لم تعد الاحتجاجات الدائرة حالياً في إيران تقتصر على نساءٍ رافضات الحجاب القسري المفروض عليهن من النظام، بعد أن انخرطت فيها شرائح وقطاعات عديدة من المجتمع الإيراني، واتسعت رقعتها لتشمل مدناً وبلدات عديدة في معظم أقاليم البلاد، لتدخل أسبوعها الثاني في أعتى مواجهة مع النظام الشمولي، اندلعت على خلفية مقتل الشابّة مهسا أميني، بعد تعذيبها على يد “شرطة الأخلاق”، التي تعد من أذرع النظام القائم على مصادرة الحريات الخاصة والعامة، تجسيداً لثقافته القائمة على قهر النساء، وخصوصاً الفتيات، وحرمان الجميع رجالاً ونساء من حقوقهم، تحت يافطة مناهضة ثقافة “الإمبريالية” و”قوى الاستكبار العالمي”.
ولم يكتف النظام الإيراني بقطع الإنترنت وسائر وسائل تواصل الإيرانيين مع العالم، واستنفار مؤيديه وزجهم في الشوارع، بل لجأ كعادته إلى إطلاق يد قوات الباسيج والحرس الثوري في استخدام العنف المفرط، واستهداف المحتجين بشكل مباشر بالرصاص الحي، ما أدّى إلى مقتل أكثر من أربعين شخصاً خلال الأسبوع الأول للاحتجاجات، فضلاً عن مئات الجرحى وآلاف المعتقلين. ولم يخرج النظام بذلك عن سلوكه الدموي الذي واجه به من قبل احتجاجات عديدة، بدءاً من احتجاجات الطلبة في عام 1999، والثورة الخضراء في عام 2009، ومروراً بالاحتجاجات على تردّي الأوضاع المعيشية في عامي 2017 و2018، واحتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود في عام 2019، ووصولاً إلى احتجاجات عام 2020 والاحتجاجات الحالية.
وإذا كان مقتل أميني قد فجّر بركان غضب قطاعات واسعة من الإيرانيين، إلا أن أسبابا عديدة دعتهم إلى التحرّك، لا تنحصر في تعدّي النظام على حرّياتهم، والقمع الواسع الذي يطاولهم، بل تمتدّ إلى معاناتهم من مأساوية أوضاعهم المعيشية، حيث تفيد تقارير دولية بأن 82% من الشعب الإيراني أضحت تحت خط الفقر، فيما تتفشّى البطالة بشكل واسع، خصوصاً بين صفوف الشباب، إلى جانب ندرة فرص الحصول على عمل، وارتفاع مستويات التضخّم والزيادة المضطردة في أسعار السلع والوقود، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية الناتجة من الغزو الروسي أوكرانيا، وتأثير العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على إيران، وغياب أُفق تسوية الخلافات مع دول الغرب بشأن الاتفاق النووي وسوى ذلك.
لازمت قضية فرض الحجاب نظام الولي الفقيه منذ عهد آية الله الخميني، حيث صادق مجلس الشورى في عام 1983 على أول قانون بشأن لباس المرأة في إيران
ولا يخرج تشدّد النظام الإيراني حيال النساء، عبر فرض “الحجاب القسري” وكتم أنفاسهن ومراقبة حركاتهن ولباسهن، عن سياق معركةٍ يخوضها هذا النظام، بغية كبح تطلّعات الإيرانيين في نيل حرياتهم الشخصية والعامة، كونه نظاماً ثيوقراطياً شمولياً، يقوم على فرض رؤيته وفهمه للدين الإسلامي على “الرعية”، بوصفه الراعي الأوحد لشؤونهم الدنيوية والأخروية، ويتوجب عليهم الالتزام بتعاليمه الدينية، وأن يخضعوا لأحكامها، فيما يحقّ له التدخل في جميع مجالات وشؤون حيواتهم الشخصية والاجتماعية، بدءاً من طعامهم ولباسهم وطرق نومهم وحركتهم، وصولاً إلى مجالات السياسة والعمران والاجتماع، وكيفية تعيين الموظفين وشؤون إدارة الدولة والمؤسسات، وغيرها.
ونظراً إلى أن النظام الإيراني غير قادر على تأمين شؤون الإيرانيين الدنيوية، لذلك راح يتهرّب من مسؤولية تردّي أوضاعهم المعيشية الحياتية إلى التشدّد حيال شؤونهم الأخروية، من خلال فرض إيديولوجيته الدينية المتشدّدة وتصوّراته للحجاب الإسلامي، والتمييز بين “الحجاب الإسلامي” أو “الحجاب الجيد” و”الحجاب السيئ”. لذلك تعتبر قطاعاتٌ واسعةٌ من الإيرانيين، وخصوصاً النساء، أن فرض الحجاب لم يعد يمثل وجهة نظر دينية، بل بات يشكّل يافطة سياسية، الأمر الذي يفسّر أن عملية نزع إيرانيات الحجاب وحرقه أمام الكاميرات فعل سياسي بامتياز، تعبّر عن معارضة مفاهيم وتصورات نظام ولاية الفقيه القائم في البلاد، لذلك حرق المحتجّون صور المرشد الأعلى إلى جانب حرقهم الحجاب في شوارع مدن إيران وبلداتها، الأمر الذي يشي بأن المواجهة ضد الحجاب القسري هي بالأساس مواجهة ضد النظام الإيراني.
مع مجيء إبراهيم رئيسي رئيساً أخذ قمع النساء منحىً أكثر جذرية وتشدّداً مع صدور قانون “الحجاب والعفّة”
ولازمت قضية فرض الحجاب نظام الولي الفقيه منذ عهد آية الله الخميني، حيث صادق مجلس الشورى في عام 1983 على أول قانون بشأن لباس المرأة في إيران، ونصّ على أن النساء فيها، الإيرانيات وغير الإيرانيات، المسلمات وغير المسلمات، عليهن ارتداء الحجاب الشرعي أمام أنظار العامة وفي الشوارع والساحات، وتضمّن ضرورة أن “تجازى النساء اللواتي يظهرن في المعابر والأماكن العامة بدون حجاب شرعي بالتعزير، ويحكم عليهن بـ 74 جلدة”. ثم نفّذت أجهزة الأمن، في فترة رئاسة أحمدي نجاد، حملة سمتها “حملة التصدّي للحجاب السيئ”، حيث تولت دوريات من الشرطة النسائية إيقاف اللواتي يُشتبه بأن لباسهن لا يتطابق مع معايير “الحجاب الإسلامي”، وخصوصا مرتديات ما أُطلق عليه “الحجاب السيئ”، الذي يُظهر خصلاتٍ من شعر المرأة. وبعدها أقرّ مجلس الشورى الإسلامي في عام 2006 قانون تنظيم الأزياء والملابس، وبموجبه تمّ “منع النساء اللواتي لا يلتزمن بالحجاب واللباس الإسلامي الصحيح” من دخول المؤسّسات الحكومية والشركات العامة والخاصة والأماكن العامة، بما فيها الفنادق والمطاعم والصالات وسواها.
ومع مجيء إبراهيم رئيسي رئيسا أخذ قمع النساء منحىً أكثر جذرية وتشدّداً مع صدور قانون “الحجاب والعفّة”، القاضي بفرض “الحجاب الجيد”، واستخدام تقنية التعرّف إلى الوجوه في وسائل النقل العامة لتحديد النساء اللواتي لا يلتزمن بارتدائه، وخصّص النظام جهات حكومية إلى جانب مؤسّساته القضائية والأمنية والعسكرية، للإشراف على عملية فرض الحجاب القسري على النساء، والهدف من ذلك كله إحكام قبضته على المجتمع وضبط (أو بالأحرى مراقبة) أفراده.
ويبدو أن النظام الإيراني يعتبر فرض الحجاب جزءاً من معركة يخوضها في الداخل والخارج. ولذلك لن يلجأ إلى تغيير نهجه في التعامل مع الحراك الاحتجاجي الإيراني الحالي، وسيعمد إلى التهرّب من مسؤوليته، عبر شيطنة الاحتجاجات وإدراجها في خانة نظرية المؤامرة، التي تحيكها قوى خارجية، وبالتالي، لن يحيد عن اتّباع سياسة القبضة الحديدية التي يفرضها على المجتمع الإيراني، ولن ينظر في أسباب (وحيثيات) تفجّر غضب الإيرانيات والإيرانيين بوجهه، وذلك في سعيه إلى تأكيد أنه، رغم الضغوط والعقوبات المفروضة عليه، لا يزال قادراً على فرض سيطرته على المجتمع الإيراني، لكن ذلك لن يثني الإيرانيين عن خوض المواجهة ضد الحجاب بوصفها مواجهةً ضد النظام، وذلك في سياق الاستمرار في حراكهم الاحتجاجي، حتى نيل مطالبهم في الحرية والعيش الكريم.
القدس العربي