ستُعقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية القادمة، وهي الثانية منذ انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي، في يونيو/حزيران المقبل (2023). هذه هو الموعد المقرر أصلًا، كون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة عُقدت في يونيو/حزيران 2018. ولكن ثمة من يقول: إن الانتخابات لابد أن تُعقد في مايو/أيار، لتفادي موسم الامتحانات الطلابية وعطلة عيد الأضحى. عمومًا، ومهما كان الموعد الذي سيُتفق عليه، فالواضح أن تركيا أخذت تخطو بالفعل خطواتها الأولى إلى مناخ انتخابي ساخن.
أطلق حزب الحركة القومية، شريك حزب العدالة والتنمية الحاكم في تحالف الشعب، حملته الانتخابية قبل أسابيع قليلة. وكان التحالف قد أعلن أن مرشحه للانتخابات الرئاسية سيكون هذه المرة أيضًا الرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيس الجمهورية الحالي. وتقول مصادر العدالة والتنمية: إن قيادة الحزب قامت بالفعل بتشكيل اللجنة التي ستدير الانتخابات، واختارت مديرًا لها. وكان أردوغان ألمح إلى الخطوات التي اتخذها حزبه استعدادًا لبدء الحملة الانتخابية عندما ذكر في مقابلة مع محطة سي إن إن التركية، 29 سبتمبر/أيلول 2022، أن شعار حملته سيكون “القرن التركي”، في استعادة لوعوده السابقة بأن الذكرى المئوية لتأسيس الجهورية التركية ستشهد انطلاقة اقتصادية وجيوسياسية جديدة لتركيا، وأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنَ تركيا.
ولكن، وبالرغم من أن ما تبقى على موعد الانتخابات لا يزيد عن ثمانية شهور، بأي حال من الأحوال، فإن قدرًا كبيرًا من الغموض لم يزل يحيط بهذه الانتخابات. ثمة سلسلة من استطلاعات الرأي التي أُجريت خلال الشهرين الماضيين؛ ولكن هذه الاستطلاعات اقتصرت في معظمها على محاولة قراءة الانتخابات البرلمانية، وليست الرئاسية. فإن كان بات من المؤكد أن أردوغان سيخوض الانتخابات الرئاسية، التي ستكون آخر انتخابات يسمح له الدستور بخوضها، فليس من الواضح من سيكون مرشح المعارضة؛ بل وليس من الواضح ما إن كانت الأحزاب المعارضة ستخوض الانتخابات بمرشح واحد، أو أكثر.
أما فيما يخص الانتخابات البرلمانية، فلم يعلن أي من الأحزاب بعد قائمة مرشحيه. وليس من الواضح كيف ستؤثر التحالفات على ترتيب هذه القوائم، وما إن كان حزبا المعارضة الرئيسان، حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد، سيعملان على إدراج مرشحي الأحزاب الصغيرة المتحالفة معهما على قوائمهما الانتخابية. خلف ذلك كله، وبينما يبدو أن تحالف الشعب لا يزال يرتكز إلى تفاهمات مستقرة وعلاقات صلبة بين طرفيه، فإن شكوكًا تحيط بقدرة أحزاب المعارضة في تحالف الستة على بناء كتلة انتخابية موحدة وفعالة، أو حتى بقدرتها على الاحتفاظ بوجودها معًا.
فكيف تتفاعل ديناميات السياسة التركية في الطريق إلى الانتخابات القادمة؟ وما مستقبل تحالفات الأحزاب التركية، قبل الانتخابات وبعدها؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للأحزاب المتآلفة التوافق على برنامج انتخابي، وبرنامج آخر للحكم؟ ولماذا تبدو الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، على السواء، أكثر تعقيدًا من كافة الدورات الانتخابية التركية منذ 2002، وأصعب على التنبؤ؟
كتل حزبية ثلاث
ثمة ثلاث كتل حزبية تركية يعمل قادة كل منها على خوض الانتخابات المقبلة معًا، ولكن ثمة شكوك متزايدة حول ما إن كان النهج التحالفي سيجلب أية قيمة إضافية إلى حظوظ أطراف التحالفات القائمة الآن:
الأول بين هذه التحالفات هو تحالف الشعب، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، والذي حافظ على استقراره منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة. والواضح أن التقارب بين رئيسي الحزبين، طيب أردوغان ودولت بهتشلي، الذي بدأ في الظهور بعد محاولة 2016 الانقلابية الفاشلة، تطور إلى علاقات وثيقة وتفاهمات متعددة الجوانب، توحي بأن تحالف الحزبين مرشح للاستمرار، ربما حتى في المرحلة بعد الانتخابات المقبلة. ولكن التراجع الحثيث في حظوظ حزب الحركة القومية الانتخابية يعني أنه قد لا يستطيع تقديم مساهمة ملموسة تمكِّن العدالة والتنمية من الاحتفاظ بالأغلبية البرلمانية، أو إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا للجمهورية.
التحالف الثاني ليس بنفس الدرجة من الوضوح، لا من حيث بنيته التنظيمية ولا أفقه السياسي، بل ويصعب إطلاق اسم تحالف عليه في هذه المرحلة. يضم هذا التحالف ستة أحزاب معارضة، وعُرف بمائدة الستة. ولكن تحالفًا باسم الأمة، تشكَّل من حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيس، والحزب الجيد، في الانتخابات السابقة، كان النواة التي مهدت الطريق للقاء الستة. إضافة إلى الشعب الجمهوري، بقيادة كمال كاليتشدار أوغلو، والجيد، بقيادة ميرال أكشينر، يضم لقاء الستة أربعة أحزاب أخرى صغيرة: حزب السعادة، بقيادة تمل كرم الله أوغلو، والحزب الديمقراطي، بقيادة غوليتشكين يوصال، وحزب الديمقراطية والتقدم، بقيادة علي باباجان، وحزب المستقبل، بقيادة أحمد داود أوغلو.
التقت الأحزاب الستة للمرة الأولى، في فبراير/شباط الماضي 2022، بعد أن فشلت محاولات داود أوغلو في بناء تحالف بين حزبه وحزب الفضيلة وحزب الديمقراطية والتقدم، على أساس خلفية هذه الأحزاب المحافظة الإسلامية المشتركة. ومنذ فبراير/شباط، عقد القادة الستة لقاءات شهرية منتظمة، إلى أن تقرر في لقاء 21 أغسطس/آب عقد اللقاء المقبل في 2 أكتوبر/تشرين الأول. المشكلة، أن الأحزاب الستة لم تتفق حتى الآن إلا على بيان نوايا عمومي حول عزمها، في حال فوزها في الانتخابات، العودة بالبلاد إلى النظام البرلماني. وحتى في لقاء 2 أكتوبر/تشرين الأول، لم يصدر عن اجتماع القادة الستة سوى بيان يقول بأنهم قرروا تشكيل لجنة خاصة للاتفاق على السياسات التي سيحملها برنامجهم الانتخابي، وعلى رؤية تفصيلية لكيفية الانتقال إلى النظام البرلماني، في حال نجاحهم في تولي الحكم. والواضح أن خطوة تشكيل اللجنة، بكل ما تعنيه من غموض، هي أول خطوة جادة اتخذتها مجموعة الستة للتحول إلى قوة سياسية-انتخابية موحدة.
أما التحالف الثالث، تحالف العمل والحرية، فلم يُعلَن إلا مؤخرًا، في أواخر سبتمبر/أيلول 2022، وتشكل من ستة أحزاب كردية ويسارية: حزب الشعوب الديمقراطي، وحزب العمال التركي، وحزب العمل، وحزب الحرية الاجتماعية، والحركة العمالية، واتحاد المجالس الاشتراكية. بخلاف حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يُتهم بعلاقاته مع حزب العمال الكردستاني المحظور، والذي يتمتع بوزن انتخابي وبرلماني معتبر، فإن كافة مكونات تحالف العمل والحرية الأخرى غير ذات وزن، بل ولا تكترث استطلاعات الرأي برصد ما إن كان لأيها حصة -مهما صغرت- من أصوات الناخبين الأتراك. ولابد أن تشكيل التحالف يرمي إلى إعطاء حزب الشعوب الديمقراطي وجهًا تركيًّا، للتغطية على هويته الكردية الانشقاقية.
المؤكد أن هذا التحالف، ومهما تعددت أطرافه، لن يكون عاملًا مهمًّا في تحديد طبيعة دور حزب الشعوب الديمقراطي السياسي. ما سيحدد موقع الشعوب الديمقراطي المستقبلي، بل وحتى قدرته على الاستمرار والتأثير في توجهات البلاد السياسية، يتعلق بما إن كان سيحافظ على ثقله البرلماني، وبطبيعة علاقته مع رئيس الجمهورية المقبل والنظام الحاكم بعد الانتخابات.
المؤشرات الانتخابية
تصدر أغلب استطلاعات الرأي في تركيا عن مؤسسات بحث مسيَّسة، لا تكاد تتمتع واحدة منها بدرجة كافية من الثقة والحيادية. ولكن هذه الاستطلاعات تظل الوسيلة الوحيدة للتعرف، وإن بصورة تقريبية، على مواقف الأحزاب السياسية الرئيسة، وعلى الشخصيات التي يحتمل أن تخوض الانتخابات الرئاسية. لتفادي التحيزات، يستحسن النظر إلى متوسط نتائج ثلاثة أو أربعة استطلاعات نُشرت خلال شهر سبتمبر/أيلول. فما الذي يمكن استخلاصه من هذه الاستطلاعات؟
- ثمة تراجع ملموس في حظوظ حزب العدالة والتنمية الحاكم عمَّا حققه في الانتخابات السابقة. ويبدو أن نصيب العدالة والتنمية الانتخابي يتراوح الآن بين 30-34 بالمئة من الأصوات. كما تراجع موقف حزب الحركة القومية إلى أقل أو أكثر قليلًا من 7 بالمئة. ولكن ذلك لا يعني أن حزب المعارضة الرئيس، حزب الشعب الجمهوري، حقق أي تقدم يذكر؛ ذلك أن حصته الانتخابية لم تزل تدور حول 23 إلى 24 بالمئة من الأصوات. الحزب الذي أفاد أكثر من أي حزب آخر من تراجع شعبية العدالة والتنمية والحركة القومية هو الحزب الجيد، الذي وُلد أصلًا من انشقاق عن الحركة القومية. ويبدو أن شعبية الحزب الجيد ارتفعت إلى 15 بالمئة من الأصوات، أو حتى أكثر قليلًا. وليس ثمة تغيير جوهري في وضع حزب الشعوب الديمقراطي، ذي التوجه الكردي، الذي لم يزل يراوح حول 11 بالمئة من الأصوات. أما أحزاب اليمين المحافظ الثلاثة الأخرى: الديمقراطية والتقدم، وحزب السعادة، وحزب المستقبل، فلم تزل في الموقع ذاته الذي وقفت عنده عند تأسيسها، بنسب لا تزيد عن 1 بالمئة للسعادة، و1.5 للمستقبل، و2 بالمئة للديمقراطية والتقدم. الحزب الديمقراطي، الشريك السادس في لقاء الستة، وكافة أحزاب اليسار الصغيرة المتحالفة مع الشعوب الديمقراطي، لا يكاد يوجد لها أثر في الخارطة الانتخابية.
- أما الانتخابات الرئاسية، فلم تزل تقديراتها أقرب إلى التخمينات منها إلى الحسابات العلمية. والسبب بالطبع يعود إلى أن المرشح الوحيد المعروف حتى الآن هو الرئيس أردوغان. كافة القوى والتكتلات الحزبية الأخرى لم تزل تنتظر نتائج المساومات السياسية بين أطرافها، قبل أن تعلن عن موقفها من الرئاسيات. ولذا، فإن سؤال استطلاعات الرأي التي حاولت استكشاف توجهات الناخبين بخصوص رئاسة الجمهورية تعلق بما إن كان لدى المستطلعة آراؤهم النية للتصويت لأردوغان أم لا، بدون أن تحدد منافسه. عمومًا، فالواضح أن نسبة أولئك الذين يؤكدون عزمهم التصويت لأردوغان لا تزيد عن نسبة التصويت للعدالة والتنمية، أي حوالي 34 بالمئة. والمؤكد، بالطبع، أن هذه النسبة معرضة للتغيير في حال تم الإعلان عن المرشح أو المرشحين المنافسين.
ما توحي به هذه الصورة لخارطة توزع الأصوات، قبل ثمانية شهور على موعد الانتخابات، أن تحالف الشعب، الذي يتمتع الآن بأغلبية برلمانية واضحة، قد يخسر هذه الأغلبية، إن حافظ الناخبون الأتراك على توجهاتهم الانتخابية الحالية. والملاحظ، أن نصيب حزب العدالة والتنمية من الأصوات، كما وضع أردوغان الانتخابي، قد شهدا تحسنًا ملموسًا في الشهرين أو الثلاثة الماضية، بعد أن كانا قد وصلا أدنى مستوى لهما في الربيع الماضي. والأرجح أن هذا التحسن يرجع إلى نجاح المقاربة المتوازنة، التي تبنتها حكومة أردوغان من الحرب الأوكرانية، والإنجازات التركية الدبلوماسية الكبيرة، المتعلقة باتفاق تصدير الحبوب الروسي-الأوكراني، واتفاق تبادل الأسرى بين المتحاربين، ومشاركة تركيا الفعالة في مؤتمر منظمة دول شنغهاي، وإعلان أنقرة عزمها الالتحاق بالمنظمة رسميًّا.
بيد أن ما لا جدال فيه أن حظوظ أردوغان وحزبه لم تزل رهينة تطورات الوضع الاقتصادي-المالي لتركيا. فقدت الليرة التركية ما يقارب 40 بالمئة من قيمتها خلال العام من منتصف 2021 إلى منتصف 2022، كما ارتفع مستوى التضخم إلى 83 بالمئة في سبتمبر/أيلول، الأعلى في أوروبا. ثمة مؤشرات على استقرار سعر صرف الليرة أمام العملات الرئيسة الأخرى، وأن التذبذب الطفيف في قيمتها يعود إلى قوة الدولار وليس إلى عوامل ضعف داخلية. كما أن هناك أدلة على أن التضخم قد وصل أعلى ما يمكن أن يصل إليه. ويحدو الرئيس والدوائر المقربة منه أمل أن يبدأ مستوى التضخم بالتراجع بصورة ملموسة مع نهاية العام الحالي. ولكن هذه لم تزل في دائرة التوقعات.
بالرغم من نجاح تركيا في تجنب الركود الاقتصادي، الذي أخذ يضرب اقتصادات معظم دول مجموعة العشرين منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، فإن الاقتصاد التركي لم يزل يقف على أرض هشة. الارتفاع الهائل في أسعار موارد الطاقة، والأرقام السلبية للميزان التجاري ومعدل الحساب الجاري لتركيا، تعني أن الاقتصاد التركي لم يخرج من الأزمة بعد. كما أن الرئيس أردوغان لم يزل يمارس ضغطًا كبيرًا على البنك المركزي التركي لخفض أسعار الفائدة، في اتجاه مخالف لحركة بنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي، والاحتياطي الفيدرالي الأميركي، التي تتحكم بعملات الاحتياطي النقدي في أغلب دول العالم، وتكاد تهيمن على الساحة المالية العالمية برمتها.
أسئلة الحسابات السياسية
على المستوى السياسي، لم تظهر حتى الآن أية بوادر على أن أردوغان سيقوم بتعديل حكومي ذي معنى في الأسابيع القليلة المقبلة. ثمة اعتقاد داخل العدالة والتنمية وفي أوساط الرأي العام الموالية للرئيس، بأن من الضروري تغيير عدد من الوزراء، سواء أولئك الذي أثارت سياساتهم الجدل، أو أولئك الذي لا يتمتعون بثقة عموم الشعب التركي. كما بات من الضروري اتخاذ خطوات ملموسة لتقديم خليفة أردوغان في قيادة الحزب إلى الشعب التركي، سيما أن الانتخابات المقبلة هي آخر انتخابات يسمح فيها الدستور لأردوغان بالمنافسة. في كلا الملفين: التعديل الحكومي، والإيحاء بوجود خليفة محل ثقة من أغلبية حزب العدالة والتنمية، لم يزل أردوغان يُظهر ترددًا كبيرًا، ورغبة في الحفاظ على الوضع الراهن.
ولكن الأسئلة المتعلقة بوضع قوى المعارضة أكثر تعقيدًا بلا شك.
المؤكد أن كتلة الستة، وليس حزب الشعوب الديمقراطي وحلفاءه، ما يمثل البديل الانتخابي المحتمل للعدالة والتنمية والرئيس أردوغان، بالرغم من أن موقف الشعوب الديمقراطي من الانتخابات الرئاسية، على وجه الخصوص، سيكون عاملًا مرجحًا. ولكن الأحزاب الستة تواجه عددًا من المعضلات المستعصية أمام تحولها إلى تحالف حزبي متماسك يمكنه كسب ثقة الناخبين. أولًا: الكتلة هي تجمع لأحزاب مختلفة أيديولوجيًّا إلى حدٍّ كبير. يُحسب حزب الشعب الجمهوري على يسار الوسط؛ بينما تحسب أربعة أحزاب على يمين الوسط: حزب الديمقراطية والتقدم وحزب السعادة وحزب المستقبل والحزب الديمقراطي؛ أما الحزب الجيد فينحدر من جذور قومية. بمعنى، أن ليس ثمة ما يجمع هذه الأحزاب، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسة خارجية، سوى العداء لأردوغان وحزبه. وثانيًا: لأن كلًّا من الأحزاب الستة لديه شروطه الخاصة للتوافق على الانخراط في تحالف يخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية بصورة موحدة.
تتعلق أولى هذه المعضلات بقانون الانتخابات البرلمانية، الذي يقول: إن على كل حزب يخوض الانتخابات تجاوز حافة 7 بالمئة من الأصوات قبل أن يحق له التمثيل في البرلمان، وأن لا قيمة لوجود هذا الحزب في تحالف انتخابي أكبر، لأن الأصوات لا يمكن أن تنتقل من حزب إلى حزب آخر متحالف معه. ما يعنيه هذا، أن أربعة من الأحزاب الستة لن تستطيع دخول البرلمان، إلا إن أفرد حزبا الشعب الديمقراطي والحزب الجيد مواقع آمنة لمرشحيها على قوائمهما الانتخابية. والسؤال هنا: إلى أي مدى يمكن لقاعدة الأحزاب الأربعة الصغيرة القبول بإدراج مرشحيها في قوائم أحزاب أخرى مختلفة معها أيديولوجيًّا بصورة واضحة؟ وأي عدد من المقاعد الآمنة التي يمكن للشعب الجمهوري، أو الحزب الجيد، التخلي عنها لإرضاء الأحزاب الأربعة الصغيرة الأخرى؟
المعضلة الأكبر تتعلق بتوافق الأحزاب الستة على مرشح رئاسي واحد. يعتقد رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كاليتشدار أوغلو، أنه وحده المؤهل لخوض المنافسة على رئاسة الجمهورية، بصفته زعيم حزب المعارضة الرئيس والأقدم والأرسخ جذورًا في تاريخ الجمهورية. ويرى كاليتشدار أوغلو، الذي يزيد عمرًا عن أردوغان، أن هذه فرصته الأخيرة لتحقيق إنجاز سياسي، يشرف سجله في قيادة الحزب، ويشرف تاريخ حزبه، على السواء. ولكن هناك دافع آخر لا يجري الحديث حوله بصوت عال في المجال العام. فكاليتشدار أوغلو من أصول علوية، بل ويقال: إنه فوق ذلك علوي-كردي؛ ولابد أنه يرى أن فوزه بالرئاسة سيضع نهاية لتقاليد مستقرة منذ عهد السلاجقة، تقول: إن قيادة أتراك الأناضول لا تُعطَى إلا لمسلم سُني.
بيد أن زعيمة الحزب الجيد، ميرال أكشينر، الشريك الثاني في مجموعة الستة، أعربت في أكثر من مناسبة عن معارضة ترشح كاليتشدار أوغلو للانتخابات الرئاسية. ما تستند إليه أكشينر أن كاليتشدار أوغلو لن يستطيع الفوز في مواجهة أردوغان. ولكن الحقيقة خلف موقف أكشينر تعود إلى أن كاليتشدار أوغلو معروف بعلاقته الدافئة مع حزب الشعوب الديمقراطي، وأن قادة من الأخير صرَّحوا علنًا بأن حزبهم لن ينافس على الرئاسيات إن كان كاليتشدار أوغلو هو مرشح المعارضة؛ وأن الحزب سيدعو مؤيديه للتصويت له. المشكلة أن قاعدة الحزب الجيد هي في أغلبها قاعدة قومية، وأن أي تواطؤ من قبل رئيسة الحزب على التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي سيؤدي تلقائيًّا إلى انشقاق الحزب الجيد.
لا تتنكر ميرال أكشينر لحق الشعب الجمهوري في تسمية مرشح المعارضة، ولكنها تسعى، كما يبدو، إلى إقناع كاليتشدار أوغلو بالموافقة على ترشيح رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أو رئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش. ما يقوله أنصار كاليتشدار أوغلو، في المقابل: إن أكرم إمام أوغلو ليس محل توافق في حزب الشعب، الذي هدد بعض قادته بعدم التصويت له إن قررت مجموعة الستة ترشيحه. كما أن رئاسته لبلدية إسطنبول خلال السنوات القليلة الماضية تبدو خالية تمامًا من الإنجازات. ولضعف خبرة إمام أوغلو السياسية، يخشى كثيرون من أنه سيصبح لقمة سائغة لأردوغان. أما ياواش، الذي جاء إلى حزب الشعب الجمهوري من صفوف الحركة القومية، فهو بالتأكيد مرشح آمن من وجهة نظر الحزب الجيد. ولكن ياواش، أيضًا، سياسي خفيف الوزن، ويصعب إقناع عموم الأتراك بقدرته على رئاسة دولة تعتبر واحدة من أصعب دول العالم إدارة وحكمًا. إضافة إلى ذلك، فقد أعلن حزب الشعوب الديمقراطي أنه بالتأكيد لن يصوِّت لياواش، الذي يُعرف بعدائه للحركة القومية الكردية، في حال اختارته مجموعة الستة مرشحًا لها.
عمومًا، وبالرغم من أن الأحزاب الأربعة الصغيرة في مجموعة الستة لا تتمتع بالثقل الذي يتمتع به الحزب الجيد في صناعة القرار، إلا أن تجاهلها كلية لن يساعد قادتها في الحفاظ على تماسكها الداخلي. أحمد داود أوغلو، الذي تنحدر كوادر حزبه من خلفية إسلامية محافظة، يحاول إقناع مؤيديه بأن وجوده في كتلة الستة يصب لمصلحة الحفاظ على المكتسبات التي حققها القطاع المحافظ من الناخبين خلال العقدين الماضيين. حاول داود أوغلو في البداية إقناع مجموعة الستة بتشكيل ما يشبه المجلس الرئاسي في حالة الفوز في الانتخابات، بحيث يتولى الرئاسة أحد قادة الأحزاب الستة، بينما يصبح القادة الخمسة الآخرون نوابًا للرئيس، يتمتعون بحق التوقيع على القرارات الرئاسية. ولكن هذا المقترح لم يتم التوافق عليه.
مؤخرًا، تقدم داود أوغلو بمقترح بديل، ينص على أن يكون الرئيس من حزب الشعب الجمهوري، بينما تُعيَّن ميرال أكشينر نائبة للرئيس وتكلف بالإشراف على عمل الحكومة إلى أن تنتقل البلاد إلى النظام البرلماني. وطبقًا لمقترح داود أغلو، تتعهد الحكومة، التي توزع وزاراتها على الأحزاب الستة بصورة عادلة، صناعة القرار والسياسات بتوافق أعضائها. وليس من الواضح بعد ما إن كانت مجموعة الستة ستوافق على هذا المقترح، الذي يعني بالضرورة تقييد سلطات الرئيس المنتخب.
وإلى جانب الصعوبات التي يواجهها داود أوغلو مع كوادر حزبه ومؤيديه، يبدو أن حزب السعادة، الذي يستند إلى قاعدة إسلامية خالصة، لن يستطيع إقناع مؤيديه بالتصويت لمرشح رئاسي من حزب الشعب الجمهوري، مهما حاولت مجموعة الستة إرضاء ناخبي السعادة وتطمينهم. أما على باباجان، رئيس حزب الديمقراطية والتقدم، الذي جرَّ أقدامه بتثاقل للالتحاق بمجموعة الستة، فليس من المؤكد أنه سيمضي مع شركائه في المجموعة إلى نهاية الطريق، سيما بعد أن انتهت علاقة حزبه كلية مع الرئيس السابق، عبد الله غول، الذي اعتُبر الأب الروحي للحزب، وخسر عددًا من كوادره المتقدمة خلال الأشهر القليلة الماضية. كان باباجان يحلم دائمًا بأن يصبح مرشح المعارضة للرئاسة، ولكن قلَّة فقط في مجموعة الستة من تثق في باباجان، أو تطمئن إلى طموحه.
انتخابات عصية على التوقع
ثمة اعتقاد في صفوف المعارضة التركية بأن الانتخابات المقبلة باتت محسومة النتائج، وأنها بالتأكيد ستضع نهاية لحكم العدالة والتنمية ورئاسة أردوغان للجمهورية. من وجهة نظر المعارضة، لن تستطيع حكومة أردوغان خلال الوقت المتبقي على موعد الانتخابات، مهما حاولت، إعادة التوازن إلى الاقتصاد التركي، لا من جهة الحفاظ على قيمة سعر صرف الليرة، ولا من جهة خفض مستوى التضخم بصورة ملموسة. الاقتصاد، تقول أوساط المعارضة، هو العامل الحاسم في هذه الجولة الانتخابية، وليس نجاحات الدبلوماسية التركية، أو التصلب في الموقف من اليونان، أو حتى عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
الحقيقة أن نتيجة الانتخابات المقبلة، البرلمانية منها أو الرئاسية، لم تزل عصية على التوقع. يواجه أردوغان وحزبه انتخابات بالغة الصعوبة، بلا شك، أصعب من أية جولة انتخابية سابقة، منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2002. كما أن التراجع في حظوظ العدالة والتنمية الانتخابية كان قد بدأ منذ سنوات، كما اتضح في الاستفتاء على النظام الرئاسي، وفي الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، وبالتأكيد في الانتخابات المحلية الماضية. والأرجح أن هذا التراجع يعود لجملة من الأسباب، وليس إلى الاقتصاد فقط، وليس أقلها أثرًا أن العدالة والتنمية يحكم البلاد منذ زمن طويل حقًّا، زمن غير سائد في الأنظمة الديمقراطية.
هذا لا يعني بالتأكيد أن هزيمة أردوغان وحزبه باتت أمرًا محسومًا. لم تجتمع المعارضة على طاولة واحدة من قبل كما هي في لقاء الستة، وتجد أحزاب المجموعة صعوبة فائقة في التوافق على برنامج واحد، وعلى مرشح رئاسي واحد، وعلى كيفية التعاون في الانتخابات البرلمانية. وليس ثمة شك في أن كل الاسماء التي يجري تداولها حتى الآن لخوض المنافسة الرئاسية في مواجهة أردوغان، تبدو أصغر قامة سياسية من الرئيس، وأقل خبرة منه بكثير، وأعجز عن إقناع أغلبية الناخبين بالتخلص ممن عرفوه والذهاب إلى المغامرة مع من لا يعرفونه.a
بكلمة أخرى، ينبغي الانتظار إلى زمن أقرب من موعد الانتخابات، وتوافر قراءة أوضح للمؤشرات السياسية والاقتصادية، قبل أن يصبح ممكنًا توقع النتائج بأي قدر من الثقة.
مركز الجزيرة للدراسات