المسيّرات البحرية… دور متنامٍ ينتظر حروب المستقبل

المسيّرات البحرية… دور متنامٍ ينتظر حروب المستقبل

أعادت الروايتان الأميركية والإيرانية، الأسبوع الماضي، حول احتجاز إيران، في الأول من سبتمبر/أيلول الحالي، لوقت قصير، مسيّرتين بحريتين للجيش الأميركي في البحر الأحمر، وقبلها بيومين إعلان الأسطول الخامس في البحرية الأميركية أن مدمرة أميركية أفشلت محاولة الحرس الثوري الإيراني احتجاز ونقل قارب مسيّر إلى شواطئ إيران، تسليط الضوء على حركة المسيّرات البحرية في المنطقة، ودورها المتنامي في أعمال المراقبة والتجسس وحماية الممرات المائية، فضلاً عن أهميتها في مستقبل الحروب.

وكان مسؤولون أميركيون قد أكدوا، يوم الجمعة الماضي، أن بحرية الجيش الأميركي أجبرت إيران على الإفراج عن زورقين مسيّرين للبحرية الأميركية، بعدما حاولت احتجازهما في مياه البحر الأحمر. من جهتها، اتهمت إيران الزورقين الأميركيين بتعريض السلامة البحرية للخطر، من دون تقديم دليل على ذلك، وقالت إنها احتجزتهما “لمنع وقوع أي حادث محتمل”. وجاء ذلك بعد يومين من إعلان الأسطول الخامس الأميركي إفشال محاولة سفينة للحرس الإيراني الاستيلاء على قارب مسيّر أميركي في المياه الدولية، بعد تدخل سفينة المراقبة “يو إس إس ثاندربولت”.

حذّرت القوات المسلحة الإيرانية الولايات المتحدة من مغبة الاستمرار في تسيير مسيّراتها البحرية في مياه المنطقة

ويوم الإثنين الماضي، حذّر رئيس الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة الإيرانية، الجنرال محمد باقري، الولايات المتحدة من مغبة الاستمرار في تسيير مسيّراتها البحرية في مياه المنطقة، متوعداً بأن القوات المسلحة الإيرانية “ستتصدى لها”. واتهم باقري واشنطن بالسعي إلى “التعويض عن خفض قواتها في الشرق الأوسط بطرق أخرى، ومن خلال وحدات عسكرية جديدة”، قائلاً إنها “تخاطر بأمن الملاحة في المنطقة من خلال المسيّرات البحرية التجسسية غير المأهولة”.

وشدّد باقري على أن إيران “لن تتحمل وجود هذه المسيّرات على طريق سفننا، وسنتصدى لها كما حدث ذلك”، مشيراً إلى أن طهران تتابع ذلك أيضاً، عبر رفع دعوى إلى منظمة الملاحة الدولية وبالطرق الدبلوماسية.

المسيّرات
تقارير دولية
عصر حروب المسيّرات: ذلك السلاح الآتي من المستقبل
ويأتي ذلك علماً أن إيران تواصل تطوير صناعة المسيّرات البحرية، أو المائية، بل حتى إن جماعة الحوثيين في اليمن استهدفت، في يناير/كانون الثاني من عام 2017، فرقاطة سعودية بثلاثة زوارق موجهّة، غرب ميناء الحديدة.

وتعمل المسيّرات البحرية، كنظيرتها الجوية، للتعويض عن العنصر البشري والتقليل منه ومن خسائره. وتشمل مهماتها مروحة واسعة من الأنشطة، بدءاً من مراقبة المناخ، إلى المسح العام في مياه يصعب الولوج إليها، أو تتضمن مساحات مائية واسعة، إلى مهام المراقبة والحماية من القرصنة، وصولاً إلى إمكانية أن تصبح سلاحاً فعّالاً في الحروب المستقبلية، ما يدفع الدول الكبرى، كالولايات المتحدة وروسيا والصين، إلى تطوير صناعتها، بالإضافة إلى دول أخرى أصبحت في سباق مع الزمن، للحاق خصوصاً بالنشاط الأميركي التكنولوجي المتقدم في هذا المضمار.

ويلخصّ ملف موسعّ عن الطائرات المسيرة، نشره موقع “نيوأميركا دوت أورغ” في عام 2020، الكثير عن سباق المسيّرات البحرية، والتي يقول إن التكنولوجيا المتعلقة بها لا تزال غير منتشرة كما المسيّرات الجوية، إلا أن دولاً عدة، كالولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، بدأت تنظر إلى البحر في ما يتعلق بتطوير المسيّرات. ويمكن القول هنا، بالطبع، إن الصين تبدو مجبرة على اللحاق بهذه الصناعة “الحربية”، بعدما تمكنت من تطوير أسطولها الحربي البحري، وتحديثه، بما يتضمن الغواصات النووية، ومع تنامي الصراع في مياه المحيطين الهادئ والهندي.

أميركا وتعويض تقدم الخصوم
ويلفت التقرير إلى أن البحرية الأميركية ترى في المسيّرات البحرية جزءاً لا يتجزأ من “استراتيجية التعويض الثالثة” التي طرحتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في عام 2014، للتغلب على التقدم العسكري الحاصل لدى خصوم الولايات المتحدة من الدول، عبر التكنولوجيا خصوصاً. وتمكّن الآليات المسيّرة تحت الماء، أو الغاطسة (يو يو في)، من إنشاء شبكة استخبارات ومراقبة واستطلاع تحت المياه، توازي الشبكات الأميركية في هذا المضمار، الجوية والأرضية.

تعمل المسيّرات البحرية، كنظيرتها الجوية، للتعويض عن العنصر البشري والتقليل منه

وبحسب تقرير لوزارة الدفاع الأميركية صدر في عام 2016 بعنوان “متطلبات المسيّرات الغاطسة لعام 2025″، فإن تلك المسيّرات ستعمل على تعزيز فاعلية الغواصات وأنظمة الاستشعار فيها وأسلحتها. كما أن هذه المسيّرات ستستخدم لإتمام مهام تعد خطيرة جداً بالنسبة للسفن والآليات البحرية المأهولة، لا سيما لتجنب الألغام البحرية، كما قد تستخدم أفخاخاً للتمويه عن أماكن الغواصات المأهولة. وفي فبراير/شباط 2016، قال وزير الدفاع الأميركي آنذاك آشتون كارتر إن الولايات المتحدة ستستثمر 600 مليون دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، أي خلال السنوات الخمس التي مضت، لتطوير صناعة المسيّرات الغاطسة.

وفي عام 2017، تمّ إنشاء “سرب الآليات الغاطسة المسيّرة” (يو يو فرون 1″ التابع للبحرية الأميركية لتطوير التكتيكات والتكنولوجيا والآليات لرسم خريطة طريق لاستخدام البحرية الأميركية هذا النوع من المسيّرات. وبالتوازي، جرى الكشف عن أنواع عدة من المسيّرات البحرية للحربية الأميركية، منها “مطارد البحار” والـ”إيكو فواياجور” (بوينغ) وهي مسيّرة تحت الماء وبإمكانها العمل ستة أشهر متواصلة.

ويقول موقع “نيوأميركا دوت أورغ”، إن بريطانيا تشارك الولايات المتحدة الاهتمام بالمسيّرات البحرية، فيما أطلقت روسيا، عام 2015، مسيّرتها البحرية التي تعمل في أعماق البحار، “كلافيشين وان آر”، والمخصصة للعمل على متن الغواصات النووية الجديدة. كما أعلنت الصين بشكل رسمي في عام 2014 عن إطلاق برنامجها للمركبات الانزلاقية المسيّرة الغاطسة.

اختبارات في الشرق الأوسط
وفي منطقة الشرق الأوسط، اختبرت الولايات المتحدة والقيادة الوسطى للقوات البحرية الأميركية “نافسانت”، التي تشمل منطقة مسؤوليتها البحر الأحمر وخليج عمان والخليج العربي وبحر العرب، في أواخر العام الماضي، للمرة الأولى، المركبة المسيّرة البحرية السطحية “سايل درون إكسبلورر”، كجزء من مبادرة لإدخال هذا النوع من التكنولوجيا إلى خدمة الأسطول الخامس. وأعلنت الولايات المتحدة، حينها، أن قاعدة البحرية الأردنية في خليج العقبة ستصبح مركزاً رئيسياً لعمليات المسيّرات البحرية المشتركة في المستقبل، من خلال شراكة مع فريق “قوة المهام 59″، في الخليج.

ترى واشنطن في المسيّرات البحرية جزءاً لا يتجزأ من “استراتيجية التعويض الثالثة” التي طرحها البنتاغون

وكان الأسطول الخامس الأميركي المتمركز في البحرين قد كشف، في سبتمبر/أيلول 2021، عن هذه القوة الجديدة التي تستخدم المسيّرات البحرية، بهدف تعزيز الردع في منطقة عملياته. وفي فبراير/شباط الماضي، أعلن الأسطول الخامس الأميركي أنه سيطلق أسطولاً جديداً مشتركاً من المركبات البحرية المسيّرة، مع الدول المتحالفة مع واشنطن، لتنفيذ دوريات بحرية في منطقة الشرق الأوسط. وأجرت البحرية الأميركية، في الشهر ذاته، أكبر مناورة من نوعها للمسيّرات في المنطقة، لمدة 18 يوماً، شاركت فيها إسرائيل والإمارات، بالإضافة إلى كندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وهولندا واليابان.

إيران وتركيا تلحقان بتكنولوجيا المسيّرات البحرية
وفي هذا الإطار، يشرح الخبير العسكري الإيراني، مهدي بختياري، أنه “في الحروب الحديثة، زاد استخدام المعدات من دون طاقم كثيراً، أشهرها الطائرات المسيّرة من دون طيار والتي باتت معروفة لدى الجميع”. ويضيف أن “الدول التي تستخدم تقنية المسيّرات البحرية صغيرة الحجم والفاعلة، في العالم، حالياً، قليلة جداً، متوقعاً مزيداً من الإقبال الدولي على هذا النوع من المسيّرات، كما حدث مع الطائرات المسيّرة من دون الطيار.

ويوضح بختياري، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن المسيّرات البحرية عبارة عن “قطع بحرية عائمة غير مأهولة موجهة عن بعد”. ويعزو الخبير الإيراني العسكري احتماء الدول بالتقنيات والمعدات العسكرية غير المأهولة إلى عوامل عدة، أبرزها أنها لا تخلف خسائر في الأرواح في حال استهدافها، ثم أن كلفتها المالية زهيدة، لكنها مفيدة في استخدامات كثيرة ومتعددة في الوقت ذاته، منها في مجال الرصد والاستطلاع وجمع المعلومات.

وفي السياق، يلفت بختياري إلى أن المسيّرات البحرية، التي يكثر أخيراً الحديث عنها، تستخدم غالباً في مجال جمع المعلومات (التجسس)، سواء لجمع السيغنالات (الإشارات) أو رصد السفن والقطع البحرية. ويشير في هذا الإطار إلى أن الحرس الثوري الإيراني، الذي تسلّم منذ عام 2008 مسؤولية أمن الخليج من القوات المسلحة الإيرانية، “أصبح يركز على إنتاج واستخدام مثل هذه المعدات البحرية”.

وبحسب قوله، فإن إيران هي من الدول العشر الأولى في العالم في استخدام التقنيات العسكرية الآلية المسيّرة. ويلفت إلى أن “القوات المسلحة الإيرانية توجهت نحو صناعة غواصات غير مأهولة ومسيّرات بحرية غير مأهولة، فتمكنت من صناعة بعضها وتعمل على إنتاج البعض الآخر”. وإذ يشير إلى أن “لا معلومات دقيقة عن المسيّرات البحرية الإيرانية، لكن سبق أن أعلن أننا نمتلكها ونستخدمها”، يوضح أنه في مناطق كالخليج الذي يعد ممراً مائياً مغلقاً وغير عميق، “لا حاجة للمعدات المتقدمة والكبيرة، فالطرادات أو الغواصات الكبيرة مثلاً لا تتصف بفاعلية كبيرة في هذه المياه، ما يدفع إلى التوجه نحو المعدات الأكثر فاعلية في هذه المنطقة المائية الحسّاسة”.

من جهته، يشرح عبد الله آغر، وهو خبير أمني وعسكري تركي وعضو الهيئة التدريسية في جامعة “باهتشة شهير” (إسطنبول)، ومؤلف كتب عدة في ميدان الأمن والجيش، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، أن “الذكاء الصناعي وأنظمة التحكم الذاتي ونصف التحكم الذاتي، وأنظمة التحكم بالمسيّرات عن بعد، كلها لها دور مهم في الصراعات المستقبلية، مع تقليل مخاطر مواجهة الإنسان للإنسان بشكل مباشر، وحصرها عبر هذه الأنظمة، وهو ما يؤدي إلى نشوء عقيدة جديدة من الحرب مستقبلاً”.

ويضيف آغر: “نرى حالياً تطبيقات ميدانية، ولكن الأهم في المسيّرات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، مسألة الحروب الجديدة وفلسفتها وشكلها، إذ تتغير بشكل كلّي”. ويعتبر أن “المسيّرات البحرية المستخدمة هي ميدان مهم في العالم وفي تركيا، وغيرها من الدول، حيث تعمل الدول على تطويرها وتحقيق نقلة نوعية في هذا المجال، والذي يمكن من خلاله التأثير في الحروب من خلال أنظمة تسليح تستخدم منصات خفيفة، وأنظمة مراقبة جديدة”.

ويلفت الخبير الأمني التركي إلى أنه “من خلال المسيّرات البحرية، يمكن القيام بمهام تقوم بها حالياً بشكل تقليدي السفن الكبيرة”. ويشرح أن “هذه المسيّرات لها مواصفات مهمة، منها دمجها مع المسيّرات الجوية، ويمكن أن تعمل معها في المعارك بشكل مشترك، أو أن تعمل بشكل مستقل، وبالتالي تؤدي إلى فلسفة حرب جديدة، وتكتيك واستراتيجية جديدين، تقوم بها بلدان عديدة في العالم، تعمل على إنتاج وتطوير هذه الأنظمة”.

ويشرح الخبير الأمني التركي أن “الولايات المتحدة هي الأكثر ريادة في العمل على إنشاء المسيّرات البحرية، وهي تعي أهميتها، كما أن روسيا تعمل في هذا الإطار، والصين”. ويعرب آغر عن اعتقاده بأن “تركيا تأتي بعد هذه الدول، كما أن بريطانيا تسعى للحصول على المسيّرات البحرية، وكذلك وقطر والإمارات وإيران تحاول تحقيق تقدم في هذا المجال”.

ويختم الباحث التركي حديثه بالتأكيد أن “أهمية المسيّرات البحرية تكمن بأن السيطرة على العالم تنبع من السيطرة على البحار، إذ إن 90 في المائة من حركة التجارة تجرى عبر البحار، ومن يسيطر على البحار يسيطر على العالم”.

يذكر أن تركيا كانت كشفت، في يونيو/حزيران الماضي، عن قارب “سانجار” المسيّر المسلح، وهو نتاج صناعة مشتركة بين شركتي “يونجا – أونوك” و”هافلسان” التركيتين المتخصصتين في الصناعات الدفاعية.

العربي الجديد