في القمة التي جمعتهما في بكين في الرابع من فبراير/ شباط 2022، أكد الرئيسان، الروسي، فلاديمير بوتين، والصيني، شي جين بينغ، في بكين، أن العلاقة بين بلديهما تقوم على “صداقة بلا حدود”، وأنه لا “مجالات محظورة” للتعاون في سياق الشراكة الاستراتيجية بينهما. ولم تخف، حينها، كل من موسكو وبكين أن غايتهما الأساس تتمثل في كسر الهيمنة الأميركية عالمياً، وإعادة تشكيل قواعد النظام الدولي التي تحابيها، فضلاً عن إطلاق معسكر بقيادتهما يوازن المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة. وفعلاً، شهدت الأيام القليلة الماضية خطوات جوهرية في هذا الصدد. فمطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، شاركت الصين، مع دول أخرى، في مناورات روسية عسكرية واسعة النطاق في أقصى الشرق الروسي، دامت أسبوعاً. تبع ذلك، قبل أيام، إعلان مجموعة “غازبروم” الروسية العملاقة للطاقة أن الصين ستبدأ تسديد ثمن شحنات الغاز الروسي بالعملتين الوطنيتين للبلدين، الروبل واليوان، بدلا من الدولار، وذلك ضمن مساعي موسكو لتخفيف وطأة العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب غزوها أوكرانيا.
أمام هذه التطورات الجيوسياسية، التي قد تفضي إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، تجد كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين أنفسها أمام حساباتٍ معقدة تعيد إلى الأذهان مقاربة “الديبلوماسية الثلاثية” Triangular diplomacy التي تبنّتها واشنطن مطلع سبعينيات القرن الماضي، أي في ذروة الحرب الباردة، ضمن مساعيها للاستفادة من الانقسام الأيديولوجي الحاد الذي كان وقع، أواخر خمسينيات القرن الماضي، بين الاتحاد السوفييتي والصين. ولكن، إذا كان القرن الماضي تميّز بتنافس شديد وحساسية كبيرة بين البلدين الشيوعيين، بشكلٍ مكّن الولايات المتحدة من ضرب بعضهما ببعض، فإن الواقع اليوم يبدو أكثر اختلافاً، وأشد تعقيداً، من دون انتفاء وجود أوجه شبه.
لم تكد ثلاثة أسابيع تمضي على قمة بوتين – شي، حتى كانت روسيا تجتاح أوكرانيا، غير أن واشنطن وحلفاءها نجحوا في تحويل الغزو إلى حرب استنزاف مكلفة جداً لموسكو، اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. حينها، وجدت الصين نفسها في موقفٍ حرج، فلا هي تستطيع التخلّي عن حليفها الروسي، ولا هي تريد أن تغامر بإغضاب الولايات المتحدة، بشكلٍ قد يستدعي فرض عقوبات اقتصادية عليها. ورغم أن إدارة جو بايدن كانت حريصة على مدى عام ونصف العام من ولايتها، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، على عدم الضغط على روسيا إلى حد يدفعها إلى الحضن الصيني، فإن العقوبات الصارمة والخانقة التي فرضتها عليها، خصوصاً في قطاع الطاقة، لم تترك لها من خيار سوى طرق أبواب بكين. مَثَّلَ هذا، ولا يزال، معضلة لواشنطن، خصوصاً أن إدارة بايدن تعتبر، حسب وثيقة “التوجيهات الاستراتيجية المؤقتة” الصادرة عن البيت الأبيض في شهر مارس/ آذار 2021، الصين “المنافس الوحيد المحتمل القادر على الجمع بين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتشكيل تحدٍ مستدام لتحقيق الاستقرار، ونظام دولي مفتوح”. بعد ذلك، وقع ما تعده الصين تحرشاً أميركياً بها في ملف تايوان، والذي وصل إلى ذروته الشهر الماضي، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لها، وقيام الصين بمناورات عسكرية واسعة حول تايوان ردّاً على ذلك، ثمّ إعلان إدارة بايدن نيتها بيع أسلحة متقدّمة للجزيرة بقيمة مئات الملايين من الدولارات.
يتضاعف قلق روسيا من الصين في ضوء تمدّد الأخيرة في مناطق نفوذها التقليدية
لكن، ليست واشنطن وحدها من تواجه معضلات، فموسكو وبكين تواجهان معضلاتٍ أيضاً، إن لم تكن أكبر، إذ إن تحالفهما منطلقٌ من الضرورة لا من القناعات. معلوم أن كلاً من روسيا والصين تسعيان إلى فرض نفسيهما قوتين عالميتين ندّتين للولايات المتحدة، وبالتالي، فإن تحالفاً بينهما بلا حدود يحمل مخاطر كبيرة لهما.
تدرك روسيا أن الصين تمثل ثاني اقتصاد عالمي بحجم يتجاوز 16 تريليون دولار سنوياً، مقابل اقتصادها الذي يحتل المرتبة الحادية عشرة عالمياً بأقل من تريليوني دولار سنوياً. كما لا تنسى موسكو أن لها خلافات حدودية مع بكين. أيضاً، رغم أن الصين تستورد حوالي 70% من أسلحتها من روسيا، إلا أنها في العقد ونصف العقد الماضيين تركّز أكثر على تصنيع أسلحتها بنفسها، مستفيدة في ذلك من سرقتها التكنولوجيا العسكرية الروسية، حسب اتهام شركات روسية. بالنسبة لموسكو، هذا يعني أن الصين في طريقها إلى أن تصبح ثاني قوة عسكرية عالمية، وهذه القوة تقع على حدود مشتركة معها تبلغ آلاف الكيلومترات. الأكثر مرارة بالنسبة لروسيا أن الميزان التجاري بين البلدين مختلّ بشكل صارخ لصالح الصين، التي وإن كانت تستورد نفطها وغازها بشكل أكبر الآن، بما يخفف وطأة العقوبات الغربية عليها، إلا أن روسيا زاد اعتمادها على السوق الصينية، وهو ما جعل من الصين أكبر شريك تجاري لها. ومن الضروري هنا التذكير بتردّد المستثمرين الصينيين، الخاضعين لحكومة بلادهم، في الاستثمار في روسيا، مخافة العقوبات الغربية، ولعدم وجود سوق اقتصادي روسي واعد.
يقف العالم على عتبة ولادة نظام عالمي جديد تحاول فيه الولايات المتحدة الحفاظ على امتيازاتها، ولكن تحالفاً روسياً صينياً سيشكل تحدياً جوهرياً لذلك
ويتضاعف قلق روسيا من الصين في ضوء تمدّد الأخيرة في مناطق نفوذها التقليدية، كما في آسيا الوسطى، والتي تعد اليوم جزءاً أساسياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار. والمبادرة هي سلسلة من مشاريع البنية التحتية الممتدة من أوروبا إلى شرق آسيا وتهدف إلى ضمان التمدد الاقتصادي والديبلوماسي لبكين الذي تموّله من خلال قروض بمئات المليارات من الدولارات. بهذا المعنى، فإن دولاً غير ساحلية في آسيا الوسطى، لن تعود معتمدة على روسيا لتصدير بضائعها للخارج. كما أن فقدان روسيا نفوذها في آسيا الوسطى سيقوّض محاولات بوتين لإعادة تأهيل صورة بلاده قوة عظمى، عبر جعلها مجرّد شريك صغير وتابع للصين.
في المقابل، تجد بكين نفسها مضطرّة هي الأخرى إلى تحالف ضرورة مع موسكو، في الوقت الذي لا تريد فيه التضحية بالأسواق الاقتصادية الغربية الضخمة من أجل اقتصاد روسي صغير جداً بالمقارنة. تحتاج الصين إلى روسيا لتعزيز موقفها أمام ما تعدّه تحرّشات ومحاولات احتواء أميركية، مدعومة بتحالف عالمي واسع، يشمل أوروبا ودولاً في آسيا. وتأمل الصين بمساندة روسية لها في حال أقدمت على اجتياح تايوان، غير أنها تتوجس، في الوقت نفسه، من الأداء الروسي العسكري السيئ الذي عرّاه اجتياحها أوكرانيا. ومع ذلك، وفي ظل عدم وجود حلفاء لها يبدون أقوياء، كروسيا النووية، تبقى بكين بحاجة إلى موسكو، ولكن ضمن موازناتٍ صعبة جداً.
باختصار، يقف العالم على عتبة ولادة نظام عالمي جديد تحاول فيه الولايات المتحدة الحفاظ على امتيازاتها، ولكن تحالفاً روسياً صينياً سيشكل تحدياً جوهرياً لذلك. في حين تحاول روسيا والصين، معاً، خلخلة أسس النظام الدولي القائم وقواعده، غير أنهما متوجستان، في الوقت نفسه، من أن تخسر كل واحدة منهما “حليفها” الآخر. وفي سياق التنافس والتجاذب بين القوى الثلاث، تبدو روسيا هي الضلع الأضعف، على عكس ما كان عليه الحال القرن الماضي، زمن الاتحاد السوفييتي.
العربي الجديد