يُفترض أن تكون السلطات اللبنانية قد سلّمت أمس رداً رسمياً على العرض الخطي الذي صاغه الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بما يضمن الاتفاق حول مستقبل التنقيب عن الغاز واستثماره في حقلي قانا وكاريش المتنازع عليهما. وتشير تصريحات الترحيب ومظاهر التهليل التي سادت أجواء الرئاسات اللبنانية الثلاث، الجمهورية ومجلس النواب وحكومة تصريف الأعمال، إلى أن الرد اللبناني يتضمن القبول بصفة عامة ولن يتجاوز بضع ملاحظات شكلية واستفسارية، مع حرص واضح على إبقاء حيثيات العرض الأمريكي طيّ التكتم أمام الرأي العام، وتفادي الخوض في ما تسرب من تفاصيله وعدم التعليق عليها رسمياً.
معروف أن ملف النزاع هذا ليس جديداً ولعل بداياته تعود إلى سنة 2000 مع الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وقد أشرف عليه نبيه بري شخصياً كما تعاقب على التوسط فيه موفدون أمريكيون سابقون، وشهد جولات تفاوض غير مباشرة، وسبق أن تعطل مراراً بسبب عرقلة من «حزب الله». لهذا فإن استبشار الرئاسات اللبنانية الثلاث بالعرض الأمريكي الراهن يعني في مستوى أول مباشر أن «حزب الله» قد سحب اعتراضاته السابقة، كما يعني في مستوى ضمني أهم أن مقترحات الترسيم المطروحة حالياً تحظى برضا من إيران أو قد تكون أيضاً جزءاً من صفقة مع الولايات المتحدة.
العرض ذاته قُدم إلى حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية التي سارع رئيسها إلى الترحيب به ولن يتأخر في عرضه على اجتماع الحكومة المصغر وتقديمه إلى الكنيست، من باب شكلي لأن الاتفاق لا يتطلب إقرار النواب الإسرائيليين كي يكتسب الصفة التنفيذية. لكن ردود الأفعال من الجانب الإسرائيلي تبدو مختلفة أو أكثر تحفظاً وأقل ترحيباً، والمعطيات هنا تتجاوز الاعتراض الطبيعي الذي كان متوقعاً من المعارضة الإسرائيلية عموماً، ومن رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو خصوصاً. فإلى جانب استقالة رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض لترسيم الحدود مع لبنان، تلقت المحكمة العليا شكاوى من منظمات إسرائيلية غير حكومية تتضمن الاعتراض على الاتفاق لأسباب متنوعة، كما أن أجواء حملات انتخابات الكنيست المقبلة لا تساعد على تعزيز التوافق الداخلي حول العرض الأمريكي بقدر ما تحث على التوتير.
وإذا كان من الطبيعي ترحيب الفريق اللبناني بالعرض الأمريكي من باب الزعم بأنه يلبي مطالب لبنان ويخدم مصالحه ويحفظ حقوقه في ثرواته وفي الآن ذاته لا يشكل تطبيعاً مع دولة الاحتلال ولا حتى ترسيم حدود برية، فالطبيعي الآخر هو إعلان الحكومة الإسرائيلية أنها بدورها حصلت على كل ما تريد والاتفاق الذي سيتمخض عن العرض الأمريكي يتطابق مع المصلحة الإسرائيلية ويحقق الاحتياجات الأمنية لدولة الاحتلال.
الشيطان مع ذلك يكمن في التفاصيل كما يُقال عادة بصدد اتفاقيات شائكة من هذا الطراز، والمستقبل القريب كفيل بكشف المزيد من الحقائق حول ميزان الأرباح والخسائر لدى هذا الطرف أو ذاك، فلا دولة الاحتلال عوّدت العالم على احترام القوانين والمواثيق، ولا الرئاسات اللبنانية الثلاث تملك رصيداً يُعتد به من المصداقية في خدمة مصالح الشعب اللبناني.
القدس العربي