على الرغم من افتقار العراق حالياً إلى الوحدة وسيادة القانون اللازمين لمتابعة بحذر عملية مشحونة سياسياً مثل تعديل الدستور، إلا أن هناك العديد من البدائل التي يمكن أن تضع هذه العملية على طريق الإصلاح المنهجي.
دفع الجمود السياسي والحوكمة المختلة بالعراقيين إلى زيادة مطالبتهم بتعديل دستور البلاد، حيث اعتبر الكثيرون أن النظام الطائفي في فترة ما بعد صدام حسين عجز عن توفير الاستقرار أو الازدهار، وبالتالي أكمل مسيرته. ولا تزال المعايير الديمقراطية وحقوق الأقليات المنصوص عليها في الدستور بمثابة طموح في أحسن الأحوال، حتى في أوساط المراقبين الأكثر تفاؤلاً. وبناءً على ذلك، لفت بعض القادة السياسيين علناً إلى أنهم سيستجيبون لمثل هذه الدعوات. ومع ذلك، فإن محاولة تعديل الدستور في ظل الظروف السياسية الحالية غير قابلة للتطبيق. وبصرف النظر عن العيوب الفنية الإشكالية التي تشوب الميثاق الحالي، لا يزال العراق يعاني من نقص كبير في المبادئ الدستورية واحترام سيادة القانون.
تزايد الشكاوى
تتنوع الأسباب الكامنة وراء الدعوات الأخيرة لإجراء إصلاحات دستورية. فبعض قادة حركة “تشرين” الاحتجاجية التي أُطلقت في تشرين الأول/أكتوبر 2020، المستائين من غياب المساءلة في ظل النظام الحالي القائم على الإجماع، كانوا يحثون على الانتقال إلى نظام رئاسي أو شبه رئاسي يحترم في الوقت نفسه الحقوق المدنية. في المقابل، يرغب آخرون في نصوص أوضح بشأن المسائل المثيرة للجدل المتعلقة بالنصاب البرلماني أو الكتل أو حقوق إدارة النفط. وتشعر الأحزاب الكردية بخيبة أمل من الاتحادية العراقية ودعت إلى كونفدرالية. ومن المؤكد أن أصوات أخرى ستطرح مطالب جديدة إذا تم إرخاء القبضة عن هذه الدوامة الدستورية.
كذلك، قد يواجَه عدد من التعديلات المحتملة بمعارضة كبيرة في بعض الأوساط. فقد ترفض الأحزاب الكردية والعربية السنية أي تغييرات تحد من البنود الاتحادية في الدستور أو تحوّله عن النظام البرلماني. فمن وجهة نظرها، أصبحت السلطة تتركز أكثر فأكثر في بغداد منذ عام 2003، وعلى الأخص من خلال إلغاء مجالس المحافظات. وعلى الرغم من معارضة الرأي العام المتزايدة للطائفية، لا تزال الأحزاب السنية والكردية تخشى أن تصبح الهيمنة السياسية الشيعية دائمة إذا سمحتباعتماد إجراءات معينة. من جهة أخرى، قد يطالب الليبراليون الذين يعلو صوتهم بشكل متزايد بالتخفيف من حدة موقف الميثاق بشأن الدين، الأمر الذي قد يثير بلا شك غيظ الأحزاب الإسلامية. وإذا وصلت الدعوات الواسعة النطاق لحظر الميليشيات إلى المرحلة الدستورية، فستتم مكافحتها – بكل معنى الكلمة.
الحلول السابقة
على الرغم من أن الدستور لم يخلُ من الجدل عند صياغته، إلا أنه كان نتاج إجماع شاق. وحيث تمّت المصادقة عليه عبر استفتاء شعبي في عام 2005، انبثقت هذه الوثيقة من تنازلات متوازنة بدقة من قبل جماعات سياسية ودينية وعرقية وطائفية متنوعة، بالإضافة إلى تأثير كبير وتسهيلات مهمة من قبل “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (“يونامي”) والولايات المتحدة. وهذا هو السبب جزئياً لعدم تعديل الدستور على مر السنين على الرغم من العديد من الشكاوى.
وعلى مدى العقدين الماضيين، تخطت النخبة السياسية الالتباسات التي يكتنفها الدستور وأوجه قصوره المتصورة بطرق متنوعة. والأكثر أهمية أن “المحكمة الاتحادية العليا” لعبت دور الحَكم وقدّمت تفسيرات للبنود الرئيسية. وفي عام 2010، حدّدت هذه “المحكمة” ما يشكل “الكتلة الأكبر” في مجلس النواب لتشكيل الحكومة – وهو قرار يعتقد الكثيرون أنه أدى إلى تآكل احترام الرأي العام للدستور والمحكمة لأنه بدا أنه يتعارض مع المعايير الديمقراطية. وفي الآونة الأخيرة، أصدرت “المحكمة الاتحادية العليا” سلسلة من الأحكام (القوانين/القرارات) الهامة التيأعادت تحديد النصاب البرلماني الضروري لانتخاب الرئيس وقلبت الأساس القانوني لقطاع النفط والغاز التابع لـ «حكومة إقليم كردستان» رأساً على عقب، من بين تأثيرات أخرى.
ومن جهته، سنّ مجلس النواب قانوناً يوسّع نطاق المواد الدستورية التي تغطي بعض القضايا الرئيسية (على سبيل المثال، القواعد المُنظمة للانتخابات). ومع ذلك، لم يتمّ تنفيذ أحكام أخرى بأي شكل من الأشكال، مثل حل الخلافات حول الأراضي المتنازع عليها (“المادة 140”) أو إنشاء “مجلس اتحادي” ليكون بمثابة مجلس الأعيان ضمن مجلس نواب على النحو المتوخى (في الأحكام) مؤلف من مجلسين تشريعيين (“المادة 65”). وحتى الإجراءات ذاتها لإدخال تعديلات على الميثاق تظل خاضعة لتفسيرات متباينة على نطاق واسع.
الغوص في متاهة التعديل
من الناحيتين السياسية والقانونية، إن عملية تعديل الدستور طويلة وشاقة. وفي هذا السياق، يسلّط الدستور الضوء على آليتين: (1) عملية تعديل مرحلية تتطلب تصويتاً بالأغلبية البسيطة في مجلس النواب، ومن ثم إجراء استفتاء شعبي يستوجب تصويت الأغلبية بالإيجاب على المستوى الوطني وعلى ما لا يزيد عن قلة من المحافظات الفردية التي ترفض الاقتراح بأغلبية ساحقة، (2) وعملية تعديل عامة تتطلب موافقة ثلثيْ أعضاء مجلس النواب، ثم إجراء استفتاء عام بسيط.
وبصورة أكثر تحديداً، نصت “المادة 142” على أنه في أعقاب تشكيلمجلس النواب بفترة وجيزة، كان من المتوقع أن يقوم بتشكيل لجنة تكون مهمتها إعداد تقرير حول التعديلات المقترحة في غضون “أربعة أشهر”. وكان من المقرر الموافقة على هذه التعديلات من خلال تصويت أغلبية بسيطة في المجلس التشريعي، ثم طرحها للاستفتاء وتمريرها ما لم يتم نقضها بأغلبية ثلثي الناخبين في ثلاث من محافظات العراق الثمانية عشر. ويُفترض أن واضعي مسودة الدستور قصدوا أن يكون هذا “الإجراء الانتقالي” متاحاً فقط في بداية مجلس النواب الأول في عام 2006 – في الواقع، يبدو أن اللغة في “المادة 142” تشير إلى أن أحكامها ربما تكون قد انتهت صلاحيتها منذ فترة طويلة. ومع ذلك، نظراً إلى عدم تحديد تاريخ نهائي صراحةً، واصل قادة مجلس النواب، بدعم من “توضيح” “المحكمة الاتحادية العليا” المقدم عام 2017، العمل كما لو أن هذه الآلية سارية المفعول إلى أجل غير مسمى، مما لا يتطلب سوى التصويت بأغلبية بسيطة في المجلس التشريعي. وقد تم بالفعل تشكيل لجنة المراجعة الإلزامية، ولكنها تجاوزت بأشواط فترة الأشهر الأربعة المحددة لها لاقتراح تغييرات.
وتتناول “المادة 126” الآلية الثانية، التي تنص على بدء تعديل الدستور من خلال اقتراح مشترك من قبل رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين أو من قبل خُمس أعضاء مجلس النواب. وبعد ذلك يجب الموافقة على هذا الإجراء من قبل ثلثيْ أعضاء مجلس النواب وتصويت أغلبية بسيطة في استفتاء شعبي، مع عدم منح سلطات النقض للمحافظات. واستناداً إلى هذه المادة، شكّل الرئيس برهم صالح لجنة لاقتراح التعديلات خلال احتجاجات “تشرين” عام 2019، مشيراً إلى أن رئاسة الجمهورية تؤمن بأن “المادة 126” سارية المفعول أساساً.
وعلى الرغم من أن المقاربتين هما حالياً قيد التنفيذ، إلا أنه لم يتمّ تقديم أي منهما رسمياً، علماً أن السعي إلى اعتمادهما في آن واحد ينافي النوايا المفترضة للمخططين والمتمثلة بتوفير عملية مرحلية متأنية – أي اقتراح مجموعة أولية من التعديلات عبر التدابير المؤقتة الموضحة في “المادة 142″، ثم تفعيل “المادة 126” باعتبارها المسار الوحيد لأية تعديلات مستقبلية. وإذا ما بقي المساران مفتوحين، فسوف يصطدمان من دون شك، وربما سيرغما “المحكمة الاتحادية العليا” على التدخل والفصل بموجب قرار وليس مجرد توضيح، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تعقيد الوضع المضطرب أساساً.
ومع ذلك، في حين تُعتبر العملية الرسمية لتعديل الدستور شاقة، إلّا أن هذا التعقيد يوفر ضمانات حماية جاهزة ضد الاستغلال المتقلب أو الخبيث للتعديلات من أجل تحقيق مكاسب سياسية. ولا ينبغي الاستخفاف بتغيير الميثاق (أو، في أوقات الأزمات، تنفيذه على الإطلاق) نظراً لتداعياته الكبيرة على توازن القوى في العراق – ليس فقط داخل/فيما بين الأحزاب السياسية، ولكن أيضاً بين السلطة التشريعية وأولئك المواطنين الذين كانوا يضغطون من أجل التغيير.
التداعيات السياسية
باستثناء فترة قصيرة خلال ذروة احتجاجات “تشرين” في عام 2019، لم يتمتع العراق لبعض الوقت بالبيئة السياسية المناسبة لمثل هذه العملية الضخمة كتعديل الدستور. وبناءً على ذلك، قد يكون من الأفضل أن ينظر قادته في عقد مؤتمر دستوري أو آلية مماثلة في المقام الأول – أي عملية تكتسب شرعيتها من خلال مشاركة المجتمع المدني ومُصممة خصيصاً للنظر في مزايا التعديلات المحتملة ومناقشتها قبل طرحها للتصويت رسمياً. ويمكن بعد ذلك عرض النتائج على مجلس النواب وإخضاعها للإجراءات القانونية السائدة.
فضلأ عن ذلك، ووسط هذا الجوّ المستقطب السائد اليوم، قد تمنح بعضجوانب الغموض في الدستور المشرعين مزيداً من الوقت والمجال لإعادة هيكلة النظام الدستوري قبل محاولة تعديل الدستور بحدّ ذاته. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التوسّع في جوانب الوثيقة الأكثر إيجابيةً (خاصة الحقوق المدنية) عبر تشريع جديد أو وثيقة حقوق. على سبيل المثال، على الرغم من صعوبة النقاش حول سنّ قانون وطني للمواد الهيدروكربونية (النفط والغاز)، سيكون إقرار هذا التشريع الذي يجيزه الدستور أقل صعوبة من محاولة إعادة النظر في كيفية تصوّر الدستور للاتحادية ودور “إقليم كردستان”.
كما يجب إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات المنصوص عليها في الدستور. ويتمثل برنامج الأعمال الأول في إنشاء “محكمة اتحادية عليا” جديدةوفقاً لـ “المادة 92 (2)”. ثانياً، من أجل تجنب الخطوة الصارمة المتمثلة في الانتقال إلى نظام رئاسي مع الاستمرار في الاستجابة للدعوات إلى مزيد من المساءلة، يمكن لمجلس النواب أن يسن تشريعاً جديداً يُمكّن الرئيس باعتباره “حامي الدستور”. وسيتماشى هذا الأمر مع “المادة 67″، التي تمنح الرئيس صلاحيات المراجعة الإدارية وسلطة الإدعاء على الحقوق الدستورية.
وبالنسبة لدور الولايات المتحدة، فلا يزال دستور عام 2005 الإرث الأبرز الذي تركته أمريكا في العراق ويجب أن يبقى على هذا النحو. وتحقيقاً لهذا الهدف، وفي وجه البدائل غير المؤكدة، يتعين على واشنطن و “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” مساعدة بغداد مجدداً على إعادة هيكلة النظام الدستوري من خلال اتخاذ خطوات تشريعية وفي مجال السياسة، من دون تعديل الدستور في الوقت الحالي. ويمكن أن تندرج هذه المساعدة القانونية ضمن اختصاص “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” الثنائية (خاصة الفرعين الثاني والثامن)، والتي تلزم الولايات المتحدة بـ “دعم وتعزيز ديمقراطية العراق ومؤسساته الديمقراطية”. وعلى الرغم من الأزمة المتفاقمة، لا تزال سياسة العراق التي تشكل موضع نزاع شديد مراعية إلى حدّ ما للدستور، على الأقل ظاهرياً. وبغية الحفاظ على هذا الشق المهم للدستورية، على بغداد وشركائها الدوليين النظر بجدية في كيفية تعزيز الدستور وجعله يُطبَّق بشكل أفضل – ليس فقط من أجل التقدم في المجال السياسي، بل من أجل مستقبل الشعب أيضاً.
صفوان الأمين
معهد واشنطن