لا شك في أن الحرب الروسية الأوكرانية دخلت منعطفا جديدا وحاسما، بقيام روسيا بضم أربع مناطق من الأراضي الأوكرانية ذات الأغلبية الروسية لأراضي روسيا الأم، والتصديق على ضمها من مجلس الدوما. وقد أجرى بوتين استفتاء في المناطق الأربع، لوغانسك ودونيتيسك وزابروجيا وخيرسون، في إقليم دونباس بين 23 و27 أيلول/ سبتمبر وجاءت النتائج بين 93% إلى 98% لصالح الانضمام لروسيا. أضف إلى تلك المناطق منطقة القرم التي ضمها عام 2014 ليصبح خمس أوكرانيا جزءا من روسيا، ويكون بذلك قد سيطر على أغنى المناطق الأوكرانية في الإنتاج الزراعي والصناعي، خاصة البتروكيميائيات.
أمام هذا التطور المهم عقد مجلس الأمن الدولي جلسة طارئة، الجمعة الماضي، لمناقشة هذه التطورات، ووضع المندوبان الأمريكي والألباني (وهو ملكي أكثر من الملك) مشروع قرار يدين الخطوات الروسية، فصوّت لصالحه عشرة أعضاء، لكن الفيتو الروسي أطاح به. وقد امتنعت كل من الهند وغابون والمكسيك والصين عن التصويت. ولو اعتمد مشروع القرار لأقر بأن الاستفتاءات التي أجريت لا قيمة قانونية لها ولا تشكل أساسا لأي تغيير في وضع هذه المناطق. كما سيطلب المشروع من مجلس الأمن دعوة جميع الدول والمنظمات الدولية والوكالات المتخصصة إلى عدم الاعتراف بأي تغيير في وضع هذه المناطق الأوكرانية.
القانون الدولي لا يسمح لدولة ترسيم حدود دولة أخرى بالقوة، طبعا الاستثناء الوحيد للكيان الصهيوني، الذي يعتبر فوق القانون فقد تلعثم وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن، عندما سأله الصحافي الشهير لقناة «سي أن أن» وولف بليتزر بعد أن ذكّر بهذا القانون الراسخ في القانون الدولي «وماذا عن ضم إسرائيل للجولان السوري؟» فوجئ بالسؤال وتلعثم وقال بعيدا عن الجانب القانوني الجولان مهمة بالنسبة لأمن إسرائيل، وكأن دونباس ليست مهمة لأمن روسيا، إذا ما تحولت إلى معسكرات لقوات الناتو. أي منطق هذا الخالي من أي منطق؟
السيناريوهات
سنحاول أن نستكشف بعض السيناريوهات لهذه الخطوة، بعد أخذ الإذن من محمد كريشان، في استعارة اسم برنامجه الشهير.. المشهد الآن تغير كثيرا…
خطوة نحو السلام: ما عرضه بوتين بعد قرار الاستفتاء والضم بوقف إطلاق النار فورا، ودعوة القيادة الأوكرانية إلى المفاوضات الجادة لحل المسائل كافة بين البلدين. وقد يكون هذا الخيار شبه مستحيل بالنسبة لأوكرانيا وممولي حربها الأمرأوروبيين. إلا أن ما يستطيع بوتين عمله بعد ضم الأراضي رسميا لتصبح أرضا روسية تماما مثلها مثل موسكو من وجهة نظر روسية، أن يقوم بسحب جميع قواته من خارج هذه المناطق وتجميعها على حدود دونباس – القرم وتعزيز وجودها وتحصين مواقعها ووضع بطاريات دفاعية قوية وحديثة ذات جاهزية عالية، ثم يعلن من جانبه أنه انتصر في الحرب وأن «العملية العسكرية الخاصة»، كما يسميها، قد حققت أهدافها وأن القوات الروسية ستلتزم بوقف إطلاق النار في اليوم والساعة اللتين يحددهما بوتين. ثم يعلن أن أي هجوم على هذه المناطق يعتبر عدوانا على روسيا وسيادتها وسيكون الرد حاسما ومزلزلا، ثم يتبع هذا التهديد بترجمة حقيقية على الأرض بحيث يوصل الرسالة لزيلينسكي ومن يقف وراءه بأن قواعد الحرب تغيرت. الآن مرحلة الدفاع عن الأرض الروسية ولا مجال للتردد، ولا يوجد أي مانع من التصعيد العسكري بأنواع الأسلحة والإمكانات الروسية كافة. عندما يتأكد المعسكر الغربي أن قواعد الاشتباك تغيرت قد يعيد حساباته، وهنا ينشط الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بمساعدة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للتوصل إلى تفاهمات مع أوكرانيا بقبول وقف إطلاق نار مؤقت، ولو لفترة قصيرة لتسهيل الممرات الإنسانية والحديث غير المباشر عن فرصة سانحة، من دون أن يكون ذلك تأييدا للضم أو تغيير الحدود الدولية، لكن بدل المواجهات في الميدان ستكون المواجهات في قاعات المفاوضات. هذا السيناريو رغم وجاهته إلا أنه أقرب إلى الخيال في ظل تقدم عسكري أوكراني واضح في الميدان.
حرب استنزاف طويلة الأمد: ما تريده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما مثل، اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وغيرها، هو استدراج الجيش الروسي لمستنقع أوكراني طويل الأمد على طريقة استدراج الاتحاد السوفييتي إلى مستنقع أفغانستان، الذي استغرق عشر سنوات (1979 – 1989) وانتهى بكسر ظهر القوات السوفييتية، وتدمير الاقتصاد السوفييتي، ما أجبر القيادة على الانسحاب المذل، وانتهت الأمور كما هو معروف في ظل قيادة غورباتشيف البائسة إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي وتناثر عقده إلى 15 دولة، تحمل الضغينة والكراهية لكل ما يذكرها بسنوات السيطرة السوفييتية، التي أشبعتهم شعارات حول الثورة العالمية والجنة على الأرض، وأفرغت معدات شعوبهم من لقمة العيش الشريفة.
القانون الدولي لا يسمح لدولة ترسيم حدود دولة أخرى بالقوة، طبعا الاستثناء الوحيد للكيان الصهيوني، الذي يعتبر فوق القانون
هذا السيناريو هو الأكثر معقولية، فالعقوبات الاقتصادية الشاملة والمتصاعدة بالتأكيد سيكون لها أثر كبير، ولا بد من أن تترك آثارا عميقة على الصحة الاقتصادية الروسية، فالعالم أصبح متشابكا، خاصة من الناحية المالية والاقتصادية بطريقة معقدة من الصعب تجاوزها. هذا لا يعني أن روسيا ستنهار اقتصاديا، ولكن حربا طويلة الأمد لا بد من أن تحفر في اللحم الحي للمواطنين الروس، إضافة إلى العقوبات فسيتم دعم الجيش الأوكراني بأسلحة نوعية متطورة وبكميات هائلة، وإذا قدمت الولايات المتحدة لأوكرانيا صواريخ متطورة مضادة للطائرات مثل، ستنغر (كما فعلت مع المجاهدين في أفغانستان) بالإضافة إلى الطائرات المسيرة والصواريخ بعيدة المدى فستتحول إلى حرب استنزاف لا محالة. أضف إلى ذلك العزلة الدولية الحانقة التي تعاني منها روسيا في المحافل الدولية. فقد طردت من مجلس حقوق الإنسان وأدينت في الجمعية العامة بتاريخ 2 آذار/ مارس بغالبية كبيرة (141 دولة) ولم تجد من يقف بجانبها إلا أربع دول هي سوريا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وإريتريا، بينما صوت بـ»امتناع (35) عضوا. وعلى ذكر الجمعية العامة، فقد قررت الدول الغربية استئناف الدورة الاستثنائية الطارئة الحادية عشرة اعتبارا من يوم الاثنين المقبل لإدانة ما قامت به روسيا من استفتاءات، وضم نحو خمس الأراضي الأوكرانية. ومن المتوقع أن يحصل مشروع القرار على أرقام قد تكون أعلى من المرة السابقة.
التصدعات الداخلية: وهذا السيناريو مرتبط بالسيناريو السابق، فجر روسيا في حرب استنزاف طويلة الأمد ستنعكس داخليا لا محالة. وقد بدأت بعض الآثار تظهر على السطح، فما أن أعلن بوتين التعبئة العامة المحدودة لضم 300000 جندي للجيش حتى بدأ آلاف المواطنين يهربون من البلاد عن طريق البر والبحر والجو. وقد وصلت الأعداد إلى عشرات إن لم يكن مئات الألوف، الذين قطعوا الحدود إلى جورجيا وكازاخستان ومنغوليا وفنلندا وغيرها. الأوضاع الداخلية مرشحة للاحتقان أكثر إذا شاهد المواطن الروسي، ألّا أمل في حسم الحرب بسرعة وبدأت تعود الجثث إلى البلاد وتفاقمت الأزمة الاقتصادية وارتفعت الأسعار ونقصت المواد الأساسية. قد تبدو حركة الاحتجاج ضد الحرب خافتة لحد الآن، لأن وسائل الإعلام الروسية لا تتحدث عن الحرب أبدا، كما قال لي ضابط فلسطيني عاد قبل أيام من مدينة سان بيترسبيرغ والتقيته في رام الله. «أخبار الحرب غير معروفة. فكل مواقع منصات «التواصل الاجتماعي الغربية محظورة والمواقع الروسية مراقبة، والتلفزيون لا يذكر شيئا عن الحرب». لكن إذا ما طالت الحرب فالاحتجاجات الداخلية لا بد من أن تتصاعد وقد تؤدي إلى هزات كبيرة وقيام حركات انفصالية وحركات تمرد واحتجاجات متواصلة قد تؤدي إما إلى الإطاحة ببوتين، أو بالوحدة الداخلية للبلاد، أو كليهما.
الانتصار العسكري الحاسم ـ هذا السيناريو، رغم استبعاده حاليا بسبب التراجعات الروسية في الميدان، إلا أن روسيا قد تستخدم أسلحة نوعية، عدا النووية، وتحسم المعركة عسكريا وتقصم ظهر الجيش الأوكراني، وتأسر آلاف الجنود والضباط وتعلن هزيمة أوكرانيا الماحقة. عند ذلك تبدأ مرحلة تفكيك النظام الدولي القديم الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول أوروبا، ويبدأ العد التصاعدي نحو بناء نظام دولي جديد يقوم على التعددية والتشاركية واحترام الدول كبيرها وصغيرها وستقف يومها روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وتركيا ومصر وإندونيسيا إلى جانب الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان ويعاد تركيب مجلس الأمن الدولي من جديد ليتسع للقوى الجديدة ويعاد النظر في نظام الفيتو مرة وإلى الأبد. يومها فقط نستطيع أن نقول لقد ساهم بوتين في تفكيك نظام القوى الإمبريالية القديمة وبنى نظاما أكثر تمثيلا لعالم اليوم وأكثر عدلا وإنسانية.
القدس العربي