هل حقاً تهدف الحرب الروسية على أوكرانيا، إنهاء عالم القطب الواحد لصالح تعدد الأقطاب؟
عالم سيطرة أمريكا إلى عالم أكثر توازناً. المُراقب للأوضاع قبل هذه الحرب، قد يَشُك في ذلك، بل على العكس، تبدو نتائجها عكسية تماماً.
العالمان الشيوعي والليبرالي
حدد الرئيس الأمريكي، ترومان عام 1947، مفهوم العالم ثنائي القطب، عندما قسمه إلى جزأين، العالم الشيوعي في جهة، والعالم الليبرالي في جهة أخرى. من جهة السوفييت ومجموعة من الدول الدائرة في فلكهم. وفي الآخر أمريكا ومجموعة أخرى من الدول الدائرة في فلكها. انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، أدى لهدم هذه الثنائية، لصالح وضع جديد متغير ومتقلب، يمكن تسميته، بعالم «ما بعد ثنائية القطب»، حسب بيرتران بادي، عالم الاجتماع الفرنسي، وليس وحيد القطب، فالقطب المُتبقي، أي الولايات المتحدة، لم يستطع فرض هيمنته بسبب التطور السريع للصين ودول أخرى في العالم على المستوى الاقتصادي والعسكري، بما فيها روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، والتي استعادت التأثير في السياسة العالمية منذ بداية القرن. تعددية الأقطاب هنا تعني بشكل أساسي، أمريكا والصين وروسيا. لكن الواقع يُثبت أن هذه الدول لم تستطع تجنيد وجر دول العالم الأخرى حولها، لتستحق اسم قطب. القطب بالتعريف هو من يَلتف حوله الآخرون. نحن إذاً كنا نتأرجح في سنوات ما بعد الحرب الباردة، بين نظام متعدد الأقطاب وبين نظام ذي قطبين، أو نظام بدون أقطاب.
الحرب الأمريكية في العراق وفشلها الذريع في تحقيق أهدافها، انتقالها بعد ذلك إلى حرب أفغانستان بنتائج مشابهة وخروج مُهين، شكل إعلاناً عالمياً عن نهاية ما سمي من طرف بعض الخبراء، عالم القطب الواحد، وهو ما دفع الصين إلى تقوية نفوذها العالمي، خصوصاً مع تحالفاتها الجديدة مع أفريقيا وآسيا الوسطى، ودفع روسيا إلى التدخل في سوريا، ودول حليفة سابقاً، وقمع الحركات الديمقراطية، كما حدث حديثاً في كازاخستان.
بداية النهاية
هذه الصورة كما يبدو، تُظهر عُقم الادعاءات الروسية، وما يُعلنه بوتين وأصدقاؤه في العالم، من بداية النهاية لعالم القطب الواحد، ودخولنا عالماً متوازناً جديدا، حيث ستجد كل دولة مكانتها في عالم متعدد الأقطاب. هذا الادعاء الساذج على أقل تعبير، يهدف فقط إلى إخفاء حقيقة حروب الرئيس الروسي، والتي تسعى إلى إبعاد أي خطر لانتشار الديمقراطية، أو النظام الليبرالي في روسيا، قد يأتي من الدول المجاورة خصوصاً أوكرانيا، الدولة السابقة المهمة في الاتحاد السوفييتي.
نتائج هذه الحرب، بعد سبعة أشهر، تُظهر أن الأوضاع القطبية العالمية، هي على عكس ما يقول بوتين ومحبوه. أمريكا التي كانت في مسار فقدانها لسيطرتها على دول أوروبا، وحتى على الناتو، والذي لم يعد له دور (عندما أعلن الرئيس الفرنسي أنه ميت سريرياً)، وفي طريق الانكفاء من جديد على نفسها، مع وصول الرئيس ترامب والمحافظين للسلطة، يبدو من جديد أنها استعادت عافيتها، فهي تفرض الآن سياساتها الاقتصادية والعسكرية على أوروبا، وتمكنت بسرعة كبيرة، من إعادة الروح والقوة إلى الجسد المتهالك لحلف الناتو، والذي وجد من جديد هدفاً ليبقى ويقوى، مُمثلاً بالخطر الروسي؛ الاقتصادي (الغاز)، والعسكري مع تهديدات بوتين وأعوانه، باستعمال السلاح النووي. بنفس الوقت أنهت الحرب خرافة الجيش الروسي، الثاني الأقوى في العالم، والذي لم يستطع تحقيق أي من أهداف رئيسه، بل على العكس، فقد عشرات الآلاف من جنوده، وأظهر فساده الداخلي وعجزه التام، عن مواجهة جيش حديث مسلح غربي، مؤدي في النهاية إلى تأكيد تفوق السلاح الأمريكي والغربي على الروسي، مع ما يمثله من ضربة قوية للاقتصاد، حيث يشكل تصدير السلاح، أحد أهم أعمدته، بالإضافة إلى ضربة الحصار الغربي الخانق، في مجالات اقتصادية أخرى.
القطب الروسي على صغره، أي روسيا والدول الدائرة في فلكها، بدأ في التقلص والتفكك، ابتعاد أرمينيا حليفة روسيا التقليدية، وتوجهها نحو الولايات المتحدة، وزيارة رئيسة الكونغرس الأمريكي، نانسي بيلوسي، لها وإعلانها التعهد بدعمها عسكرياً، بالإضافة لتصريحات رئيس كازاخستان، قبل أيام، عن فتحه الحدود أمام الفارين الروس من التجنيد وحمايتهم، ورفضه لسياسة تهديد الدول ذات السيادة، لدليل على التراجع الكبير لهيبة روسيا وهيمنتها على أقرب حلفائها.
ما نراه الآن، وبعد أشهر الحرب هذه، هو عودة أمريكا كقطب حقيقي واحد، تملك كل وسائل السيطرة والهيمنة، مدعومة من أغنى وأقوى دول العالم، وهي الدول الأوروبية واليابان وأستراليا.
هل بقيت الصين في معزل من التأثر من هذه الحرب، وهي الدولة الأهم المرشحة لتكوين قطب سياسي واقتصادي عالمي مع تحالفات واسعة. تدمير هذه الحرب لسياسة الحزام الاقتصادي، أي طريق الحرير الجديد في جزئه الشمالي، المار بآسيا الوسطى وأوكرانيا، والاضطرابات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الغزو الروسي، وبدء الاقتصاد الغربي بتغيير سياساته الانفتاحية التقليدية على الصين، لصالح مركزتها من جديد في دول الغرب نفسها. تحالف دول كثيرة في منطقة التأثير الصيني مع أمريكا، إفشال سياسة الصين نحو تايوان، مع إخراج تلك الأخيرة من عزلتها والتعهد بالدفاع عنها، في حالة هجوم صيني (كان متوقعاً عند بعض المحللين نهاية هذا العام)، دفن في رأيي حلم الصين أن تصبح الدولة الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة، كما كان يتوقع الكثيرون بمن فيهم الغربيون.
أتوقع إن استمرت الحرب لفترة أطول، أن يظهر الشرخ الصيني الروسي والخلافات بينهما أمام الجميع، لما لهذه الحرب من انعكاس سلبي على موقع الصين العالمي.
فترة التردد
نحن نعيش إذاً في هذه الأيام، ميلاد عالم القطب الواحد الحقيقي، وانتهاء فترة التردد وتعدد الأقطاب الوهمية. لم تُنه حرب بوتين على أوكرانيا، عالم الغرب المُهيمن، بل على عكس ذلك، أعادته لهذه الهيمنة، بعد أن كان قد بدأ في فُقدانها. إن كان هناك فشل واحد لبوتين، فهو أنه قوى من كان يَدعي أنهم أعداؤه، بالإضافة لتدمير اقتصاد بلاده نفسها، وعزلها وإفقارها. هذا بالتأكيد سيدفع ثمنه الروس أنفسهم، ولكن أيضاً دولا كثيرة في العالم وفي أولها الصين.
القدس العربي