يتزامن الشهر الفائت –أغسطس 2022– مع مرور عام كامل على انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان بعد عشرين عاماً من احتلالها وتغيير نظام حكم طالبان فيها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وتتميز الولايات المتحدة بتاريخ طويل من التدخلات العسكرية والحروب التي شنتها عادةً حماية لمصالحها وتحقيقاً لأهدافها الاستراتيجية منذ أن أصبحت دولة كبرى في نهايات القرن التاسع عشر. وفى كثيرٍ من الأحيان، تقوم مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والجامعات ومراكز الفكر بمراجعات شاملة لتلك التدخلات التي فشلت فيها الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها، واستنزفت فيها كثيراً من مواردها البشرية والمادية والوقتية دون مكاسب تضاهي حجم تلك الموارد المستنزفة وذلك كله أملاً في تحصيل الدروس المستفادة من تدخل ما والحيلولة دون الوقوع في الأخطاء نفسها في المستقبل.
ومن أبرز المراجعات التي تمت في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، مراجعات ما بعد هزيمتها في حرب فيتنام عام 1973، ونتج عن هذه المراجعات إصدار قوانين جديدة تنظم استخدام الدولة لقوتها العسكرية ووثائق تقدم إرشادات عن أفضل الممارسات في توظيف هذه القوة مثل وثيقة واينبرجر لعام 1984. وعلى ذلك، فإن تجربة الولايات المتحدة في أفغانستان وفشلها في إعادة بناءها وتحويلها لدولة مستقرة حليفة لواشنطن استدعت عدة مراجعات وأنماطاً من النقد الذاتي، مثل تداول الكونجرس مشروع قانون يقضى بتشكيل لجنة حرب أفغانستان والمناط بها مراجعة كل سياسات الولايات المتحدة تجاه أفغانستان منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى انتهاء الحرب وانسحاب القوات الأمريكية، واستخلاص أهم العبر، وتقديمها للكونجرس في صورة تقرير شامل يُسلم بعد أربع سنوات من انعقاد الجلسة الأولى لتلك اللجنة.
كما تتزايد حالياً وتيرة الحملات السياسية التي تقوم بإلقاء اللوم على أطرافٍ بعينها كالحزب الجمهوري وإدارة الرئيس ترامب أو الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس بايدن وتحميل أحدهما مسئولية هذا الفشل لا سيما مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم ومحاولة الحزبين إحراز بعض المكاسب الانتخابية التي تؤدى بهما إلى تحقيق الأغلبية في مجلس النواب ومجلس الشيوخ. إلا أننا سوف نستعرض هنا ونلقى الضوء في هذه المساحة على إحدى أهم تلك المراجعات الاستراتيجية التي تدور في الأروقة الأكاديمية والبحثية الأمريكية، وهى مراجعة صحة خوض الولايات المتحدة لعملية إعادة بناء دولة حديثة في أفغانستان من عدمه، وترجيح البعض لسياسة بديلة – سياسة مكافحة الإرهاب فقط- التي ربما كانت أكثر فاعلية في تحقيق الأهداف الأمريكية دون الحاجة للتورط في إعادة بناء دولة ودون الحاجة لتحمل الكُلفة الباهظة التي عادةً ما تصاحب هذه النوعية من التدخلات العسكرية وما يتبعها من سياسات في مرحلة ما بعد الحرب.
جدل ما بعد الحرب
تتفق بعض الدوائر الأكاديمية والبحثية مع موقف الرئيس بايدن الذى أعلنه حين قرر سحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، بأن الولايات المتحدة أخطأت حين قررت إعادة بناء دولة أفغانستان، كعلاج سياسي لظاهرة توطن الجماعات الإرهابية هناك، وأنه كان على واشنطن توجيه طاقاتها صوب هدف واحد ومحدد وهو مكافحة الإرهاب فقط وتعقب تنظيم القاعدة وقياداته، دون الشروع في بناء مؤسسات سياسية وعسكرية ومحاولة تغيير بعض قيم المجتمع الأفغاني. ويرى مؤيدو تلك المراجعة أنه كان من الصعب منذ بداية الاحتلال بناء دولة على النسق الحديث في أفغانستان للأسباب التالية:
أولاً: غياب مصالح استراتيجية كبرى: لم يكن لواشنطن في تاريخها المعاصر مصالح حيوية في أفغانستان تبرر ضرورة إعادة بناءها في أعقاب احتلالها عام 2001، ولعل غياب تلك المصالح الحقيقية، مثل أهمية أفغانستان لاستقرار النظام الدولي سواء بسبب موقعها الجغرافي أو مواردها الطبيعية أو وقوعها داخل مناطق النفوذ الأمريكي التقليدي، هو الذي أدى بالولايات المتحدة إلى كثير من التقصير في توفير الموارد المادية والعسكرية الضخمة اللازمة لمثل هذا النوع من التدخل مقارنة بتجارب أخرى لها، ويدلل على ذلك تقرير صدر من مؤسسة راند للأبحاث عام 2003. ويظهر التقرير أن أفغانستان هي أقل الدول حصولاً على موارد أمريكية خلال العامين الأولين للاحتلال، من حيث عدد القوات العسكرية الموجودة على الأرض وقيمة المعونات المالية المقدمة، وذلك بالمقارنة بتدخلات عسكرية أخرى للولايات المتحدة في دول مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو وألمانيا الغربية، على الرغم من أن أفغانستان تعاني من حالة فقر مزمنة.[1] كما سبب أيضاً غياب تلك المصالح تحول اهتمام إدارة الرئيس بوش الابن سريعاً عن احتلال أفغانستان وإدارتها إلى احتلال العراق عام 2003، بعد تغيير نظام طالبان بسهولة.
ثانيًا: غياب التوافق الإقليمي على قيام الدولة: منذ بداية الاحتلال، أهملت الولايات المتحدة الجانب الإقليمي للحرب في أفغانستان، وبالرغم من دعوتها لحلفائها التقليديين من أوروبا وشرق آسيا وحلف الناتو لتحمل بعض أعباء العمليات العسكرية وتدريب بعض قوات الجيش الأفغاني والشرطة الجديدة والمساهمة في إنشاء بعض مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى دعوة الأمم المتحدة لتقديم دعمها للعملية السياسية هناك، إلا أن واشنطن همَّشت، إلى حد كبير، الدول المجاورة لأفغانستان، مثل باكستان وإيران، في عملية الإعداد لبناء نظام سياسي جديد، وبالتالي مارست تلك الدول المجاورة دورهم المتوقع في الحفاظ على مصالحهم في أفغانستان وحماية شركائهم المحليين، والعمل على التأكد من أن النظام الجديد في كابول لن يكون مناهضاً لهم أو يكون مَنفذاً لدول أخرى تسعى لزعزعة استقرارهم. ولذا، لم تكن بعض تلك الدول المجاورة مؤيدة لسياسات الولايات المتحدة، بل أعاقتها وقاومتها وإن كان في الخفاء وليس في العلن، فعلى سبيل المثال قامت باكستان بتقديم الدعم للولايات المتحدة في حربها ضد القاعدة، إلا أنها تجنبت مساندة واشنطن في تعقبها لعناصر حركة طالبان، ذلك لأن الحركة كانت بمثابة الحليفة الرئيسية لها والأقدر من منظورها على إبقاء أفغانستان في دائرة التحالف معها، وبالتالي سمحت إسلام أباد لكثير من عناصر طالبان بالبقاء على أراضيها، بل قدمت لهم الدعم العسكري والمعلوماتي خلال قتالهم للقوى السياسية الأخرى داخل أفغانستان. وكان على واشنطن في حال اهتمامها بنجاح تجربتها في أفغانستان إيجاد توافق إقليمي ما على قيام دولة أفغانية مستقرة وأن تُعمِل أدواتها الدبلوماسية على خلق هذا التوافق، وهو ما كان يتطلب التعامل مع صراعات إقليمية أخرى مثل الصراع الهندي- الباكستاني، ومحاولات بناء الثقة بين دول الإقليم، مما كان سينعكس بالإيجاب المباشر على بناء أفغانستان، خصوصاً وأنها دولة حبيسة وبالتالي كانت تعتمد على صور دعم مختلفة من جيرانها من الدول المجاورة.
ثالثًا: مساواة الولايات المتحدة في العداء بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان: منذ أن رفض الملا عمر زعيم حركة طالبان إنذار الولايات المتحدة عام 2001 لتسليم أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، ناصبت واشنطن الحركة العداء وساوت في عدائها بينها وبين تنظيم القاعدة، وعملت على إقصائها من نظام أفغانستان السياسي الجديد، واستهدفت قياداتها وقاتلت جميع أفرادها على السواء. وقد عارض بعض المراقبين الأمريكيين فيما بعد سياسة الولايات المتحدة تجاه طالبان، وحمّلوا تلك السياسة بعضاً من مسئولية فشل واشنطن في إعادة بناء دولة ما بعد الحرب. وعلل المراقبون ذلك بأن عداء الولايات المتحدة للحركة أهدر على واشنطن عدة فرص سياسية ربما كان من الممكن أن تساهم في نجاح تجربتها، لا سيما وأن كل تجارب الولايات المتحدة الناجحة في إعادة بناء الدول ارتبطت بتعاون وثيق بين واشنطن وبعض عناصر من النظام السابق الذي تم خلعه واستبداله. فعلى سبيل المثال، لجأت الولايات المتحدة إلى بعض القيادات العسكرية المهمة لجيش ألمانيا النازي لمساندتها عندما كانت تعيد بناء المؤسسات العسكرية والأمنية في ألمانيا الغربية أثناء احتلالها، كما أبقت الولايات المتحدة على منصب الإمبراطور ومؤسسته في اليابان أثناء احتلالها بعد الحرب العالمية الثانية، نظراً لأهمية تلك المؤسسة وثقلها السياسي في إنجاح عملية إعادة بناء الدولة، ورغبة في تقليص فرص مقاومة الاحتلال الأمريكي هناك.
وربما كان منطق احتواء المقاومة ووأدها قبل اشتعالها هو المنطق الذي كان يفترض أن يُحرِّك الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان كما يرى بعض المراقبين، وبالتالي يبرر هذا المنطق الانفتاح على قيادات جديدة وناشئة لطالبان رغبةً في تحييدها كخصم مقاوم للاحتلال وبناء الدولة الجديدة، والاستفادة أيضاً من بعض مقوماتها مثل دعم قبائل البشتون لها، ومهاراتها القتالية في فرض سيطرتها على معظم أراضي أفغانستان من قبل، فضلاً عن امتلاكها لمعلومات قيمة عن تنظيم القاعدة وأفراده. ومما يعزز من منطق احتواء الحركة أن بعض العناصر القيادية من طالبان قد حاولت بالفعل ولعدة مرات التواصل مع الولايات المتحدة والوصول إلى تفاهمات معها بعد نجاح الأخيرة في السيطرة النسبية على بلادهم في السنوات الأولى للاحتلال، غير أن ثقة إدارة الرئيس بوش الابن المفرطة في قوة الولايات المتحدة العسكرية، وإيمانها بعدالة احتلالها لأفغانستان ومعاقبة المتسببين في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ونزعتها الأحادية في تحقيق أهدافها حالت بينها وبين التفاهم مع طالبان، مما أدى في النهاية إلى زيادة الكُلفة السياسية والعسكرية على واشنطن وفشلها في بناء الدولة.
رابعًا: فاعلية سياسة مقاومة الإرهاب: يضاف إلى تلك التحديات التي سبق ذكرها بعض المميزات النسبية لسياسة مكافحة الإرهاب البديلة، منها أن الهدف محدد وملائم للوسيلة الرئيسية المستخدمة في تحقيقه وهي القوة العسكرية. بالإضافة الى قدرة الولايات المتحدة على قياس مدى كفاءتها في تحقيق هذا الهدف بالاعتماد على بعض المؤشرات العملية مثل ارتفاع أو انخفاض وتيرة الهجمات الإرهابية ضد مصالحها، وأعداد القتلى من العناصر الإرهابية، وأيضاً أعداد العناصر المقبوض عليهم من قبلها. فضلاً عن أن اعتماد الولايات المتحدة على قدرتها العسكرية في هذا المجال يقلل من حجم ونوعية الدعم الذي تحتاجه من شركائها الدوليين والإقليميين، كما أنه يُسهل على دول الجوار للدولة التي تعاني من الإرهاب تلبية احتياجات واشنطن من دعم سياستها والتعاون معها دون الحاجة إلى المساس ببعض مصالحها الحيوية التي ربما تكون أكثر تأثراً بمحاولات بناء نظام سياسي جديد في تلك الدولة. فضلاً عن أن التجربة العملية أثبتت كفاءة هذه السياسة بالنظر إلى نتائجها في دول أخرى مشابهة للحالة الأفغانية، فالولايات المتحدة كافحت الإرهاب فقط في بعض الدول العربية، مثل اليمن والصومال وليبيا، من دون أن تتورط في إعادة بناء مؤسسات تلك الدول، وتحمل تبعات ذلك النوع من التدخل، ورغم ذلك حققت نتائج إيجابية، من وجهة نظرها، دون تكاليف عالية، منها عدم وقوع هجمات إرهابية ضد مصالحها الاستراتيجية في الخارج أو داخل أراضيها.
من يحسم هذه المراجعات؟
ربما لن تنتهي هذه المراجعات، كما لم تنته مراجعات سابقة خاصة بحرب العراق، وحرب فيتنام، والحرب الأهلية في الصين، وحروب أخرى، وما يؤكد ذلك أنه حتى قرار الانسحاب من أفغانستان شابهه خلاف، حيث رأت إدارة الرئيس بايدن ومن قبلها إدارة ترامب ضرورة الانسحاب وإنهاء ما اشتهرت به الحرب إعلامياً بـ”الحرب المؤبدة”، والتركيز على التحديات الكبرى لواشنطن وبالأخص التنافس مع الصين، واحتواء روسيا. بينما فضلت بعض القيادات العسكرية وآخرون من قيادات الحزب الجمهوري إبقاء قوات أمريكية هناك ولو محدودة، قد تساهم في الحفاظ على النظام السياسي القائم وقتها منذ احتلال أفغانستان وتساند القوات الأفغانية في حربها ضد الحركة. وعلى ذلك، ستعيش تلك المراجعات حتى مغامرة واشنطن القادمة، وستؤثر تلك التجربة الطويلة في أفغانستان على مستقبل ونوعية التدخلات العسكرية التي ستقوم بها الولايات المتحدة، وربما تكون الحرب في أفغانستان هي آخر حروب الولايات المتحدة في الدول المهمشة في المستقبل القريب!
مركز الأهرام للدراسات