فاجأت بريطانيا الأسواق بسيناريو مغامر مثير للجدل للتعامل مع مخاطر الركود، يركز على خفض الضرائب مقابل زيادة الاقتراض، فيما دخل محللون في مناقشات حول ما إذا ستشكل الخطة في حال نجاحها خارطة طريق لإخراج الاقتصاد العالمي من أزماته.
لندن – أطلق وزير المالية البريطاني الجديد كواسي كوارتنغ الجمعة العنان لتخفيضات ضريبية تاريخية وزيادات ضخمة في الاقتراض في أجندة اقتصادية أغرقت الأسواق المالية مع تراجع السندات الحكومية البريطانية والجنيه الإسترليني.
وألغى كوارتنغ، الذي سيكون تحت الأضواء طيلة فترة توليه حقيبته، أعلى معدل لضريبة الدخل بالبلاد، وألغى زيادة مخططة في ضرائب الشركات ولأول مرة وضع سعرا لخطط الإنفاق لرئيسة الوزراء ليز تراس، التي تريد مضاعفة معدل نمو اقتصاد بريطانيا.
وسرعان ما قام المستثمرون بتفريغ السندات الحكومية البريطانية قصيرة الأجل بعدما شهدت تكلفة الاقتراض على مدى خمس سنوات أكبر زيادة في يوم واحد منذ 1991، بينما تعرض الإسترليني إلى انتكاسة مع انخفاضه إلى أقل من 1.1 دولار لأول مرة منذ 37 عاما.
وكان إعلان كوارتنغ بمثابة خطوة تغيير في السياسة الاقتصادية البريطانية، واعتبره محللون عودة إلى سياسة رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر وتبعها الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغن في ثمانينات القرن الماضي، والتي سخر منها النقاد على أنها عودة إلى نظرية “الانسياب إلى الأسفل”.
ولكن عقب نجاحهما في إخراج اقتصاد بلديهما من أزماته أصبحت الثورة التاتشرية والريغانوميكسية، نسبة إلى السياسة الاقتصادية التي اتبعها ريغن، علامة فارقة في تاريخ الاقتصاد الغربي.
ويقف الخبراء على طرفي نقيض بشأن خطة كوارتنغ التي تأتي ضمن الميزانية المصغرة للحكومة، إذ يعتقد البعض أنها قد تنجح لكن النتائج قد لا تظهر سريعا بالنظر إلى الرياح المعاكسة القوية التي أصابت الاقتصاد العالمي بالخمول جراء تداعيات حرب أوكرانيا.
وثمة شق آخر يرى أن الخطة محفوفة بالمخاطر، إذ لا يمكن في ظل وضع ضبابي الدخول في “مقامرة” قد توسع الفجوة في الميزانية.
وقالوا إنه حتى وإن نجح السيناريو، فإن الوضع غير موات لتكرار التجربة في دول أخرى، بما قد يسهم في سحب الاقتصاد العالمي إلى التعافي.
وتعهدت تراس، التي انتخبت رئيسة للوزراء في وقت سابق من هذا الشهر بمتابعة النمو الاقتصادي الشامل حتى لو كان في صالح الأثرياء، في وقت يكافح فيه الملايين لتغطية فواتير الأسرة الأساسية.
وقال كوارتنغ أمام مجلس العموم إن “هذه هي الطريقة التي سنتنافس بها بنجاح مع الاقتصادات الديناميكية في جميع أنحاء العالم”. وأضاف “هذه هي الطريقة التي سنحول بها الحلقة المفرغة من الركود إلى حلقة حميدة من النمو”.
وتم تصميم الميزانية المصغرة لإخراج الاقتصاد من فترة تضخم من رقمين مدفوعة بارتفاع أسعار الطاقة وركود نمو الرواتب الحقيقية منذ 15 عاما.
وأكد كوارتنغ أن التحركات لدعم فواتير الطاقة ستكلف 60 مليار إسترليني للأشهر الستة المقبلة، وهي جزء من تعهد بدعم الأسر لمدة عامين.
وأوضح أن التخفيضات الضريبية بما في ذلك الخفض الفوري في ضريبة شراء العقارات ستكلف 45 مليار جنيه أخرى بحلول 2027.
ورغم أن وزير المالية أشار إلى أنها تكاليف يمكن استردادها عبر زيادة النمو السنوي بمقدار نقطة مئوية على مدى خمس سنوات “وهو إنجاز رائع”، بيد أن معظم الاقتصاديين يشككون في ذلك.
ولإنجاح الخطة، ستسرع الحكومة التحركات لتعزيز القدرة التنافسية لمدينة لندن كمركز مالي عالمي عبر إلغاء الحد الأقصى لمكافآت المصرفيين قبل حزمة “طموحة لإلغاء الضوابط التنظيمية” في وقت لاحق من هذا العام.
وقالت كارولين لو جون، رئيسة الضرائب في المحاسبين بليك روثينبيرغ إن “تراس وحكومتها الجديدة يخوضان مغامرة ضخمة”.
ونسبت رويترز إلى جون قولها إن هذه “الميزانية المصغرة الأكثر دراماتيكية وخطورة ولا أساس لها من الصحة خلال 25 عاما من تحليل الميزانيات”.
وزادت الأسواق المالية من توقعاتها بأن تصل أسعار الفائدة البريطانية إلى ذروة تزيد عن 5 في المئة خلال منتصف العام المقبل.
وقد تكون خلفية السوق بالكاد أكثر عدائية لكوارتنغ، حيث كان أداء الجنيه الإسترليني أسوأ مقابل الدولار من أي عملة رئيسية أخرى تقريبا.
ويعكس جزء كبير من الانخفاض الارتفاع السريع في أسعار الفائدة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) لترويض التضخم الذي أدى إلى تدهور الأسواق، لكن بعض المستثمرين شعروا بالخوف من استعداد تراس للاقتراض بشكل كبير لتمويل النمو.
وأظهر استطلاع أجرته رويترز هذا الأسبوع أن 55 في المئة من البنوك الدولية والاستشارات الاقتصادية التي شملها الاستطلاع تشير إلى أن الأصول البريطانية معرضة بشدة لخطر فقدان الثقة بشكل حاد.
واعتبر حزب العمال المعارض أن خطة الحكومة كانت “مقامرة يائسة” من قبل حكومة تنفد أفكارها بعد 12 عاما في السلطة.
وقالت راشيل ريفز المتحدثة المالية باسم حزب العمال “نمو أقل واستثمار أقل وإنتاجية أقل. واليوم نتعلم أن لدينا أدنى ثقة للمستهلكين منذ بدء السجلات” وأضافت “الأشياء الوحيدة التي ترتفع هي التضخم وأسعار الفائدة ومكافآت المصرفيين”.
وأكد معهد الدراسات المالية أن التخفيضات الضريبية كانت الأكبر منذ ميزانية عام 1972 والتي يُذكر على نطاق واسع أنها انتهت بكارثة بسبب تأثيرها التضخمي.
أما بنك إنجلترا المركزي فأشار الخميس الماضي إلى أن سقف أسعار الطاقة الذي تفرضه تراس سيحد من التضخم على المدى القصير، لكن من المرجح أن يؤدي التحفيز الحكومي إلى زيادة ضغوط التضخم، الذي اقترب من ذروته في أربعة عقود.
وقال تريفور غريثام، رئيس الأصول المتعددة في رويال لندن أسيت مانجمنت “من المحتمل أن نرى سياسة شد وجذب تذكرنا بفترة التوقف في السبعينات. يجب أن يكون المستثمرون مستعدين لرحلة وعرة”.
ورغم الإجراءات الضريبية وعملية الإنفاق المكثفة، لم تنشر الحكومة توقعات النمو والاقتراض الجديدة من مكتب مسؤولية الميزانية (أوبي.آر)، وهو مراقب حكومي.
وذكر المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية (أن.آي.إي.أس.آر) أن عجز الميزانية يبدو أنه سيرتفع إلى 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة المالية الحالية.
وتوقع مكتب الميزانية العمومية في مارس الماضي أن يكون لدى بريطانيا عجز في الميزانية بنسبة 3.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأكد كوارتنغ أن المكتب سينشر توقعاته الكاملة في وقت لاحق من هذا العام. وقال إن “المسؤولية المالية ضرورية للثقة الاقتصادية، وهي طريق نبقى ملتزمين به”.
العرب