قمة سمرقند وتعميق الخطوط الفاصلة

قمة سمرقند وتعميق الخطوط الفاصلة

بعد عشرين عاماً من التأسيس والعمل على تنسيق المواقف حول قضايا تنموية، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز التبادل التجاري بين الأعضاء بالعملات المحلية، وعلى وقع التحول الدرامي في أوكرانيا، حيث حررت الأخيرة مساحة كبيرة شمال شرقي البلاد من سيطرة القوات الروسية، فضلاً على مواجهات عسكرية بين قيرغيزستان وطاجيكستان، وهما من المؤسسين، شهدت قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عقدت في سمرقند مسعى آخر، ومتجدداً يهدف لإعادة هيكلة النظام الدولي على غير القواعد الحاكمة التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها، تجسيداً لهيمنة أميركية غربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. البلدان القويان في المنظمة، وهما الصين وروسيا، تقودان هذا المسعى، وهما لا تفرطان في أي مناسبة ثنائية أو جماعية للحديث وللتأكيد على ضرورة أن يكون النظام الدولي تعددياً خالياً من هيمنة أحد الأطراف على مجمل مسيرته وقضاياه.
في القمة المذكورة، جاءت كلمات الرئيسين شي وبوتين في سياق متقارب، أساسه أن يتعاون الطرفان في تحويل النظام الدولي إلى نظام تعددي قائم على التعاون الرشيد والدفع الدائم للتنمية المستدامة وأكثر عدالة. فيما يشير إلى معاناة الطرفين تحديداً من حالة النظام الدولي الراهنة، والتي تبدو معاكسة تماماً لمصالحهما المشتركة ولطموحاتهما السياسية والاقتصادية على الصعيد الكوني.
وما يلفت النظر هنا ما عبر عنه الرئيس شي للرئيس بوتين بالقول: «نرغب كقوى عظمى في بذل جهود مع روسيا، من أجل أداء دور توجيهي لبث الاستقرار والطاقة الإيجابية في عالم تهزه اضطرابات اجتماعية»، داعياً قادة المنظمة إلى تعزيز العمل المشترك لتعزيز نظام دولي يتحرك في اتجاه أكثر عدلاً وعقلانية، والتخلي عن السياسة القائمة على تشكيل كتل.
تأكيد الرئيس شي على أن بلاده وروسيا من القوى العظمى تم ربطه بلعب دور إيجابي، ما يتطلب التوقف للحظة تأمل. بعض التعليقات الغربية رأت في هذه العبارة تحديداً قدراً من التوبيخ المبطن للرئيس بوتين، على خلفية العملية العسكرية في أوكرانيا، باعتبار أن تلك العملية أثارت الكثير من القلق الدولي، وأثارت اضطرابات اجتماعية ودفعت الغرب إلى التصعيد سواء ضد روسيا أو الصين ذاتها. وهو ما لا يتوافق مع السلوك الرشيد المفترض للقوى العظمى. وهو تفسير يمكن الأخذ به جزئياً وليس على إطلاقه، فوفقاً للعقلية السياسية الصينية، شير دعوة الرئيس تشي إلى مسؤولية خاصة لبلده بالتعاون مع روسيا لتحقيق الهدف الأبعد وهو عالم أكثر عدلاً وعقلانية، أي أقل ارتهاناً للأحادية القطبية الأميركية. بينما تسعى موسكو إلى تعزيز الهياكل المؤسسية والفعالة والبديلة للمؤسسات التي يسيطر عليها الغرب، وهو ما يتكامل مع الرؤية الصينية، ولا يتناقض معها.
ويلاحظ هنا أن المفهوم الصيني بشأن النظام الدولي قد تطور خلال العقود الثلاثة الماضية، من المناداة بعالم متعدد الألوان وفقاً لوثائق الحزب الشيوعي الصيني في عام 1998، والذي يعني تقبل اختلاف الأنظمة السياسية على ما هي عليه، وعدم التدخل الخارجي لتغيير الحكومات، إلى عالم متعدد الأقطاب منذ نهاية التسعينات في القرن الماضي، إلى الرفض الصريح للأحادية الأميركية منذ عقد تقريباً، وأخيراً وضع مسار تعاوني مع أبرز القوى الدولية الرافضة بدورها لتلك الأحادية، بهدف إيجاد البديل.
تطور المفاهيم الصينية بشأن النظام ارتبط أساساً بتطور الاقتصاد الصيني من جانب، وبالضغوط الأميركية من جانب آخر، والتي وصلت إلى قمتها بوصف الصين في وثيقة «التوجيهات الاستراتيجية المؤقتة» الصادرة في مارس (آذار) 2021 أي بعد 15 شهراً على تولي الرئيس بايدن، «كمنافس محتمل وحيد قادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية، وتشكيل تحدٍ مستدام، وفقاً لما تقره الوثيقة «بالاستقرار والنظام الدولي المفتوح».
الصين وروسيا الآن تتفقان على أن لديهما مهمة كبرى، تحمي مصالحهما المشتركة وتساعدهما على ممارسة أعباء القوى الكبرى، من أجل عالم رشيد يحقق الاستقرار والتنمية ويحول دون الاضطرابات المصطنعة التي يبرع فيها الغرب لإلهاء باقي العالم عن الحفاظ على مصالحه الحيوية. وكلاهما ورغم تباينات حول قضايا مختلفة تدور حول كيفية تنظيم النفوذ في منطقة أوراسيا التي تهم البلدين كثيراً كل على حدة، فإنهما يحتاجان لبعضهما بعضاً بقوة لم تكن موجودة دوافعها من قبل، فالاستفزازات الأميركية حسب التعبير الصيني تزداد يوماً بعد يوم بشأن تايوان، والتهديدات الأميركية المدعومة أوروبياً ومن قبل الناتو ترتفع يوماً بعد آخر بالنسبة لموسكو، سواء كانت هناك حرب في أوكرانيا أو لم تكن أصلاً. هكذا فثمة عدو أو مصدر تهديد واحد لكليهما ولأمنهما القومي المباشر وفقاً للقناعات السائدة في العاصمتين بكين وموسكو، ما يجعل الأمور والمشاغل الأخرى التي تشهد تبايناً ما في أسفل الاهتمامات حالياً.
ومنطقياً يبدو التعاون لمواجهة مصدر التهديد هذا أمراً واجباً، والسؤال إلى أي مدى يمكن للطرفين أن يتعاونا معاً لاحتواء التهديد ووفق أي آليات؟ المؤكد أن مبدأ التعاون في حد ذاته لا غبار عليه، وتم ويتم التأكيد عليه من قبل مسؤولي البلدين الكبار، ولكن عملياً ثمة قيود كثيرة تضعه في إطار ضيق إلى حد بعيد قياساً بحجم التوافق تجاه مصدر التهديد، فالصين وإن تفهمت دوافع موسكو في حرب أوكرانيا، إلا أنها لم تصل بعد إلى حد مساندة الموقف الروسي وتأييده بوضوح كامل؛ إذ إن الأعين الصينية موجهة بالأساس إلى الموقف الأميركي وما قد يحمله من ضغوط وقيود تجارية وغير تجارية، إن تمادت في تأييد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ويكفيها ما تتعرض له الآن من استفزازات واختبارات سياسية وعسكرية وأمنية ودعائية بشأن تايوان، والتي قد تنسف تماماً صيغة صين واحدة التي تدعي واشنطن أنها تلتزم بها علناً، في حين ما تقوم به على الأرض، يناقض تلك الادعاءات.
وكشأن دول عديدة، كالهند وهي المثل الأبرز، استفادت وتستفيد من العقوبات الأميركية الأوروبية المفروضة على روسيا، لا سيما في مجال استيراد النفط والغاز الروسي بأسعار أقل من الأسعار العالمية، بل إن بعضها يعيد بيع جزء من النفط الروسي الزهيد الثمن بأسعار عالمية لمن يريد، تلعب الصين الدور نفسه سواء في اقتحام السوق الروسية بالسيارات المحلية الصنع، أو الهواتف المحمولة أو السلع الكهربائية، مقابل شراء النفط والغاز بأثمان أقل، وفي الآن نفسه تتوالى بعض مظاهر التعاون العسكري في مجال التدريب بين قوات البلدين، كرسالة لمن يراقب ويتابع بأن البلدين قادران على مواجهة الضغوط والتهديد من مصادر مختلفة، وراغبان في مساندة بعضهما عسكرياً إن تطلب الأمر. وهي رسالة لم تترجم بعد عملياً في أوكرانيا، وحتماً ستواجه الاختبار الأكبر إذا طورت بكين موقفها أو اندفعت أو أجبرت على عمل عسكري ضد تايوان، بهدف ضمها إلى البر الرئيسي وتوحيد البلاد.

الشرق الاوسط