مقدمة
مثَّلت موجة الاحتجاجات التي اندلعت في بغداد والعديد من مدن جنوب العراق، ابتداءً من يوليو/تموز 2015، أول تحدٍّ جدِّي للنخبة السياسية الشيعية من خارج القوى الرئيسية المهيمنة. وأظهرت تلك الاحتجاجات إمكانية تشكُّل مجتمع مدني عراقي مستقل نسبيًّا، وعودة التعبئة السياسية وراء أهداف ذات طابع مدني منفصلة في خطابها وأولوياتها ومرجعياتها عن الصراع الإثنوطائفي الذي حكم المعادلات السياسية في أوساط النخبة المهيمنة.
لكن تراجع زخم الاحتجاج، وعدم تمكنه من فرض أجندة إصلاحية متكاملة، واندراج بعض قواه في حيثيات الاستقطاب السياسي، يشير أيضًا إلى أن الطريق أمام نضج ما يسميه الكثير من الناشطين بـ”البديل المدني” ما زال طويلًا، وإمكانية المضي بإصلاحات حقيقية تغيِّر طبيعة إدارة الدولة ومؤسساتها أمر مستبعد. ولذلك، يغدو من الصعب التنبؤ بمآلات الأمور نظرًا لأن العراق يواجه أزمات هيكلية حادَّة وانقسامًا سياسيًّا عميقًا.
محركات الاحتجاج
اندلعت شرارة الاحتجاجات في مدينة البصرة في يوليو/تموز 2015، بسبب انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة تزامنًا مع ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة. بعد ذلك تطورت وتوسعت الاحتجاجات وازدادت مجالات اهتمامها لتطول كل عوامل الفشل الحكومي والإداري على صعيد توفير الخدمات والبنى التحتية واستيعاب البطالة المتفاقمة والحدِّ من الفساد الحكومي. وكما أوضحنا في التقرير المنشور في 17 أغسطس/آب 2015 (1)، عن أبعاد الاحتجاجات الاجتماعية في العراق، فإن الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تراجع أسعار النفط، والصراع العسكري المستمر مع تنظيم الدولة، والذي أسهم في استنزاف المزيد من الموارد الحكومية، خلقا ظروفًا أسهمت في تنامي السخط الشعبي إلى جانب تصاعد الوعي بضرورة التصدي للممارسات السائدة لدى الطبقة الحاكمة التي أثرى معظم أركانها إثراءً فاحشًا خلال السنوات الأخيرة. ومن المهم هنا ملاحظة أن الاحتجاجات تركزت في أوساط الشباب والقطاعات غير المنتظمة سياسيًّا، والتي شعرت بأن قنوات التأثير المتاحة في إطار النظام السياسي قد تراجعت، وأن هناك حالة انسداد لم يعد بالإمكان تجاوزها وفق السياقات التي يسمح بها النظام السياسي، كالانتخابات.
لقد حدثت بعض المظاهر الاحتجاجية في زمن الحكومات السابقة، وبشكل خاص المظاهرات التي حدثت في ساحة التحرير في بغداد خلال فبراير/شباط 2011، والتي كانت تعبيرًا عن مشاعر التمكين التي خلقها بعض النجاحات المبكرة لانتفاضات (الربيع العربي) في ذلك الوقت، والاحتجاجات والاعتصامات التي اندلعت في ديسمبر/كانون الأول 2012، واستمرت عامًا كاملًا في المدن ذات الغالبية السنية ضد حكومة المالكي وسياسات التمييز الطائفي. لكن تلك الاحتجاجات لم تُحدث ذات التأثير على صعيد الخطاب السياسي والأولويات الحكومية، بسبب الطابع النخبوي المفرِط وغلبة نزعة المحاكاة على الهواجس الفعلية في احتجاجات فبراير/شباط 2011، بينما لم تخرج الاحتجاجات في المناطق ذات الغالبية السنِّية عن سياق الصراع الطائفي بشكل أضعف قدرتها على التحول إلى ظاهرة أوسع، كما سهَّل على الحكومة تعبئة المجتمع الشيعي خلفها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن حكومة المالكي استفادت حينها من الوفرة الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط لكسب العديد من القطاعات الاجتماعية عبر العطايا والهِبات والعلاقات الزبائنية. وفي السنوات الأخيرة سعى رئيس الوزراء السابق إلى إقناع قطاع واسع من الشارع الشيعي بضرورة المطالبة بحكومة أغلبية وتحميل نظام المحاصصة المسؤولية الأكبر عن الفساد الإداري والإخفاق الحكومي، قبل أن يؤدي تمكُّن تنظيم الدولة من السيطرة على عدَّة مدن عراقية، وانهيار وحدات رئيسية من الجيش الذي تولَّى المالكي شخصيًّا إدارته وتعيين كبار قادته، إلى فرض واقع جديد مهَّد لتغيير رئيس الوزراء على الرغم من تحقيق ائتلافه فوزًا كبيرًا في انتخابات إبريل/نيسان 2014.
تشكَّلت حكومة العبادي الحالية وفق برنامج إصلاحي تركَّز أساسًا على إيجاد أطر للحدِّ من الصراع والانقسام بين المكونات، واعتماد سياسات استيعابية جديدة تجاه المجتمع السنِّي والتجاوب مع بعض شكاواه، كأحد عناصر استراتيجية التصدي لتنظيم الدولة. كما شمل البرنامج الحكومي تصورًا عامًّا عن حلِّ الصراع بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان حول توزيع وإدارة عوائد النفط وعمليات إنتاجه وتصديره، فضلًا عن الإشارة إلى الإصلاح الاقتصادي والخدمي (2). لكن منذ تشكيل الحكومة في سبتمبر/أيلول 2014، لم يتم إحراز تقدم واضح في أي من الملفات الرئيسية؛ حيث لم يتحقق أي تحول رئيسي على مستوى المصالحة الوطنية والعلاقة بين “المكونات”، ولم يتم التوصل إلى تفاهم مستدام بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وتباطأت المعارك مع تنظيم الدولة، خصوصًا مع تنامي التنافس الإيراني-الأميركي حول سبل إدارة الحرب واتجاهاتها. ثم جاء تراجع أسعار النفط وهو السلعة التي تمثِّل عائداتها حوالي 95% من الدخل الحكومي ليضيف المزيد من التعقيدات ويسهم في خلق ظروف مواتية لتعبئة جماهيرية خارج إطار النخبة المهيمِنة.
تركيبة الحركة الاحتجاجية
كمعظم الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية، مثَّل الشباب الفئة العُمرية الطاغية في الاحتجاجات العراقية. فمعدلات البطالة آخذة بالارتفاع في الأوساط الشبابية، وقد كان يتم استيعاب جزء من هذه البطالة في مؤسسات الدولة عبر خلق ما بين 150 إلى 250 ألف وظيفة في القطاع الحكومي سنويًّا. غير أن العاميْن الأخيريْن شهدا إطلاق سياسات التقشف التي خفضت من عدد الفرص الوظيفية المتاحة في القطاع الحكومي، في الوقت الذي أدَّى عدم الاستقرار الأمني إلى الحدِّ من الفرص الاستثمارية وإضعاف نشاط القطاع الخاص. ووفق فرانك غونتير الذي أصدر قبل عامين كتابًا عن الاقتصاد الكلي العراقي (3)؛ فإن هناك أكثر من نصف مليون شاب يدخلون سوق العمل سنويًّا؛ حيث يشهد المجتمع العراقي معدلات عالية من النمو السكاني، فأكثر من 60% من سكان العراق هم تحت سنِّ 24 عامًا. وقد شخَّصت المنظمات المحلية والدولية المعنية بالإحصاء والتخطيط مشكلة الانتفاخ الشبابي Youth Bulge كأحد المشاكل الرئيسية التي سيواجهها العراق مستقبلًا، فحتى قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة كان 57% من العراقيين بين سنِّ 15 و29 عاطلين عن العمل (4).
شهدت السنوات الأخيرة تطور وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة عدد مرتاديها، فأصبحت ملاذات بديلة لقطاعات واسعة من الشباب، خصوصًا المتعلم، كما وفَّرت أطرًا جديدة للتنسيق خارج المؤسسات التقليدية كالجامع والحُسينية والديوان العشائري، وخارج المؤسسات الخاضعة لرقابة حكومية وحزبية كالجامعات. أصبحت تلك الوسائل قنوات لتبادل المعلومات، ولتطوير خطاب احتجاجي، وتنظيم العمل الجمعي. بالنتيجة، ليس غريبًا أن يلعب الإعلاميون الناشطون في الفيسبوك دورًا رئيسيًّا في تنسيق التظاهرات والدعوة اليها، وأن يلجأ هؤلاء الناشطون إلى تلك القنوات كساحة نقاش تحضيرية لفعالياتهم، يجري خلالها الاتفاق على الشعارات والمكان والزمان. ولا يبدو أن القوى التقليدية استوعبت تأثير تلك القنوات البديلة في صناعة رأي عام مغاير في خطابه وأولوياته؛ الأمر الذي دفعها لاحقًا إلى تكييف أجندتها معه وتبني بعض شعاراته.
لا يعني ذلك أن كل الناشطين في بغداد والمحافظات اتفقوا على رؤية واحدة، أو نجحوا بخلق بِنية تنسيقية وطنية لعملهم، فبينما ركَّزت الاحتجاجات في المحافظات على الحكومات المحلية ومجالس المحافظات، شهدت احتجاجات ساحة التحرير في بغداد تركيزًا أكبر على الحكومة الاتحادية ومجلس النواب. وتباينت المطالب بين تحسين الخدمات وتوفير الوظائف، إلى إلغاء المحاصصة وإجراء إصلاحات جذرية في النظام السياسي. ورغم عدم وجود قوة سياسية رئيسية ذات تأثير مهيمن في الحركة الاحتجاجية، إلا أن الكثير من الناشطين استخدموا تعبير “التيار المدني” لتأطير عملهم الاحتجاجي. وتحت هذا التعبير الفضفاض، يمكن تحديد ثلاث فئات أساسية:
-
الأولى: هي الحزب الشيوعي وقوى اليسار المقربة منه.
-
الثانية: هي الليبراليين غير المنظَّمين في أحزاب لكنهم يعبِّرون عن مقاربات فكرية تركِّز على قضايا الحريات ومعاداة الإسلام السياسي.
-
الثالثة: هي شرائح احتجاجية ناقمة على الطبقة السياسية لكنها لا تندرج في أطر أيديولوجية محددة، وهي على الأرجح تؤلِّف الغالبية في أوساط المحتجين.
وبينما لعب الطابع العفوي والمحلي، إلى جانب غياب الشعارات الحزبية أو تلك التي تكشف عن انحيازات طائفية، دورًا في إعطاء الزخم للحركة الاحتجاجية وجذبها لمشاركين من مشارب مختلفة، فإن هذه العوامل صعَّبت تحويل الزخم الاحتجاجي إلى رؤية سياسية واضحة. فرغم أن معظم الاحتجاجات جرى تحت سقف المطالبة بالإصلاح، إلا أنها أخفقت في التعبير عن تصور واضح لماهية الإصلاح ومستواه وعمقه، وخلافًا لاحتجاجات الربيع العربي التي ركَّزت خطابها المعارِض على شخص الديكتاتور أو الحزب الحاكم، فإن هذا الحراك وجد صعوبة في تحديد هدف ملموس له غير التعبير العام عن الرفض والسخط. سمح ذلك لبعض القوى السياسية بمحاولة ركوب الموجة، ومحاولة توجيه الفعل الاحتجاجي إمَّا نحو اتجاهات تخدم مصالحها، أو في الأقل لا تضر بتلك المصالح.
من الاحتجاج إلى السياسة
انطلقت تظاهرات ساحة التحرير في بغداد نهاية شهر يوليو/تموز 2015، واكتسبت زخمًا أكبر في شهر أغسطس/آب، بينما تواصلت الاحتجاجات في معظم المحافظات الجنوبية في كل يوم جمعة، وبدأت تفقد جزءًا كبيرًا من زخمها بحلول شهر أكتوبر/تشرين الأول. في فترة صعود الزخم، بدأت محاولات التوظيف السياسي لها بالظهور من قِبل القوى الرئيسية في الساحة الشيعية. أول تلك القوى كانت جماعة عصائب أهل الحق، وهي ميليشيا مسلحة منشقة من تيار الصدر ومدعومة من إيران ولديها ممثل سياسي في البرلمان، وقد دخلت الانتخابات الأخيرة بتحالف يقوده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. تفاوضت هذه المجموعة مع بعض قادة المجاميع المدنية من أجل التنسيق للنزول إلى ساحة التحرير؛ حيث تبنَّت موقفًا مناوئًا للمحاصصة وناقدًا للطبقة السياسية وداعيًا إلى اعتماد نظام رئاسي كبديل عن النظام البرلماني الحالي (5). أثار نزول العصائب إلى ساحة الاحتجاجات غضب التيار الصدري الذي قرر النزول إلى الشارع هو الآخر والتنديد بالفساد والدعوة لدعم رئيس الوزراء حيدر العبادي في تنفيذ الإصلاحات التي أعلن عنها. وشهد يوم الجمعة، 2 أكتوبر/تشرين الأول نزولًا مكثَّفًا لأنصار التيار الصدري إلى ساحة التحرير (6)، تأكد من خلاله أنه على الرغم من التراجعات النسبية في شعبية التيار، إلا أنه لا يزال أكبر تيار جماهيري منظم في الساحة الشيعية، وكان نزوله يستهدف تقديم استعراض محسوب للقوة في مواجهة محاولات اختراق الحراك من قبل الميليشيات الصاعدة في الحشد الشعبي، كعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، والخصم التقليدي للتيار، منظمة بدر، المتحالفين جميعًا مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والذين تبنَّوا بدرجات متفاوتة مواقف ناقدة لحكومة العبادي في الفترة الأخيرة.
ورغم تراجع زخم الاحتجاجات، إلا أنها سرَّعت من تعميق الاستقطابات الداخلية بين مراكز القوى الشيعية الرئيسية، ومنحت رئيس الوزراء، حيدر العبادي، فرصة الشروع بإصلاحات سياسية واقتصادية بالاستعانة بشرعية الشارع، التي عزَّزها إعلان المرجعية الشيعية العليا دعمها لمطالب المحتجين (7). جاء موقف المرجعية متناسقًا مع خطها العام الذي انتهجته في نقد الفساد المستشري داخل الطبقة السياسية والمحاصصة، دون الوصول إلى حدِّ دعم خيارات راديكالية مثل إسقاط النظام. حاولت المرجعية لعب دور الوسيط بين المجتمع والنظام، عبر توظيف سلطتها الاعتبارية التي تصاعدت منذ الإعلان عن فتوى “الجهاد الكفائي” للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، كي تحُول دون تصاعد الاتجاهات والتيارات الراديكالية في أوساط المحتجين، خصوصًا مع وجود القوى والميليشيات المدعومة من إيران الناشطة خارج بِنى الدولة، وبنفس الوقت تجبر الطبقة السياسية على إجراء إصلاحات فعَّالة تمتص النقمة الشعبية.
حاول العبادي أن يلتقط هذه الفرصة بإعلانه عن عدَّة حزم إصلاحات تقوم على الترشيق الحكومي (إلغاء المناصب الزائدة ودمج الوزارات)، والتقشف الاقتصادي (خفض الرواتب الحكومية)، والحدِّ من الفساد المستشري (8)؛ لكن السياق الذي أخذته إصلاحات العبادي، وبشكل خاص قراره الذي لم يدخل حيِّز التنفيذ حتى الآن بإلغاء مناصب نوَّاب رئيس الجمهورية الذي رأى البعض فيه استهدافًا صريحًا للمالكي وتحالفه، أظهر أن هناك قدرًا من التنسيق ووحدة الهدف العام بين رئاسة الوزراء، والمرجعية الشيعية، والأحزاب الشيعية التي تقودها العوائل الدينية التقليدية في النجف مثل التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى، وأن الهدف الذي تتفق عليه هذه القوى هو ردع التيارات الموالية للمرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، عن توسيع نفوذها. لقد أحسَّت القوى الشيعية التقليدية بخطورة صعود تلك القوى التي باتت تمثِّل خطًّا شيعيًّا عابرًا للحدود ويحمل منظورًا مغايرًا للهوية والمصلحة الشيعية، وبشكل يعيد للأذهان التوتر القديم بين المرجعية الثورية لآية الله الخميني والمرجعية المحافظة لآية الله الخوئي والتي ورثت خط مرجعية محسن الحكيم.
كانت الاحتجاجات هي ساحة المواجهة الثانية بين هذين الخطين، بينما كانت إدارة الصراع مع تنظيم الدولة هي ساحة المواجهة الأولى والمستمرة؛ فالميليشيات الرئيسية في الحشد الشعبي المدعومة من إيران ترفض التدخل الأميركي في العمليات الجارية ضد التنظيم، وتدعم التنسيق مع المحور الإيراني-الروسي، بينما يحاول رئيس الوزراء العبادي تطوير التنسيق مع الأميركيين خصوصًا في إعادة هيكلة القوات المسلحة وعملية تدريبها وتسليحها، ولذلك هو يرفض حتى الآن الإقرار بوجود تحالف عراقي-روسي-إيراني-سوري، مشيرًا إلى أن ما تم الإعلان عنه من استحداث غرفة عمليات تضم ممثلين عن هذه الأطراف ليس أكثر من لجنة تنسيقية غرضها تبادل المعلومات(9). وقد أخذت المواجهة بين القوى الأمنية الحكومية والميليشيات بالتصاعد تزامنًا مع تصاعد زخم الاحتجاجات حينما حصلت مواجهة مسلَّحة بين كتائب حزب الله وقوات عمليات بغداد أسفرت عن قتل وأسر عدد من الجنود العراقيين (10).
ورغم أن إصلاحات العبادي واجهت العديد من المعوقات، وبدا في الآونة الأخيرة أن رئيس الوزراء قد فقد جزءًا من الدعم الذي حظي به حينما أعلن الرزمة الأولى للإصلاحات، إلا أن الساحة السياسية الشيعية أخذت تنفتح على اتجاهات جديدة ربما تكون أكثر صدامية، وعلى فرص صناعة تحالفات بديلة. حاولت التيارات المدنية التي أطلقت موجة الاحتجاجات في بغداد الاتجاه نحو قدر أكبر من التنظيم لعملها عبر تطوير تحالفاتها المجتمعية؛ فقد وجدت في دعم المرجعية فرصة كبيرة لكسب القطاعات الاجتماعية المتدينة التي كانت متشكِّكة بأهداف أو شعارات المدنيين وتوجهاتهم العلمانية، خصوصًا أن بعض الأحزاب الإسلامية اتهمت هؤلاء الناشطين بأنهم عملاء للسفارة الأميركية وأنهم معادون للإسلام (11). كذلك أرادت المجموعات المدنية أن تستفيد من الشعبية الواسعة النطاق للمرجعية لكي تكتسب مشروعية مضافة وتحظى ببعض الحماية السياسية، فراح عدد من ناشطيها يزورون النَّجف باستمرار ويعقدون اجتماعات مع ممثلين للمرجعية. كذلك حصل انفتاح من تلك المجموعات على التيار الصدري، وسط أطروحات في أوساط اليسار خصوصًا، ترى أن هناك إمكانية لتطوير تحالف مدني-صدري في المرحلة المقبلة نظرًا لأن التيار الصدري يمثِّل القطاعات الاجتماعية الشيعية الفقيرة ولديه مصلحة في الإصلاح، وحتى مع مشاركة عدد من وزرائه في الحكومة فإن زعيمه تبنَّى مواقف معتدلة في السنوات الأخيرة، وانتقد الطائفية والفساد وحثَّ على الإصلاح. وقد اجتمع بعض الناشطين بزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في منزله يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وناقشوا سبل إدامة زخم الاحتجاجات، وتعهَّد الصدر خلال اللقاء بحماية المتظاهرين وعدم السماح لأحد بالتعرض لهم (12).
يمكن القول: إن هذا الانفتاح المصحوب بتقارب بين الصدر ومرجعية السيستاني، يعزِّز من التصور أن مسار الاحتجاجات أدَّى إلى توسيع الجبهة الشيعية المناوئة للتحالف الذي يقوده رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، والمقرب من إيران. وإن كان بإمكاننا وصف هذه الجبهة اضطرارًا بأنها تحالف “عراقوي” يسعى لتأكيد سلطة النجف بدلًا من سلطة طهران، ويعمل على إصلاح النظام بدلًا من إسقاطه، ويميل إلى خيارات معتدلة بدل الاندراج الراديكالي في الاستقطابات الإقليمية، يمكن القول: إن الاحتجاجات لعبت حتى الآن دورًا في إعادة تشكيل الخريطة السياسية الشيعية ورسم بعض ملامحها المستقبلية.
آفاق الحركة الاحتجاجية
من الواضح أن الزخم الاحتجاجي أصابه الضعف، وواجه العديد من المعرقلات والتحديات التي يمكن تلخيصها في النقاط الثلاثة التالية:
-
أولًا: إخفاق الحركة الاحتجاجية في إفراز قيادات مستقلة عن العملية السياسية وقادرة على إدارة الحركة واتجاهاتها وتوظيفها تفاوضيًّا مع النخبة السياسية المهيمنة. وهذا الإخفاق هو من جانب، نتيجة لطبيعة الاحتجاج بوصفه تعبيرًا عن رفض واقع قائم دون أن يكون بالضرورة تعبيرًا عن بديل واضح، ومن جانب آخر، يرتبط بصعوبة ظهور كيانات حزبية منظمة خارج سياقات العملية السياسية بسبب غياب مصادر التمويل. لقد اتخذ العمل الحزبي في العراق شكل مراكز القوى المستندة في تمويلها على نظام المحاصصة وعلى ما توفره المناصب الحكومية من فرص وعوائد وريوع لبناء شبكات الأتباع وتوسيعها وإدامتها، بحيث غدا من الصعب على أية قوة مستقلة أن تنشط سياسيًّا وإعلاميًّا وأن تكسب الجمهور الذي اعتاد على ثقافة سياسية زبائنية، وأن تتحول إلى قوة فعلية على الأرض بدون أن تمتلك ذراعًا مسلحة أو مرجعية دينية أو عشائرية ذات سلطة اجتماعية تقليدية. ولهذا السبب تحديدًا اتخذ بعض المجموعات المدنية خيار التقارب مع المرجعية والتيار الصدري باعتباره وسيلة للحصول على الحماية السياسية والاجتماعية، ولكنَّه يعكس أيضًا استخدامًا متبادلًا قد تكون المجموعات المدنية طرفه الخاسر إن لم يُفضِ هذا التقارب إلى إصلاحات حقيقية تنعكس مباشرة على الوضع الاجتماعي العراقي.
-
ثانيًا: غياب تصور واضح لمعنى الإصلاح وأمديته وطبيعة المشاكل التي أفضت إلى ظهور الحركة الاحتجاجية في الأصل. فليس واضحًا بعد ما إذا كان الإصلاح المنشود سياسيًّا أم إداريًّا، فبينما ركَّز بعض الشعارات على محاربة الفساد، راح بعض القوى يطالب بإصلاحات دستورية وقانونية كإصدار قانون للأحزاب وتفعيل النص الدستوري الذي يمنع حَمَلة الجنسية الأجنبية من تسلُّم مناصب حكومية عليا، بينما تركَّزت مطالب أخرى على تخفيض الرواتب وإيجاد الوظائف. ويبدو أن التجربة الإصلاحية القصيرة التي أطلقها حيدر العبادي كشفت عن غياب الرؤية الواضحة لطبيعة الإصلاح وأمديته، وذكَّرت بالطابع الهيكلي للكثير من المشاكل التي يواجهها البلد المكبَّل باقتصاد ريعي وبأزمات أمنية وتضخم ديمغرافي وعدم استقرار سياسي.
-
ثالثًا: ما زالت قضية العلاقة بين الغالبية الشيعية والمكوِّنين: الكُردي والسنِّي غائبة عن ملف الإصلاحات ولا تجد لها صدىً واضحًا في الحركة الاحتجاجية عدا التعبير العاطفي عن التضامن الجمعي. وليس واضحًا الاتجاه الذي كانت ستأخذه الاحتجاجات لو لم يكن معظم المدن السنِّية الرئيسية تحت سيطرة تنظيم الدولة، وبالتالي يصعب الحكم فيما إذا كانت الاحتجاجات تعبِّر فعلًا عن ضمور للطائفية أم عن وضعٍ انفصلت فيه المكوِّنات عن بعضها بقدر أكبر وراح كل منها يتأثر بدينامياته الخاصة. لقد شهدت مناطق إقليم كردستان مؤخرًا احتجاجات تشبه في بعض جوانبها الاحتجاجات التي شهدتها بغداد ومدن الجنوب، كما جرى التعامل معها سياسيًّا بطريقة مشابهة، مما يعكس حقيقة أن السياسات الداخلية بدأت تتأثر فعلًا بأشكال جديدة من التعبئة خارج إطار (البارادايم) الإثنوطائفي الذي حكم العملية السياسية العراقية منذ العام 2003. لكن ما زال من غير الواضح إن كان هذا التحول سيُفضي إلى التخلي النهائي عن ذلك (البارادايم) أم أنه يمثِّل تعبيرًا مبكرًا عن الانفصال بين المكونات الرئيسية الثلاثة.
ما زال مبكرًا الإعلان عن نهاية الاحتجاجات، فكل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أطلقتها لا تزال قائمة، بل ومن المحتمل أن تتفاقم مع تعمُّق الانقسام الاجتماعي العراقي بين فئات رابحة من البنية الرِّيعية الزبائنية القائمة، وفئات خاسرة تبحث عن أدوات للتعبير عن الرفض للواقع القائم. وإن أخذ الرفض اليوم طابعًا سلميًّا إلى حدٍّ ما، وبدأ بعض عناصره يبحث عن قنوات سياسية عبر تحالفات جديدة تستفيد من الاستقطاب الشيعي-الشيعي القائم، فإنه قد يذهب إلى مناحٍ عنيفة مستقبلًا إن فشل المشروع الإصلاحي في إحداث تغيير جدِّي في طريقة عمل النظام. ومع حقيقة أن هذا الفشل محتمل جدًّا في ظل المعطيات الراهنة، فإن التغيير القادم قد لا يتم عبر الإصلاح، بل عبر التحول في مسار الصراع السياسي بين القوى الشيعية نفسها.
___________________________
حارث حسن – مركز الجزيرة للدراسات
الهوامش
1- تضمن التقرير المذكور شرحًا لجذور الأزمة وللعوامل الاقتصادية والسياسية التي قادت إلى الاحتجاج، ويحاول هذا التقرير تجنُّب تكرار التفاصيل الواردة في ذلك التقرير والتركيز على التطورات التي حدثت مؤخرًا:
حارث حسن، أبعاد الاحتجاجات الاجتماعية بالعراق ومعطيات الخلاف الشيعي، مركز الجزيرة للدراسات، 17 أغسطس/آب، 2015.http://studies.aljazeera.net/reports/2015/08/201581712320835237.htm
2- صوت كردستان، نص البرنامج الحكومي ووثيقة الاتفاق السياسي التي قدَّمها العبَّادي للبرلمان، 8 سبتمبر/أيلول، 2014.http://www.sotkurdistan.net/index.php?option=com_k2&view=item&id=42294:%D9%86%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%86%D8%A7%D9%85%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D9%8A-%D9%88%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%82%D8%AF%D9%85%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%88-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D8%B6%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9-%D8%A8%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85-%D9%83%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85&Itemid=273
3 Frank R. Gunter, The Political Economy of Iraq: Restoring Balance in a Post-Conflict Society(Edward Elgar, UK, 2013).
4 Analytical Report of the National Youth Survey: Towards A National Strategy for Iraqi Youth, February 2011. http://www.youthpolicy.org/national/Iraq_2011_National_Youth_Survey.pdf
5- السومرية نيوز، أهل الحق تعلن مشاركة أنصارها في تظاهرات الغد، 6 أغسطس/آب، 2015.http://www.alsumaria.tv/news/142395/%D8%A7%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82-%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%86-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA/ar
6 سي إن إن العربية، العراق.. الصدر يدعو مواليه للمشاركة بمظاهرات بغداد الجمعة ويحدد الشعارات المطلوب رفعها، 24 أغسطس/آب، 2015.http://arabic.cnn.com/middleeast/2015/08/24/sadr-iraq-protests
7- بي بي سي عربي، مظاهرات في العراق والسيستاني يدعو العبادي لضرب الفساد “بيد من حديد”، 7 أغسطس/آب، 2015. إضغط هنا.
8 انظر: مكتب رئيس الوزراء.
http://www.pmo.iq/press2015/9-8-201503.htm
9 تحت المجهر، مكتب رئيس الوزراء ينفي وجود تعاون عسكري مع روسيا، 6 أكتوبر/تشرين الأول، 2015.
http://www.almjhar.com/ar-sy/NewsView/81/101359/%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8_%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A_%D9%8A%D9%86%D9%81%D9%8A_%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF_%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86_%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A_%D9%85%D8%B9_%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7.aspx
10 الزمان، الجيش يدهم مقارَّ لحزب الله بحثًا عن مطلوبين، 4 سبتمبر/أيلول، 2015. http://www.azzaman.com/?p=127465
11 أسامة مهدي، ميليشيات شيعية تنسحب من تظاهرات الاحتجاج العراقية، إيلاف، 11 سبتمبر/أيلول، 2015.http://elaph.com/Web/News/2015/9/1038442.html
12 المكتب الخاص للسيد مقتدى الصدر، سماحة السيد القائد (أعزَّه الله) يستقبل مجموعة من الناشطين المدنيين ومنسقي التظاهرات في العراق ويطالب الحكومة العراقية بحمايتهم والاستجابة لمطالب الإصلاح، 22 أكتوبر/تشرين الأول، 2015. http://jawabna.com/index.php/permalink/8504.htm