مؤشران مهمان عاشهما المجتمع الإيراني في الأيام الماضية، ويحملان دلالات واضحة على آليات التعامل المتبادل بين النظام كمؤسسات تمتلك مفاتيح القرار بكل تفاصيله، وبين الحراك الاجتماعي والمدني والمطلبي.
ما حدث قبل أسابيع من ارتفاع وتيرة الحديث المتعلق بمطالب شريحة اجتماعية واسعة بتغيير منهجية تعامل النظام مع مسألة الحجاب، وما كشفته هذه المطالب من ظهور مسافة بدأت بالتبلور بين البعدين الديني والسياسي المتحكم بالسلطة ومواقف النظام. أما الحدث الثاني فكان قرار السماح للنساء بالدخول إلى الملاعب الرياضية لمشاهدة مباريات كرة القدم جنباً إلى جنب، لكن في مقاعد مخصصة لهن، مع الرجال، بعد أن حرمن من هذا الحق على مدى أربعة عقود من منطلق ديني محكوم بالخلفيات نفسها التي حكمت مسألة إجبارية الحجاب.
هذه الحرمة الدينية تحولت إلى عبء أثقل كاهل كل المسؤولين الذين حاولوا التخفيف من آثارها السلبية، وسعوا إلى الاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية لشرائح واسعة وكبيرة من المجتمع الإيراني، من الرئيس الأسبق محمد خاتمي والدفاع عن الحريات الشخصية بما فيها حرية المعتقد، مروراً بالرئيس محمود أحمدي نجاد الذي جعل من إشكالية الملاعب أحد أبرز شعاراته الانتخابية التي سرعان ما تناساها، أمام المقاومة الشرسة للدولة العميقة التي تخاف من أي تغيير في الثوابت التي قام عليها النظام، قد تؤسس لمسار إضعافه وجعله رهينة المطالب الشعبية، وصولاً إلى حقبة الرئيس السابق حسن روحاني الذي فشل في تحقيق أي من وعوده نتيجة محاصرته من مؤسسة السلطة التي قررت عدم منحه أي إنجاز، حتى الاتفاق النووي.
فالنظام وفي مواجهة الحراك النسوي الرافض لإجبارية الحجاب لجأ منذ البدايات إلى التعامل مع ظاهرة السفور بمنطلق أمني، وقد هيمن هذا الأسلوب في التعامل مع مسألة الحجاب بعد أن استطاع تثبيت قواعده في السلطة والإمساك بمفاصلها، وبعد أن قضى على كل مصادر الخطر والتهديد التي واجهت المشروع المجتمعي الإيراني في السياسة والاجتماع والفكر والثقافة والعلاقات وغيرها من مناحي الحياة اليومية.
وقد انتقل النظام الإسلامي لتطبيق إلزامية الحجاب في أواسط عام 1982، بعد مرور نحو سنتين ونيف على ترك الأمور من دون تدخل أو سياسة الفرض والإلزام. والذي زار طهران أوائل صيف تلك السنة لم يكن من الصعب عليه ملاحظة بقايا سفور في شوارع العاصمة، ما لبث أن اختفى مع تصاعد دوريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تحمل اسم “دوريات ثار الله” المؤلفة من سيارتين واحدة تضم أربعة شبان، والأخرى تضمن أربع فتيات ينتمين إلى اللجان الثورية أو “الحرس”، يلاحقون من كل زوجين من يشكون في شرعية العلاقة بينهما، واعتقال من يضبط متورطاً بعلاقة أو صحبة محرمة، أو تأنيب تلك التي ترجع حجابها ليكشف عن شيء من غرتها.
وفي السنوات التي تلت بخاصة في مرحلة أو حقبة الإصلاحات وصل الجدل الاجتماعي إلى أعلى مستويات التحدي والتوتر، فمع اتساع رقعة المطالب المدنية والمدعومة من شعارات المرحلة الإصلاحية، ازداد النظام في التشدد والتصلب باعتبار أي تنازل أو ليونة أو تمرير لسياسات الحكومة الإصلاحية بمثابة ضربة لمنظومته الفكرية وسلطته الدينية التي تمنحه التسيد على المجتمع وفرض إرادته عليه.
وقد تعامل النظام مع المطالب النسوية في حرية الحجاب أو المشاركة في حضور النشاطات الرياضية كتهديد سياسي قبل أن يكون مطلباً أو حركة مطلبية سلمية اجتماعية قائمة على حق هذه الشريحة بحرية تقرير ماذا تريد وماذا لا تريد، بخاصة أن النظام استطاع تحويل مسألة الحجاب إلى قضية هوية للنظام، في حين خضعت المشاركة في الأنشطة الرياضية إلى أزمة تجاوزت قرار السلطة لتتحول إلى أزمة بين النظام والمؤسسة الدينية التي وقفت حائلاً من دون أية إشارات على التعامل الإيجابي مع هذا المطلب.
على الرغم من ذلك وإلى جانب سياسة النظام التي ظهرت في حقبة أحمدي نجاد، ولمواجهة موجة الاعتراضات أو الرفض لإرادة النظام السياسي في فرض من يريد على حساب التوجهات الاجتماعية والسياسية والفكرية، كان لا بد من اتباع منهجية التفريق بين المستويين من خلال عقد تفاهم غير مكتوب، تفاهم بالتواطؤ بأن يبتعد المجتمع عن أمور النظام ويترك له ترتيب المشهد السياسي كما يريد، في مقابل أن يوسع النظام ومؤسساته الأمنية والأخلاقية والدينية هامش الحريات الاجتماعية، حتى تلك التي قد تناقض الأسس الشرعية والدينية، باعتماد سياسة التغاضي.
وعلى الرغم من هذا التواطؤ فإن مؤسسة النظام كانت في لحظات الإحساس بحجم التحديات التي تواجه سلطتها وقدرتها على الإمساك بتفاصيل القرار، تعمد إلى استخدام ورقة التفتيش العقائدي وتسيير دوريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لاستثارة الرأي العام ضد أية حكومة متمردة تحاول القفز على قرارات النظام وتوجهاته. أو في حال شعورها بوجود عوامل اختمار لموجة اعتراض قد تنفجر، فتسارع إلى إعادة صياغة المشهد لإيصال رسالة إلى المجتمع بأنها قادرة على رصد توجهاته، وأنها هي التي تملك الحق والقدرة على منحه الجرعة المناسبة من الحرية، وهي القادرة على سلبها أو قمعها في اللحظة التي تحاول الانفلات من عقال الوظيفة التي تريدها السلطة وتحددها.
مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والسياسية وفشل أو إفشال المفاوضات النووية وما فيها من وعود بإمكانية الخروج من الأزمة الاقتصادية وإعادة عجلة التنمية والانفراج للحركة، يبدو أن النظام يقف حائراً بين خطرين، أن يستمر في سياسة التكميم وقمع مطالب الحركات الاجتماعية والمطلبية، وبين أن يفتح الباب لتغيير مسيطر عليه. من هنا نشهد هذه الاستجابة والتحول في مواقف النظام وقيادته من قضايا جوهرية شكلت مادة للجدل الدائم بينه وبين المجتمع والحركات النسوية، فنرى المرشد يرفض التشدد في التعامل مع مسألة الحجاب كفرض إجباري، وتركه باب الخيار الشخصي مفتوحاً بشكل موارب من دون أن يحسم موقفه بوضوح خوفاً من المؤسسة الدينية، حتى بات المرء يسير في بعض شوارع وأحياء طهران ولا يجد أثراً لحجاب، في وقت دخلت السلطة في عملية تسويغ لقرار مشاركة النساء في ملاعب الرياضة، بين رفض اعتبار هذه الخطوة استجابة لضغوط الاتحاد الدولي لكرة القدم، وبين اعتمادها سياسة اجتماعية قد تحشد ضدها معارضة الحوزة بما تمثله من مؤسسة تسيطر على القرار الديني.
فشل المفاوضات النووية وعدم قدرة النظام ودولته على وضع معالجات عملية وحقيقية للأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية قد يضعه في مسار القبول بالتنازلات الداخلية أمام المطالب والحراكات الاجتماعية، في مقابل الاستمرار في سياسته المتشددة مع الأزمات الخارجية، وقد يصل إلى نقطة يصعب عليه السير في سياسة التنازل الداخلي، عندها سيكون أمام خيار العودة للتصعيد وما يعنيه ذلك من صب الزيت على نار الانفجار.
اندبندت عربي