لم تنجح إيران بعد أربعة عقود بتقديم نموذج ناجح وملهم لحلفائها، ومن يرون أن محورها يحارب مؤامرات وهيمنة الغرب والاستكبار العالمي، في العالم العربي وخاصة الجيل الصاعد المحبط، وذلك بسبب تناقضاتها ومحدودية قدراتها وانجازاتها.
صحيح خضعت إيران لعقوبات هي الأقسى منذ قيام الثورة، ولكن إيران تتحمل كثيرا من اللوم بسبب مواقفها وسلوكها. روجت إيران في العقد الأول من ثورتها لنموذج عقائدي منفر ومستفز بالتلويح بتصدير الثورة، ومعاداة دول الجوار الخليجية. وعمقت الحرب العراقية الإيرانية الدموية على مدى ثمانية أعوام أزمة الثقة والشرخ بين ضفتي الخليج، لم يوقفها الخميني في السنة الثالثة بعد تحرير أراضيه من القوات العراقية، واستمر بخوض حرب عبثية، في معادلة صفرية، انتهت بتعادل مكلف.
وجدت الدول الخليجية نفسها مرغمة على الاصطفاف قبل قيام مجلس التعاون الخليجي وبعده مع العراق لمنع تمدد نفوذ إيران لتنفذ تهديدها بتصدير الثورة. وهكذا تحولت إيران الملالي لنظام شاه آخر يهدد أنظمة وشعوب الخليج. وتمسك إيران الثورة باحتلال الجزر الإماراتية ـ أبو موسى والطنب الكبرى والطنب الصغرى، بأنها جزر إيرانية واستعادتها تعني بحرا من الدماء! ونتساءل ما الذي تغير؟ وما الفرق بين نظام الشاه (شرطي الخليج) وإيران اليوم؟
تفتقد العلاقات العربية ـ الخليجية مع إيران منذ أيام الشاه، للثقة وتغيب مبادرات حقيقية وخطوات فعالة لبنائها. ويعمق مأزق الثقة، مشروع إيران وخطابها المتناقض بين أطروحات النظام السياسي، والتصعيد العسكري بقيادة الجناح المحافظ وذراعه الحرس الثوري،(الدولة العميقة)في النظام الإيراني بغطاء من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
أكثر ما يقلق الدول الخليجية والعربية معاً ليس مشروع إيران النووي، كما هو الحال في عقلية الغرب وإسرائيل، ما يقلقنا برنامج إيران الصاروخي، ومشروعها التوسعي في المنطقة العربية بتعويلها على وكلائها في تمددها وتدخلها في شؤون الدول العربية.
ترى الدول الخليجية ومعظم الدول العربية أن إيران تستقوي ببرنامجها النووي كرافعة لتمارس دور الند للند مع الغرب، وتنحني للعاصفة كما شهدنا في الاتفاق النووي مع مجموعة الدول الكبرى (5+1) عام 2015، خدمة لمشروعها. ونخشى منح إيران ضوءا أخضر لتمدد مشروعها تحت بصر إدارة بايدن والغرب، على خلفية سجال وإرهاصات تفاوض غير مباشر ومباشر حول الاتفاق النووي، برفع سقف المطالب الإيرانية لانتزاع مزيد من التنازلات.
أكثر ما يقلق الدول الخليجية والعربية معاً ليس مشروع إيران النووي، كما هو الحال في عقلية الغرب وإسرائيل، ما يقلقنا برنامج إيران الصاروخي، ومشروعها التوسعي في المنطقة العربية بتعويلها على وكلائها في تمددها وتدخلها في شؤون الدول العربية
تناور إيران اليوم لمزيد من التنازلات من إدارة بايدن التي اقتربت أكثر من أي وقت مضى لتوقيع اتفاق نووي جديد تأمل كسر عزلتها وحصارها ورفع العقوبات مقابل تجميد برنامجها النووي، بعدما اقتربت إيران من عتبة امتلاك سلاح نووي، وباتت كما تتوقع الاستخبارات الغربية مع استمرار تخصيب اليورانيوم بنسبة 60٪-أشار تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأسبوع الماضي، «تجاوز مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بـ60٪، 19 ضعفاً من المخزون المسموح به حسب الاتفاق النووي» مع (5+1) عام 2015 ـ انسحبت منه إدارة الرئيس ترامب عام 2018 ـ وردت إيران بالتخلي عن الالتزام بالعديد من بنوده المقيدة لبرنامجها النووي. لذلك بات امتلاك إيران كمية كافية من اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم لتفجير أول قنبلة نووية مسألة وقت، تُقاس بالأشهر! تخشى دول مجلس التعاون الخليجي، أن الاتفاق النووي، وتدفق مليارات الدولارات ورفع العقوبات عن إيران سيعيد عقارب الساعة إلى عام 2015 والذي كانت نتيجته سيطرة إيران على عواصم عربية، وتعزيز نفوذها ودورها الإقليمي. ويبقى السؤال كيف ستنعكس التنازلات لمنع إيران من حيازة القنبلة النووية على أمننا؟ ومقابل أي ثمن ستدفعه دولنا؟
برغم عقد خمس جولات من المفاوضات بين إيران والسعودية في العراق خلال عام ونصف، واهتمام إيران بالتقارب وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، وعودة العلاقات بين دول مجلس التعاون وإيران، لكن لم يتحقق أي اختراق. وبينما قطعت السعودية والبحرين علاقاتهما الدبلوماسية مع إيران في يناير 2016، وطردت السفيرين والطاقم الدبلوماسي، بعد احتجاجات واقتحام السفارة السعودية في طهران والقنصلية العامة في مشهد، احتجاجاً على إعدام السعودية رجل الدين الشيعي نمر النمر…تضامنت وخفضت دول مجلس التعاون التمثيل الدبلوماسي مع إيران باستثناء سلطنة عمان، بينما خفضت باقي دول مجلس التعاون الخليجي تمثيلها الدبلوماسي مع إيران. فيما أعادت دولة قطر سفيرها لطهران بعد تفجر الأزمة الخليجية، وأعادت الكويت والإمارات سفيريهما لطهران في أغسطس 2022، بعد مقاطعة دبلوماسية دامت 6 سنوات.
تمسك إيران بالعديد من الملفات المهمة والمؤثرة في أمن المنطقة. وتعلم أن أولوية السعودية إنهاء حرب اليمن بما تملكه إيران من نفوذ وتسليح للحوثيين. بينما تسعى إيران لمقاربة محدودة ومتدرجة لإعادة العلاقات، التي لن تكون طبيعية ولا استراتيجية، طالما تمسكت إيران بمشروعها. ولا يغيب عن بال السعودية والإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي، اعتداءات إيران على منشآتهم النفطية الحساسة وقواعد عسكرية ومطارات !وخاصة على منشآت أرامكو في خريص وابقيق بمسيرات وصواريخ بالستية في سبتمبر 2019. وعلى أبوظبي مطلع عام 2022.
وهكذا تبقى إيران برغم أهمية ومركزية حضورها ودورها قوة تشتيت بمشروع لا يعزز الأمن والاستقرار ولا يقدم نموذجاً ناجحاً وملهماً لحفائها وشبابهم، ولا تساهم بتعزيز الأمن والاستقرار الذي تسعى له دول وشعوب المنطقة العربية! حيث المشترك بين حلفاء وأذرع محور إيران، دول مأزومة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بانسداد أفق، وانهيار عملاتها وهجرة أدمغتها لحياة أفضل. كما هو الحال في لبنان وسوريا واليمن والعراق. ومع تراجع النموذج الإيراني وتراخي قبضتها ونفوذها وحضورها حتى داخل البيت الشيعي نفسه، كما شهدنا مؤخراً في العراق، ما يطرح السؤال المهم: هل تفاخر إيران بأنها رأس الحربة والمرجعية والمدافع الأول عن محورها وتقديم مشروع بديل، لا يزال مقنعاً وملهماً لجمهورها؟!
القدس العربي