على الرغم من مَيْل طهران إلى المبالغة في إنجازاتها البحرية وقدراتها في المياه الزرقاء، إلّا أن الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في هذا القطاع تحقق تقدماً كبيراً في المنطقة.
في 5 أيلول/سبتمبر، أطلقت “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي»” سفينة “الشهيد سليماني”، وهي الأولى من بين ثلاث طرادات (كورفيتات) صواريخ جديدة على الأقل من طراز “قطمران” ولها ميزات تَخفّي محتملة. وووفقاً لقائد “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” الأدميرال علي رضا تنكسيري، ستزيد هذه السفن من مدى عمليات القوة البحرية خارج الخليج العربي إلى مسافة تبلغ 9000 كلم، والتي قد تغطي المحيط الهندي بأكمله وصولاً إلى كيب تاون. ولطالما تطلّعت “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” إلى إرسال سفن حربية إلى المياه القريبة من الولايات المتحدة كإنجاز دعائي وإظهار للتحدي، لكنها لم تنجح كثيراً حتى الآن في العمليات البحرية البعيدة المدى – على الرغم من الرحلة البحرية التي قامت فيها “القوات البحرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية” بنشر الناقلة العملاقة المُعدّلة “مكران” وسفينة أخرى في سانت بطرسبرغ، روسيا، في تموز/يوليو 2021، حيث أبحرتا في طريق ملتف حول إفريقيا ودخلتا البحر الأبيض المتوسط وخرجتا منه.
وخلال حفل إطلاق سفينة “الشهيد سليماني” التي تحمل رقم FS313-01، وصف قائد «الحرس الثوري الإيراني» اللواء حسين سلامي السفينة الحربية المصنوعة من الألمنيوم بأنها قمة جديدة بلغتها إيران في منافستها الاستراتيجية كقوة عالمية عازمة على فرض هيمنة على خصومها في المنطقة. ووفقاً له، “يصل مجال الأمن القومي [للبلاد] ونطاقه إلى حيث تكمن مصالحنا” – والتي تشمل البحار البعيدة إذا ما قررت “هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة” ذلك.
قدرات السفينة الجديدة
تشبه سفينة “الشهيد سليماني” من حيث طولها (البالغ 65 متراً) وقدرتها طراد الصواريخ التايوانية من فئة “توه شيانغ” (Tuo Chiang) التي أُطلقت في عام 2014، وهي مصممة لدعم الطلقات النارية الوقائية وتوفيرها للقوارب المسلحة العالية السرعة بعيداً عن المياه الإيرانية. ويشمل ذلك القوارب الثلاثة التي يمكن أن تحملها بنفسها. وقد صُممت الفئة التايوانية لمواجهة السفن البحرية الصينية من خلال تكتيكات الكر والفر وسُميت “مدمّرة حاملات الطائرات”. وأُطلق اللقب نفسه على قارب صواريخ صيني أصغر حجماً من النوع 22 وطراز “القطمران”، والذي حاولت إيران شراءه في السنوات الماضية وفقاً لبعض التقارير، قبل إنتاج فئتها الخاصة (حيث رفضت بكين بيعه [لها]). كما تزعم “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” أن سفينة “الشهيد سليماني” هي سفينة “شبح” لها مقطع عرضي للرادار خاص بقارب صغير، على الرغم من أن قدراتها الفعلية في هذا الصدد غير مؤكدة.
وفيما يتعلق بأنظمة الأسلحة، فإن السفينة الجديدة هي السفينة الحربية الإيرانية الأولى المزودة بقاذفات عمودية يمكنها إطلاق صواريخ مضادة للطائرات يصل مداها المزعوم إلى 150 كيلومتر. كما يمكنها استخدام ست قاذفات صندوقية لإطلاق صواريخ مضادة للسفن مثل “ناصر” (“نصير”) و”قادر” و”قدير”، بمدى يتراوح بين 35 و 300 كيلومتر. ودفعت هذه القدرات مجتمعةً المسؤولين الإيرانيين إلى الادعاء بأن سفينة “الشهيد سليماني” لديها “مدى فتّاك” يزيد عن 750 كيلومتر. ومن المؤكد أن إيران تملك أساساً أنظمة أسلحة أخرى تصل إلى هذا المدى أو تتجاوزه، مثل صاروخ “أبو مهدي”، الذي هو صاروخ كروز مضاد للسفن ومخصص للهجوم الأرضي الذي تم الكشف عنه في عام 2020، والذي يمكن أن يصل مداه بين 700-1000 كيلومتر وفقاً لبعض التقارير. ومع ذلك، يمكن لسفينة “الشهيد سليماني” أن توسع مداها إلى حدٍ كبيرٍ (وإن كان ذلك بضربة أقل تدميراً) من خلال إطلاق طائرات مسيرة انتحارية مثل “شاهد-131” أو “شاهد-136″، والتي يمكن أن تضرب أهدافاً على بُعد 1000 كيلومتر. (أو حتى 2200 كيلومتر وفقاً لبعض المصادر غير المؤكدة) وقد تكون السفينة قادرة أيضاً على إطلاق صاروخ كروز “قدس-1/2” وصاروخ “المادة 385” الكروز الحائم المضاد للطائرات، وهما صاروخان زوّدتهما إيران سابقاً لقوات الحوثيين في اليمن.
وبالنسبة لقدرات الحرب الإلكترونية، تفيد بعض التقارير بأن السفينة قادرة على حمل معدات كبيرة من هذا النوع، تشمل قاذفات الأفخاخ المتقدمة. غير أن سفية “الشهيد سليماني” في تشكيلتها الحالية تحتوي على حد أدنى من المعدات الإلكترونية المركَّبة.
إن قوارب “القطمران” أسرع بشكل عام وأكثر قدرة على المناورة من السفن التقليدية، وتوفر استقراراً أفضل وصموداً في البحار عند الظروف الأقسى بفضل تصميمها المزدوج البدن. وهذا يجعل إغراقها أكثر صعوبة – على الرغم من أن هياكل السفن المصنوعة من الألمنيوم تميل إلى الذوبان بسرعة إذا اشتعلت فيها النيران بواسطة لغم بحري أو صاروخ أو مقذوف آخر (كما حدث عندما تحطم طواف بحري تشغله الإمارات العربية المتحدة من خلال إطلاق صاروخ حوثي واحد في تشرين الأول/أكتوبر 2016 أثناء عبور الطواف مضيق باب المندب).
صناعة بناء الطرادات البحرية في طَور التكوين
يتم حالياً بناء المزيد من طرادات الصواريخ من نفس نوع كورفيت “الشهيد سليماني” في أحواض بناء السفن في بندر عباس وجزيرة قشم وبوشهر، وتزعم “القوات البحرية لفيلق «الحرس الثوري»” أنها ستطلقها بمعدل سفينة واحدة سنوياً، مما يشير إلى سرعة الإنجاز في الجدول الزمني. والجهة المقاوِلة الرئيسية لهذا البرنامج هي شركة “الشهيد محلاتي للصناعات البحرية” التابعة لـ “القوات البحرية لفيلق «الحرس الثوري»”، حيث تعمل شركتا وزارة الدفاع “شهيد دارفيشي” و”الشهيد محبوبي” كجهتين مقاولتين فرعيتين.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2018، أقر البرلمان الإيراني قانوناً يدمج كافة المصانع البحرية والمجموعات الصناعية التابعة لوزارة الدفاع في كيان واحد، وهو “منظمة الصناعات البحرية للقوات المسلحة”. وتُنتِج هذه الشركات بشكل جماعي كل شيء بدءاً من القوارب السريعة الصغيرة ووصولاً إلى السفن الحربية بحجم الفرقاطة والغواصات المتوسطة وناقلات “أفراماكس” (Aframax) ومحركات الديزل والقاذفات المائية وعلب التروس وما إلى ذلك، بهدف جعل الإنتاج البحري المحلي في إيران يتمتع بالاكتفاء الذاتي الكامل. وقد يتم تسهيل هذا الهدف من خلال واقع كَوْن الصناعات البحرية الإيرانية كما يُعتقد أقل تأثراً بالعقوبات الأمريكية من صناعاتها في مجال الطيران والصواريخ.
التداعيات الاستراتيجية
تعترض إيران بشدة على الوجود البحري الأمريكي في مياه الشرق الأوسط، حيث أشار مسؤولو “القوات البحرية لفيلق «الحرس الثوري»” إلى أنهم يعملون يومياً على إعداد ترسانتهم وتوسيعها بهدف صد القوات الأمريكية. كما ظهرت مهمة رئيسية أخرى على مدى العامين الماضيين وهي: ردع إسرائيل عن توسيع نطاقها البحري إلى المياه القريبة من إيران بعد تطبيع القدس لعلاقاتها مع الإمارات والبحرين. وتعمل طهران أيضاً على توسيع وجودها “الأمني البحري” المفترض في البحر الأحمر بعد وقوع سلسلة من الضربات ضد السفن الإيرانية المتواجدة هناك، حيث بلغت ذروتها في هجوم نيسان/أبريل 2021 على سفينة “سافيز”، وهي مستودع عائم للأسلحة/التجسس.
بالإضافة إلى ذلك، يشير مسؤولو “القوات البحرية لفيلق «الحرس الثوري»” إلى أن المرشد الأعلى علي خامنئي قد دعاهم إلى توسيع نطاق وصولهم إلى “البحار البعيدة”، واضعاً هذه المهمة في إطار التكملة لـ “مسؤولية المياه الزرقاء الاستراتيجية” التي تقع على عاتق “القوات البحرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية”، ولكنها تبدو أشبه بالمنافسة المباشرة مع هذه القوات. وعلى أي حال، حالما تُكمل سفينة “الشهيد سليماني” فترة تجربتها البحرية المطوّلة، فقد تمنح فئة هذه السفينة الجديدة “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” قدرات جديدة مهمة – أي النشر بعيد المدى لقوارب الصواريخ، والصواريخ المضادة للسفن/المضادة للطائرات، والطائرات بدون طيار. وإلى جانب السفينتين الأم/سفينتَي إعادة التزويد المحولتَين، وهما “الشهيد رودكي” (L110-1) و”الشهيد مهدوي” (110-3)، من المرجح أن تتيح الطرادات الجديدة مواصلة عمليات “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” إلى أماكن أبعد في المحيط الهندي وربما خارجه، والتي تشمل دعم مهام القوارب السريعة الأصغر حجماً والأكثر سرية.
ومن المؤكد أن “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” اعتادت على المبالغة في إنجازاتها في الماضي، ولا تزال قدراتها الإجمالية بعيدة كل البعد عن القدرات الأمريكية كماً ونوعاً على حدٍ سواء. ومع ذلك، لا يمكن إنكار تقدّمها المتواضع نحو العمليات المستمرة في المياه الزرقاء، وهناك عدد من السيناريوهات التي يمكن أن تشكل تهديداً كبيراً لأصول “القوات البحرية الأمريكية” ومنشآتها، ناهيك عن الحرية الدولية في التجارة والملاحة. وفي المرحلة القادمة، ربما من المتوقع أن تتسبب أصول “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” بمشاكل في أماكن تتجاوز المحيط الهندي، وذلك لتحويل الانتباه والموارد عن الخليج العربي وتعطيل مبادرات الأمن البحري الإقليمية على حد سواء. كما قد تسعى إيران إلى إبراز قوتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط ومرافقة سفن الشحن التي تحمل الأسلحة إلى الموانئ السورية، خاصةً الآن في الوقت الذي تضغط فيه إسرائيل بشكل متزايد على مراكزها اللوجستية الجوية والبرية في عمق سوريا أكثر فأكثر.
ووفقاً لذلك، على الولايات المتحدة وشركائها التدقيق عن كثب في الدور المتطور الذي تضطلع به “القوات البحرية لـ «فيلق الحرس الثوري»” وفي تطويرها للأنظمة الجديدة. وهذا صحيح اليوم بشكل خاص لأن القاعدة الصناعية المحلية الخاصة بإيران بدأت تدريجياً في اللحاق بالركب وإنجاز المنصات المناسبة والأنظمة الفرعية المرتبطة بها، سواء من خلال بنائها من الصفر أو عبر تحويل السفن التجارية واستخدامها مجدداً لأغراض أخرى.
معهد واشنطن
فرزين نديمي