الخيارات؛ إما حاكم مستبدّ، كصدَّام، أو حكم أجنبي استعماري، إلا أن وصول الحكم، فعليًّا، إلى هذا المستوى من العجز والفشل، أحال السلطة ورجالها إلى عبءٍ على الشعب والبلد، حتى من الناحية الأمنية، صار رجال الحكم مصدر تخويف وترهيب واستقواء بالسلطة، لتأبيد مأزق الشعب العراقي، واستبقاء الدوَّامة العقيمة من الخيارات التدويرية.

العربي الجديد