مرة أخرى، يعود التوتر ليخيم على العلاقات بين تركيا واليونان. اتهمت الأولى الثانية بالتحرش بمقاتلاتها خلال مهمة لحلف الناتو، ثم توالت التصريحات الحادة من الجانبين، ثم عادت مراكب يونانية لتستهدف سفينة تجارية في المياه الدولية، وفق أنقرة.
حذر أردوغان أثينا من أن بلاده “قد تأتي بغتة ذات ليلة”، في إشارة رمزية لا تخلو من دلالة، لتبدأ أحاديث احتمالات الصدام العسكري والحرب.
في أجواء كهذه، ولا سيما على هامش الحرب الروسية الأوكرانية، تتجه الأنظار لموقف الحلف -وتحديدا الولايات المتحدة- من التوتر القائم.
الموقف التقليدي
إضافة إلى الموروث التاريخي بين البلدين، تختلف اليونان وتركيا على عدة ملفات، في مقدمتها القضية القبرصية وتسليح اليونان بعض الجزر في إيجه وترسيم الحدود البحرية بين البلدين بما ينعكس على التنافس على الثروات ولا سيما الغاز الطبيعي. ولذا، وتحديدا في العقود الأخيرة، بات الهدوء أقرب لحالة الاستثناء بين البلدين، بينما لا يكاد التوتر والتصعيد يخبوان حتى يعودان للواجهة.
كان التدخل التركي في قبرص عام 1974 موجها بشكل غير مباشر ضد اليونان، الدولة الداعمة للقبارصة اليونانيين، وفي 1996، كاد البلدان يصلان إلى المواجهة العسكرية المباشرة إثر خلاف على إحدى جزر بحر إيجه. وفي 2020 حصلت احتكاكات بين سفن البلدين في المتوسط، على إثر أنشطة التنقيب عن الغاز في المناطق المتنازع عليها، ويبدو أن موجة التوتر الحالية حلقة جديدة في سلسلة التوترات على أرضية القضايا الخلافية التي لم تحل حتى اليوم.
وفي كل هذه القضايا الخلافية كانت الولايات المتحدة تعلن وقوفها على الحياد بين الجانبين، بل تسعى أحيانا للتوسط بينهما، من باب أنهما عضوان في حلف الناتو وتجمعها مع كليهما علاقات تحالف وشراكة. ففي قبرص، بقيت واشنطن على موقفها من دعم جهود توحيد الجزيرة مع ميل للحل الفدرالي، واتخذت قرارا بوقف بيع الأسلحة للقبارصة حفاظا على التهدئة وكبح مسارات سباق التسلح بين الجانبين. كما أنها -منفردة أو عبر آليات الناتو- لعبت دور الوسيط بين الجارين اللدودين في التصعيد الأخير بينهما في صيف 2020، وبعدها استأنف الطرفان جولات الحوار الاستطلاعية.
انحياز نسبي؟
بيد أن السنوات الأخيرة حملت متغيرا فيما يبدو في موقف واشنطن نحو الانحياز النسبي لجانب اليونان وقبرص اليونانية. فقد اتخذت موقفا داعما لأثينا ومنددا بأنشطة التنقيب التركية، وفي ذروة التوتر بين الجانبين في 2020 زار بومبيو قبرص اليونانية، ومن هناك حض تركيا على “وقف الأنشطة التي تثير توترا في شرق البحر المتوسط”، ثم أعلن عن رفع بلاده حظر بيع الأسلحة لقبرص، كما زار اليونان بعد ذلك بشهر “لدعمها في مواجهة تركيا” في خلافهما الحدودي، وفق بيان لوزارة الخارجية الأميركية في حينه.
وشهدت السنوات الأخيرة تعزيز الولايات المتحدة وجودها العسكري في اليونان، بالتوازي مع توتر علاقاتها مع تركيا. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقع الجانبان اتفاقا لتحديث اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك بينهما، بما يتيح مساحة متزايدة للنشاط الأميركي في اليونان، ويسمح للقوات الأميركية بالتدريب والعمل في قواعد إضافية خارج قواعدها السابقة في البلاد. بناء واشنطن قواعد جديدة في اليونان وجزيرة كريت تحديدا، أثار انزعاج أنقرة، خصوصا أنه تزامن مع مناورات عسكرية مشتركة مع اليونان قرب الحدود التركية وفي فترات توتر بين أنقرة وأثينا.
ولذا فقد قلل الرئيس التركي من مصداقية السردية الأميركية بأن ارتفاع منسوب التعاون مع اليونان مقصود لمواجهة روسيا، موحيا بأنها تستهدف بلاده أيضا، وعدَّ وزير خارجيته المواقف الأميركية المستجدة “إخلالا بسياسة التوازن التي كانت تتبعها بين تركيا واليونان وبين جمهورية قبرص التركية وإدارة جنوب قبرص الرومية”.
ليس من السر أن إدارة جو بايدن ليست مرتاحة تماما للرئيس التركي ومواقفه من جملة من القضايا، آخرها الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت امتدحت بالتأكيد الجهود التركية في صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية، غير أن مشاركة أردوغان في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند قد تزيد من منسوب عدم الرضا الأميركي الذي كان عبر عنه الرئيس الأميركي خلال حملته الانتخابية.
أين تقف واشنطن؟
اليوم، ومع جولة توتر جديدة بين البلدين، يقول على هامشها جنرالات متقاعدون في الجانبين إن الحرب بينهما حتمية إن لم تكن اليوم فغدا، أين تقف الولايات المتحدة تحديدا؟
في المبدأ، ليس من مصلحة واشنطن أن ينشب صدام عسكري مباشر -فضلا عن حرب موسعة- بين دولتين داخل حلف الناتو، ليس والحلف -وعلى رأسه الولايات المتحدة- يخوض حربا بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، ويريد أن يعطي كامل تركيزه عليها ويبقى موحدا ودون معارك جانبية خلالها.
فقد دفعت الحرب الروسية الأوكرانية الحلف والاتحاد الأوروبي لإعادة تقييم التهديدات الأمنية المحيطة بأوروبا بعد الحرب، ومن ضمن ذلك الدور التركي المفترض والمنتظر إزاء هذه المهددات. ولذلك فكاتب هذه السطور لا يرى أن زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس لتركيا قبل أشهر، ولقاءه الرئيس التركي أردوغان وحديثه عن تغليب الحديث في ملفات التعاون بدل الملفات الخلافية؛ توجهٌ يونانيٌّ ذاتي، وإنما كانت الزيارة ضمنا باسم الكتلة الغربية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة.
لكن النظر بعمق لتطورات علاقات واشنطن بكل من أنقرة وأثينا في السنوات القليلة الأخيرة، يقول إنها ليست متماثلة. ففي جانب اليونان هناك حديث عن تعاون وثيق، واستعداد لبيعها مقاتلات “إف16” (F16) محدثّة وربما “إف 35” (F35) (طلبت اليونان ذلك)، وزيادة عدد القواعد العسكرية والمناورات المشتركة. وفي جانب أنقرة، هناك توترات متكررة وعقوبات وإخراج من مشروع مقاتلات “إف 35” ومماطلة في صفقة “إف 35” لتحديث المقاتلات التركية وشراء مقاتلات جديدة، وحديث في الكونغرس عن إمكانية البيع بشروط ترفضها تركيا.
وإذا كانت تركيا ترى في التعاون اليوناني الأميركي من زاوية ما تهديدا لها وأمرا يستهدفها، فإن ملف مقاتلات “إف 16″ بات حيويا بالنسبة لها، لارتباطه المباشر بموازين القوات الجوية في إطار أي مواجهة محتملة مع اليونان، وإمكانية أن يتحول أسطول الأخيرة الجوي لموقف متقدم على تركيا خلال السنوات المقبلة. ولذلك كان حديث أردوغان مؤخرا عن عدم حصر تركيا خياراتها بالـ”إف 16” إن استمرت المماطلة الأميركية، وأن لبلاده “خيارات بديلة” من ضمنها المقاتلات الروسية.
كما أنه ليس من السر أن إدارة جو بايدن ليست مرتاحة تماما للرئيس التركي ومواقفه من جملة من القضايا، آخرها الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت امتدحت بالتأكيد الجهود التركية في صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية. ولعل مشاركة أردوغان في قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند قد تزيد من منسوب عدم الرضا الأميركي، الذي كان عبّر عنه الرئيس الأميركي خلال حملته الانتخابية.
لكل ما سبق، يمكن القول إن الولايات المتحدة أقرب في الموقف لأثينا منها لأنقرة، وقد تجد في التوتر بين الجانبين فرصة لمزيد من الضغط على أردوغان وتركيا. كما أن التوتر بين البلدين مع احتمالات الصدام المباشر بينهما -وإن كانت احتمالات ضئيلة حاليا- مفيدة لواشنطن، حيث إنها تزيد من حاجة كليهما لموقفها ودعمها ودورها، مما يبقيها مرجعية للعاصمتين ويعطيها مزيدا من النفوذ عليهما من الناحية السياسية، وقد يمنحها عقودا إضافية بشروط أفضل معهما على صعيد ملف التسلح، كما حصل مع التوتر السابق في 2020 حين عادت واشنطن لبيع السلاح لنيقوسيا.
لا يعني كل ذلك أن واشنطن تريد حربا بين البلدين، وخصوصا في ظل المواجهة مع موسكو، بل المتوقع أن تسعى للوساطة بينهما في حال تدحرجت الأحداث، بشكل مباشر أو عبر بوابة الناتو. كما تظهر تصريحات المسؤولين وبيانات الخارجية الأميركية قدرا من الحياد المتوقع المبني على “حثّ الجانبين” على الهدوء والعودة للحوار وتجنب الصدام، ومن ضمن ذلك مسح حساب يعود لحلف الناتو على تويتر تغريدة تهنئ تركيا بـ”عيد الظفر” نهاية الشهر الفائت، والذي يحيل إلى معركة بين الأتراك واليونانيين، بعد احتجاج أثينا، حتى لا يحسب كموقف منحاز لأحدهما وسط التوتر.
ولعل مما يقلل من مستوى الانخراط الأميركي في التوتر الحالي التقدير بأنه مؤقت وعابر ولن يؤدي لصدام ميداني بين البلدين. لكن ثمة تخوفات من أن تؤدي أجواء الانتخابات التي ستسود البلدين خلال الأشهر المقبلة إلى ارتفاع مستوى التوتر ورفع مخاطر الصدام، وهو ما يفترض أن يقرع ناقوس الخطر لدى الجانبين، أنقرة وأثينا، وبينهما واشنطن.
الجزيرة