مثَّلت آسيا الوسطى دائمًا مفترق الطرق الإستراتيجي والتجاري للحضارات بين أوروبا وآسيا وارتبطت شعوبها معًا بالجغرافيا والتاريخ، فمنذ منتصف القرن الخامس عشر، عاشت المجتمعات العرقية المستقرة نسبيًّا المقابِلة للقوميات الخمس الرئيسية (الكازاخ، الأوزبك، التركمان، الطاجيك، القرغيز) في الإقليم الذي يتوافق تقريبًا مع حدود ما بات يُعرف الآن باسم آسيا الوسطى.
وبحلول القرن التاسع عشر، أصبحت روسيا القيصرية القوة المهيمنة على الإقليم الذي ضُمَّ إلى الإمبراطورية الروسية بعد هزيمة الدولة القاجارية؛ الأمر الذي أقلق البريطانيين على حدود الهند الشمالية ما أدى إلى تحول الإقليم إلى محور تنافس دبلوماسي وجيوسياسي بين روسيا القيصرية والإمبراطورية البريطانية سُمِّي بـ”اللعبة الكبرى”(1)؛ المفهوم الذي أصبح يشير إلى الصراع بين القوى الكبرى على الهيمنة والقوة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نالت دول آسيا الوسطى الخمس استقلالها ضمن الحدود السوفيتية السابقة والتي تعتبر إرثًا صعبًا أسهمت في تشكيله سياسات ستالينية وتطلعات قومية محلية. هذه الحدود منحت شعوب آسيا الوسطى دولًا حديثة ونزاعات حدودية أسهمت في تعثر أي مسار تكاملي بين دول الإقليم بالإضافة إلى عدم جدية الأنظمة السلطوية والفاسدة لتلك البلدان في هذا الشأن؛ ما جعل المنطقة تبدو -كما وصفها بريجنسكي- فراغًا من القوة مغريًا للجيران الأقوياء للتدخل والهيمنة على الإقليم(2).
مع تغير المشهد الجيوسياسي العالمي المتأثر بصعود الصين ومحاولات روسيا لاستعادة مكانتها الدولية من جهة وسعي الولايات المتحدة للحفاظ على قيادتها للنظام الدولي من جهة ثانية، يصبح الكثير من الساحات الإقليمية ميدانًا للتنافس بين القوى الكبرى، وبالتالي فإن آسيا الوسطى مرشحة لأن تكون ميدانًا للتنافس بحكم موقعها الإستراتيجي ومواردها فضلًا عن أن هشاشة أنظمتها الوطنية وافتقارها لصيغ أو مؤسسات تعاون إقليمي مستقلة وفعالة جعلها أقل مناعة تجاه منافسة القوى الكبرى عليها.
تسعى هذه الورقة لتقديم تعريف بمنطقة آسيا الوسطى وللإضاءة على الرؤية الجيوستراتيجية المتصلة بهذه المنطقة لكل من روسيا والصين والولايات المتحدة. وأخيرًا، مناقشة سؤال: هل توجد اللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى؟
1. البلقان الأوراسي
مستلهمًا نظرية قلب العالم (Heartland Theory)، التي صاغها السير هالفورد جون ماكيندر مبتكر مصطلح “أوراسيا”، شبَّه بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” منطقة آسيا الوسطى -بالإضافة إلى القوقاز وأفغانستان- بالبلقان الأوراسي. فبحسب رؤيته، فإن التعددية القومية وضعف الكيانات السياسية في كل من البلقان الأوروبي وآسيا الوسطى هي نقاط تشابه تبرر تسمية آسيا الوسطى بالبلقان الأوراسي.
يشكِّل البلقان الأوراسي (انظر الخريطة 1) القلب الداخلي لأوراسيا، بريجنسكي وصفه بأنه فراغ خال من القوة مما يجعله مغريًا للتدخل فيه والهيمنة عليه من قبل جيرانه الأقوياء -روسيا والصين- فضلًا عن أن هذه المنطقة تنطوي على أهمية جيوسياسية بسبب موقعها الإستراتيجي الذي يضم شبكة المواصلات المتشكلة على نحو لا يمكن تجنبـه، والمعـدة للـربط المباشر بين الأطراف الغربية والشرقية الأكثر غنى والأكثر نشاطًا في أوراسيا، إضافة لكونها أيضـًا ذات أهمية اقتصادية بسبب الموارد الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها تلك المنطقة التي تملك احتياطيات نفط وغاز إضافة لليورانيوم والذهب ومعادن أخرى.
الخريطة رقم (1) البلقان الأوراسي
في هذه الورقة، سوف نركز على دول آسيا الوسطى التي تعرف بدول “ستان- STANS”، وهي خمس جمهوريات سوفيتية سابقة (أوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان) وهي التي تشكِّل الجزء الأعظم من مساحة البلقان الأوراسي.
ظهرت دول “ستان” على المسرح الدولي دولًا حديثة مستقلة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي ضمن حدود الجمهوريات السوفيتية السابقة، وهي تمتد على رقعة جغرافية (399.400) كم2 (انظر الخريطة 2) وتضم كثافة سكانية متواضعة. أكبرها مساحة هي كازاخستان وأصغرها طاجيكستان (انظر الجدول 1). وتمتلك تلك الدول حدودًا مع كل من روسيا، والصين، وأفغانستان، وإيران، كما تعتبر دولًا حبيسة حيث ليس لها منافذ بحرية مطلة على بحار مفتوحة، فقط كازاخستان وتركمانستان لهما شواطئ تطل على بحر قزوين وهو بحر مغلق تتشاركه تلك الدولتان مع روسيا وإيران وأذربيجان.
الخريطة رقم (2)، المصدر: Encyclopedia Britannica.
الجدول 1: المساحة حسب البلد، مليون كم2
البلد |
كازاخستان |
أوزبكستان |
طاجيكستان |
تركمانستان |
قرغيزستان |
المساحة |
2.725 |
0.448 |
0.143 |
0.491 |
0.199 |
يبلغ عدد سكان دول ستان (76.729.350) نسمة (انظر الجدول 2) يعيش نصفهم تقريبًا في المدن. تتكون هذه الشعوب من قوميات رئيسية (أوزبك، كازاخ، قيرغيز، تركمان، طاجيك) وهي متمايزة بوضوح على الرغم من الثقافة المتقاربة التي صنعتها الروابط التاريخية من حيث اشتراكها في الإسلام والأصول العرقية التركية. إلى جانب تلك القوميات توجد جاليات روسية وتترية وأوكرانية يتركز معظمها في شمال كازاخستان. تعتبر شعوب المنطقة ذات فئة عمرية شابة حيث إن متوسط الأعمار فيها يبلغ (27.6 سنة).
الجدول 2: عدد السكان حسب البلد
Urban |
Median age (years) |
Population |
Country |
# |
%51 |
27.8 |
34.503.773 |
Uzbekistan |
1 |
%57.7 |
30.7 |
19.255.723 |
Kazakhstan |
2 |
%27.3 |
22.4 |
9.994.579 |
Tajikistan |
3 |
%35.6 |
26.0 |
6.753.780 |
Kyrgyzstan |
4 |
%52.5 |
26.9 |
6.220.286 |
Turkmenistan |
5 |
%48 |
26.9 |
76.729.350 |
Central Asia |
Total |
المرجع: WORLDOMETERS |
في عام 2021، وصل الناتج القومي الإجمالي للمنطقة إلى 322 مليار دولار أميركي (انظر الجدول 3)، قرابة 60% منه كان من نصيب كازاخستان الغنية بالنفط. أما أصغر جمهوريتين جبليتين فهما قرغيزستان وطاجيكستان وهما أيضًا أكثر بلدان “ستان” تخلفًا وفقرًا بالموارد.
الجدول 3: الناتج القومي GDP حسب البلد (2021)
GDP growth (annual %) |
GDP per capita (US$) |
GDP (billion، US$) | Country |
# |
|
4.0 |
10,041 |
190.81 | Kazakhstan |
1 |
|
7.4 |
1,983 |
69.24 | Uzbekistan |
2 |
|
6.3 |
7,612 |
45.23 | Turkmenistan |
3 |
|
9.2 |
897 |
8.75 | Tajikistan |
4 |
|
3.6 |
1,276 |
8.54 | Kyrgyzstan |
5 |
|
322.57 | Central Asia |
Total |
|||
المرجع: WORLD BANK DATA |
كما تتمتع المنطقة بموارد تجعلها ذات أهمية لأمن الطاقة العالمي بما تنتجه من نفط وغاز طبيعي وما لديها من احتياطيات نفطية (انظر: الجدول 4)، إضافة إلى ذلك فالمنطقة تنتج أكثر من نصف إمدادات اليورانيوم في العالم (كازاخستان 45%، أوزبكستان 7.2%). (انظر: الجدولين 4، 5).
الجدول 4: احتياطيات الغاز الطبيعي حسب البلد
World Ranking |
World Share |
(MMcf)Gas Reserves |
Country | # |
6 |
%3.8 |
265.000.000 |
Turkmenistan | 1 |
15 |
%1.2 |
85.000.000 |
Kazakhstan | 2 |
19 |
%0.9 |
65.000.000 |
Uzbekistan | 3 |
المرجع: WORLDOMETERS |
الجدول 5: إنتاج اليورانيوم حسب البلد (2021) من مجموع الإنتاج العالمي
World Shar |
Production from mines (tonnes U) |
Country |
# |
%45.14 |
21.819 |
Kazakhstan |
1 |
%7.2 |
3500 |
Uzbekistan |
2 |
المرجع: World Nuclear Association |
وبسبب طبيعة أنظمتها السلطوية لم تنجح دول “ستان” منذ استقلالها في تحقيق تنمية سياسية أو معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المزمنة مثل البطالة والفساد وضعف الأجور؛ ما جعلها تحتل مراتب متدنية في مؤشرات الحريات والشفافية (انظر: الجدول 6).
الجدول 6: مؤشرات الحريات والشفافية حسب البلد
Transparency world ranking |
CPI* /100 |
Global freedom score |
Country |
# |
144 |
27 ↓ |
27 |
Kyrgyzstan |
1 |
102 |
37 ↓ |
23 |
Kazakhstan |
2 |
140 |
28 ↑ |
11 |
Uzbekistan |
3 |
150 |
25 – |
8 |
Tajikistan |
4 |
169 |
19 – |
2 |
Turkmenistan |
5 |
المرجع: FREEDOMHOUSE CORRUPTION PERCEPTIONS INDEX – *CPI: The Corruption Perceptions Index |
على الرغم من الانتقال غير السلس للسلطة المترافق مع اضطرابات شعبية كالذي حصل في كازاخستان(3) وأوزبكستان(4)، إلا أن الأنظمة السلطوية في المنطقة تمكنت من ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي نسبيًّا، ومع ذلك يبدو أن خطر الهشاشة لا يزال عرضة للتفاقم بفعل المخاطر الأمنية مثل الإرهاب الدولي والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية؛ ما يجعل تلك الدول على درجة عالية من الهشاشة (انظر: الجدول 7).
الجدول 7: مؤشر هشاشة الدول حسب البلد
FSI Ranking |
FSI Score |
Country | # |
118th |
59.5 |
Kazakhstan | 1 |
102nd |
66.5 |
Turkmenistan | 2 |
88th |
63.9 |
Uzbekistan | 3 |
70th |
75.0 |
Tajikistan | 4 |
66th |
77.1 |
Kyrgyzstan | 5 |
المرجع: Fragile States Index |
على الصعيد الإقليمي لم تنجح تلك الدول حتى الآن في تكوين هياكل ومنصات إقليمية مستقلة للتعاون الفعال والنشط فيما بينها من جهة فضلًا عن آلية للتعامل مع النزاعات الحدودية(5) التي تتسبب بإشعال مناوشات عسكرية مزمنة من جهة أخرى(6). ولا يبدو أن محاولات كازاخستان التي بدأتها منذ دعوتها إلى أول اجتماع تشاوري بين قادة دول “ستان”، عام 2018، نجحت في تذليل العقبات أمام تشكيل منصة إقليمية خاصة بدول المنطقة، فالاجتماع التشاوري الأخير لقادة هذه الدول، الذي عُقد في يوليو/تموز 2022، لم يستطع التوصل إلى آلية جماعية لمناقشة القضايا الإقليمية المشتركة بعد رفض كل من تركمنستان وطاجيكستان التوقيع على “معاهدة التعاون وحسن الجوار”(7) مما يعيق حدوث تنمية محلية وإقليمية بسبب عدم حل كثير من القضايا المعلقة مثل اقتسام موارد المياه وطرق النقل والأمن في المنطقة؛ ما يجعل المنطقة تستمر في حالة فراغ القوة التي تعاني منها.
2. روسيا الاتحادية: الجوار القريب
العلاقة بين الاتحاد الروسي وبلدان آسيا الوسطى هي علاقة نَحَتَها التاريخ إلى حدٍّ بعيد، فقد حافظت روسيا على روابط وثيقة بمنطقة آسيا الوسطى لا تقتصر على القضايا الاقتصادية والأمنية، بل تتعداها إلى الروابط الثقافية بالإضافة لوجود عمالة مهاجرة ومجتمع جاليات مقيمة في روسيا، لذلك تحرص روسيا على أن تكون صاحبة النفوذ الأكبر في هذه المنطقة التي لا يمكن لها أن تتصورها خارج محيطها الجيوسياسي الحيوي(8)؛ وبالتالي، لن تقبل أن يُنازعها أحد النفوذ هناك. إن رؤية روسيا لمنطقة آسيا الوسطى لها ثلاثة أبعاد رئيسية:
- البعد الأول يتصل بالتعاون الأمني والوجود العسكري
ورثت روسيا عن الاتحاد السوفيتي مزايا خاصة على صعيد العلاقات العسكرية والأمنية مع دول آسيا الوسطى من ناحية التسليح والتدريب العسكري الروسي المشترك لجيوش تلك الدول مما منحها نفوذًا عسكريًّا كبيرًا سواء على الأطر الثنائية أو الإطار الجماعي الذي مثَّلته معاهدة الأمن الجماعي التي تأسست عام 1992 وسعت روسيا مدفوعة بقلقها من الانتشار الأميركي في المنطقة بعد حرب الأخيرة على أفغانستان، إلى تحويلها، عام 2003، إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي(9) التي تمتلك قوات مشتركة للرد السريع، وقد ضمت في عضويتها إلى جانب روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا ثلاث دول من آسيا الوسطى، هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان. وهاتان الأخيرتان يمكن اعتبارهما ركيزتين أساسيتين في الإستراتيجية العسكرية والأمنية الروسية المتصلة بآسيا الوسطى بحكم موقعهما الإستراتيجي المهم؛ حيث تستضيف قرغيزستان وطاجيكستان على أراضيهما قواعد عسكرية روسية ثابتة قادرة على تنفيذ عمليات برية محدودة؛ ما يجعل تلكما الدولتين تعتمدان بشكل كبير على روسيا في حماية أمنهما.
لم تتوقف روسيا عن تطوير نفوذها العسكري(10) في آسيا الوسطى تحت عنوانين معلنين، هما: حفظ الاستقرار، مثل ما حصل عند إرسال قوات روسية إلى كازاخستان والأمن الحدودي ومكافحة الإرهاب الذي يمكن أن يتسلل عبر الحدود من أفغانستان إلى المنطقة، وراء هذا الهدف المعلن الذي فيه كثير من المبالغة يمكن ملاحظة هدفين آخرين: الأول يتعلق برغبة روسيا بالتوازن مع الصين ذات النفوذ المتصاعد في المنطقة وأيضًا تعظيم دورها الأمني و العسكري ضمن إطار منظمة شنغهاي للتعاون، والعنوان الثاني يتعلق بمقاومة أية محاولة للولايات المتحدة لإيجاد موطئ قدم في منطقة آسيا الوسطى وخصوصًا بعد خروجها من قواعدها في قرغيزستان وأوزبكستان.
- البعد الثاني يرتبط بالطاقة في قطاع النفط والغاز
تتشابك القضايا المتعلقة بالطاقة مع الاهتمامات الجيوسياسية لروسيا من جهة أن روسيا تنظر إلى الطاقة على أنها رأسمال توظفه في صنع صورتها كقوة لا يمكن الاستغناء عنها(11). في ضوء ذلك يمكن فهم وتحليل المبادرات الروسية المتصلة بالطاقة التي تضعها في سلة مكونات الأمن القومي وعناصر القوة لدى روسيا. كازاخستان وتركمانستان بما تمتلكان من قدرات إنتاجية واحتياطيات نفط وغاز طبيعي بالإضافة إلى سواحلهما على بحر قزوين يشكلان معًا مركز الثقل في اهتمامات روسيا المتصلة بالحفاظ على موقع مؤثر في مجال الطاقة في آسيا الوسطى.
- البعد الثالث يتعلق بالمصالح الاقتصادية لروسيا
خلال السنوات الأخيرة، تراجع دور روسيا الاقتصادي في منطقة آسيا الوسطى لصالح الصين التي حلَّت محلها في صدارة الشركاء الاقتصاديين لدول آسيا الوسطى لكنها ظلت تحتفظ بوجود مهم في اقتصاديات المنطقة. حاولت روسيا عبر تأسيسها الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) ، الذي يضم إلى جانب روسيا وبيلاروسيا كلًّا من كازاخستان وقرغيزستان، التقليل من تراجع دورها الاقتصادي من خلال تكامل اقتصاديات دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع اقتصادها وانفتاح أسواق تلك الدول الكامل أمام شركاتها. من جهة أخرى، فإن روسيا تستقبل عمالة مهاجرة من أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، وفقًا لأرقام الحكومة الروسية(12)، ويعمل في روسيا أكثر من 7.8 ملايين عامل مسجل من أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، في عام 2021، شكَّلت تحويلاتهم 30% من الناتج المحلي الإجمالي في طاجيكستان وحوالي 28% في قرغيزستان، عام 2020، وفقًا للبنك الدولي. في حين تلقت أوزبكستان، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في آسيا الوسطى، حوالي 7.6 مليارات دولار (11.6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد)، بواسطة تحويلات بين يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني 2021، كانت روسيا هي مصدر معظمها.
3. الصين: ظل التنين
خلال العقود الثلاثة الماضية، أصبحت الصين شريكًا رئيسيًّا لدول “ستان” لدرجة بدا معها من المستحيل تخيل التنمية المستقبلية للمنطقة دون التعاون مع بكين التي بدورها تنظر إلى المنطقة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من أمن واستقرار المناطق الغربية للصين بسبب القرب الجغرافي. علاوة على ذلك، فإن موقع آسيا الوسطى يجعلها جزءًا من مشاريع العبور البري لمبادرة الحزام والطريق التي تربط الصين بأوروبا والشرق الأوسط، كما تدرك الصين مدى غنى تلك الأراضي بالموارد الطبيعية وخاصة في مجال الطاقة.
الجدول رقم (8) يبين التبادل التجاري بين الصين ودول آسيا الوسطى
Import from China |
Export to China |
Country |
$10.3B |
$9.42B |
Kazakhstan |
$445M |
$5.32B |
Turkmenistan |
$4.88B |
$1.29B |
Uzbekistan |
$998M |
$37.4M |
Tajikistan |
$2.6B |
$47M |
Kyrgyzstan |
$19.233B |
$16.114B |
Total |
المصدر: OEC.World |
إلى جانب إطار منظمة شنغهاي للتعاون التي تجمع الصين ودول آسيا الوسطى إلى جانب روسيا والهند وباكستان وإيران، فإن الصين سعت لإيجاد سبل إضافية للحوار رفيع المستوى والتواصل الإستراتيجي مع هذه الدول عبر إطلاقها، عام 2020، آلية اجتماع دورية لوزراء الخارجية في الصين ودول “ستان” تحت اسم مجموعة الصين زائد دول الدول الخمس (C + C5)(13). في ثاني اجتماعات المجموعة الذي عُقد في شيان، في 12 مايو/أيار 2021، تحت عنوان “الانضمام إلى مصير مشترك في المستقبل”(14)، قدم الرئيس الصيني مقترحات لزيادة التعاون الإقليمي في المجال التنموي والتبادل التجاري والتوسع في الاستثمار في صناعة ونقل الطاقة ومجالات التكنولوجيا الفائقة مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية، كما أعلن أن الصين ستقدم في السنوات الثلاث المقبلة 500 مليون دولار أميركي مساعدة لهذه الدول لدعم مشاريع تنموية وطنية؛ كما ستقيم 5000 دورة تدريبية لمساعدة البلدان على تنمية الصحة وتخفيف حدة الفقر وتحسين الزراعة والتواصل، وتطوير المواهب المهنية في مجال تكنولوجيا المعلومات في مختلف المجالات وكذلك في السنوات الخمس المقبلة، تخطط الصين لتقديم 1200 منحة حكومية صينية إلى دول آسيا الوسطى الخمس، وتنظيم أنشطة مثل مهرجانات سياحية وفنية وورشات تدريب للقادة الشباب هناك.
مبادرة الحزام والطريق ومشاريع الربط الإقليمي
بحكم موقعها، تشكِّل المنطقة جزءًا رئيسيًّا من مشاريع العبور البري الستة لمبادرة الحزام والطريق حيث يمر خلال المنطقة ممران مهمان، وهما: جسر أوراسيا البري الجديد والممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا(15).
الممر الاقتصادي الجديد لجسر أوراسيا الأرضي
يعد جسر أوراسيا البري الجديد أحد أكثر مشاريع الحزام والطريق طموحًا لربط النقل بين الصين وأوروبا عبر كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا بهدف تقليص زمن النقل وزيادة التنافسية وتبسيط الإجراءات الجمركية.
الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا
في حين أن الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا سيربط غرب الصين بالبحر الأبيض المتوسط، عن طريق كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وإيران وتركيا.
إلى جانب مشاريع العبور البري لمبادرة الحزام والطريق قامت الصين بالتعاون مع دول المنطقة في مشاريع البنية التحتية تشمل بناء العديد من الهياكل الأساسية للنقل والطاقة مثل بوابة خورجوس في كازاخستان(16) الذي هو أكبر ميناء بري في العالم وكذلك خط سكك الحديد الصين وقرغيزستان وأوزبكستان (CKU)(17)، كل هذه المشاريع من شأنها وضع الصين(18) في موقع مهيمن في منطقة آسيا الوسطى وربط دول المنطقة بها عبر اتفاقيات اقتصادية ومشاريع مشتركة تسهم في تطور التجارة ونمو عائداتها على تلك الدول.
مواجهة الشرور الثلاثة في آسيا الوسطى
تنطلق الصين في دورها الأمني والعسكري في آسيا الوسطى من مبدئها المسمى بالشرور الثلاثة، وهي بالنسبة لها: الإرهاب الدولي والتطرف الديني والنزعة الانفصالية، وفي ذات الوقت قلقها المرتبط بأمن واستقرار المناطق الشمالية الغربية من الصين التي تسكنها قومية الإيغور في مقاطعة شينجيانغ ذات الحكم الذاتي داخل الصين وتأمين ممر واخان، وهي منطقة جبلية ضيقة وصعبة المراقبة في أفغانستان تفصل بين طاجيكستان وباكستان وتمتد إلى الصين. لزمن طويل ظلت إستراتيجية الصين في ضمان مصالحها الأمنية معتمدة على دورها في منظمة شنغهاي للتعاون والوجود العسكري الروسي في المنطقة بالإضافة إلى الحفاظ على علاقات جيدة وتواصل مستمر وتبادل الخبرات مع كبار مسؤولي الدفاع في دول المنطقة.
مع حلول عام 2016، بدأ تغير يطرأ على الإستراتيجية السابقة للصين باتجاه السعي لوجود عسكري وأمني صيني مباشر في المنطقة. وفي هذا الإطار، اكتسبت كل من طاجيكستان وقرغيزستان أهمية خاصة في المصالح الصينية الأمنية بسبب قربهما من منطقة شينجيانغ وأهميتهما لمشاريع البنية التحتية للنقل المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق. أصبح واضحًا بالنسبة لبكين أن وجود نفوذ لها في هذين البلدين وضمان استقرارهما الداخلي، هما شرطان رئيسيان لإنجاز مشاريع مبادرة الحزام والطريق بنجاح في مناطق أبعد في آسيا الوسطى.
اتخذت الصين أول خطوة جدية في هذه الاتجاه من بوابة طاجيكستان تحت ستار اتفاقية تمويل لبناء مراكز لحرس الحدود الطاجيكي في منطقة غورنو باداخشان ذات الحكم الذاتي في طاجيكستان، على مقربة من الحدود الأفغانية والصينية(19)؛ حيث خصص الصينيون 19 مليون دولار لبناء مجمع لحرس الحدود الطاجيكي يشرف على عدد من المراكز الحدودية ومراكز التدريب على طول الحدود الطاجيكية الأفغانية وتم وضع هذه المراكز تحت إشراف غير معلن مع الشرطة المسلحة الشعبية الصينية (PAP) التابعة لوزارة الأمن العام الصينية، كذلك شهد العام نفسه أول تدريبات مشتركة بين القوات الطاجيكية والصينية(20) خارج إطار منظمة شنغهاي للتعاون وتطوير آلية رباعية للتعاون والتنسيق لمكافحة الإرهاب تضم الصين مع طاجيكستان وباكستان وأفغانستان لتعزيز التعاون الأمني بين تلك البلدان(21). أدى الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى تسريع الخطوات الصينية في طاجيكستان ليتم الإعلان(22) عن موافقة طاجيكستان على بناء قاعدة عسكرية صينية على حدودها مع أفغانستان في موقع مطل على ممر واخان، بالإضافة إلى القاعدة الجديدة، تضمنت الاتفاقية تحويل القاعدة الصينية السرية(23) الموجودة في جبل بامير في منطقة غورنو باداخشان إلى قاعدة دائمة، رغم الإصرار في السابق على إنكار وجودها، ومن المقرر أن تكون القاعدة الجديدة تابعة لمجموعة الرد السريع (القوات الخاصة) في طاجيكستان التي تمولها الصين. تم التوقيع على الاتفاقية بين وزارة الداخلية الطاجيكية ووزارة الأمن العام الصينية، وليس الجيش الصيني، مما يشير إلى الدور الذي تلعبه الشرطة المسلحة الشعبية الصينية (PAP) في الدبلوماسية العسكرية الصينية في منطقة آسيا الوسطى الذي بدأت تتضح معالمه من خلال التدريبات المشتركة التي أطلقت عليها الصين اسم “التعاون 2019” واشتركت فيها الشرطة المسلحة الشعبية الصينية (PAP) مع الحرس الوطني الأوزبكي(24) والحرس الوطني القرغيزي(25).
اتخذت إستراتيجية الصين في التعامل مع الجانب القرغيزي شكلًا مختلفًا لاعتبارات مختلفة أهمها انخفاض مستوى المخاطر في قرغيزستان مقارنة بطاجيكستان المجاورة، وبدلًا من الوجود العسكري المباشر سعت لإيجاد موطئ قدم عبر الترخيص لشركات أمنية خاصة تحت حجة حماية الموظفين والعمال والممتلكات في المشاريع الصينية في قرغيزستان(26)، خاصة مع تصاعد المشاعر المعادية للصين واندلاع مظاهرات وأعمال عنف طالت الصينين وممتلكاتهم هناك.
منذ عام 2016، ازداد عدد المناورات العسكرية التي يجريها جيش التحرير الشعبي الصيني مع الجيوش الوطنية في آسيا الوسطى لتتخذ طابعًا شبه دوري ومنتظمًا، اثنتان منها فقط تمت بمشاركة منظمة شنغهاي للتعاون، كما فعَّلت برامج التبادل التعليمي العسكري وزيادة عدد الضباط من جيوش آسيا الوسطى المقبولين في الأكاديميات العسكرية الصينية بالإضافة إلى تطوير مناهج التدريب والتعليم العسكري في الأكاديميات العسكرية المحلية(27). بالإضافة إلى هذا، زادت الصين من مساعداتها في مجال التكنولوجيا العسكرية لجيوش بلدان آسيا الوسطى.
4. الولايات المتحدة: إعادة اكتشاف آسيا الوسطى
كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال دول “ستان” الخمس وأقامت علاقات دبلوماسية معها، غير أن اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بهذه المنطقة كان متفاوتًا؛ حيث حظيت كازاخستان بحصة الأسد من اهتمام الولايات المتحدة فكانت أول دولة اعترفت باستقلال كازاخستان، وقد اهتمت الولايات المتحدة بقرار كازاخستان بالتخلي عن التركة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي لذا سعت لتطوير تعاون ثنائي وثيق مع كازاخستان بعد انضمامها، عام 1993، إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية كدولة غير حائزة للأسلحة النووية وقامت الولايات المتحدة بمساعدة الكازاخيين في إزالة الرؤوس الحربية النووية والمواد المستخدمة في صنع الأسلحة والهياكل الأساسية الداعمة لها. في عام 1994، نقلت كازاخستان أكثر من نصف طن من اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة إلى الولايات المتحدة(28). استمر هذا التعاون حتى عام 2021؛ حيث أكمل الطرفان معًا برامج إغلاق أنفاق التجارب النووية وقاما معًا بتحويل اثنين من مفاعلات الأبحاث الثلاثة في كازاخستان لاستخدام وقود اليورانيوم منخفض التخصيب وأزالا جميع وقود اليورانيوم عالي التخصيب غير المشع من كازاخستان. ولا تزال الولايات المتحدة وكازاخستان يعملان معًا في مركز تدريب الأمن النووي بالقرب من ألما آتا الذي افتُتح، عام 2017، بتمويل من الولايات المتحدة(29)، ويقوم المركز بتدريب وتهيئة المتخصصين المحليين والإقليميين والدوليين في الأمن النووي.
كان للاتفاق الذي وقَّعته كازاخستان، عام 1992، مع شركة شيفرون بقيمة 20 مليار دولار(30) لتطوير حقل تينغيز Tengiz دور في تشجيع الشركات الأميركية، مثل إكسون موبيل وجنرال إلكتريك وهاليبرتون، على القدوم والاستثمار في كازاخستان لتطوير حقول النفط والغاز الكازاخية سواء تلك الواقعة في شمال البلاد أو الموجودة في منطقة بحر قزوين، والتي أصبحت تستحوذ على حصة كبيرة من الاستثمارات في مجال الطاقة الكازاخية. حاليًّا، تعمل أكثر من 700 شركة أميركية في كازاخستان(31)، كما بلغت استثمارات الشركات الأميركية 54 مليار دولار على مدى ثلاثة عقود(32). وبحسب تصريحات ميرزان يوسوبوف، رئيس هيئة الاستثمار الكازاخية، فإن هناك “في السنوات الأخيرة، زيادة تدريجية في اهتمام الشركات الأميركية بقطاعات التصنيع، بما في ذلك الأعمال التجارية الزراعية، وكذلك في الصناعات الهندسية والنقل والخدمات اللوجستية. في عام 2019، وصل حجم الاستثمار المباشر من الولايات المتحدة إلى مستوى قياسي بلغ 5.5 مليارات دولار، وهو ربع إجمالي تدفق الاستثمار إلى البلاد”(33).
أعادت حرب أفغانستان، 2001، المنطقة بقوة إلى دائرة الاهتمام الجيوسياسي الأميركي وسعت الولايات المتحدة الأميركية لتأسيس وجود عسكري لها في تلك المنطقة الذي لم تمانع به روسيا في البداية مما سهَّل على الولايات المتحدة إقناع قرغيزستان وأوزبكستان باستضافة الجنود الأميركيين في قواعد لها في بلادهم، وبالفعل سمحت أوزبكستان للقوات الأميركية بالتمركز في قاعدة كارشي-خان أباد الجوية(34) التي استخدمها الأميركيون لتقديم الإسناد الجوي لعملياتهم في أفغانستان، وكذلك وقَّعت قرغيزستان على اتفاقية مدتها 22 سنة بموجبها تستخدم الولايات المتحدة قاعدة ماناس الجوية، لكن ما لبثت أوزبكستان أن أغلقت القاعدة الأميركية، عام 2005، بعد احتجاج الولايات المتحدة على انتهاكات حقوق الإنسان التي قام بها الرئيس السابق، إسلام كريموف، أثناء قمعه لاحتجاجات شعبية(35)، وفي عام 2012، قامت قرغيزستان بضغط من روسيا والصين بالطلب من الأميركيين تسليم القاعدة والخروج منها(36)، وبمجرد خروج الولايات المتحدة من قاعدة ماناس(37) لم يعد لها أي وجود عسكري في منطقة آسيا الوسطى.
منذ العام 2015، اتبعت الولايات المتحدة في تعاملها مع دول آسيا الوسطى إستراتيجية ذات طابع إقليمي، وأعادت التأكيد على هذا الطابع في إستراتيجيتها للمنطقة التي صدرت في ربيع 2020 وجاءت بعنوان “تعزيز السيادة والازدهار الاقتصادي”(38) تركز فيه على دعم التعاون والحوار الإقليمي عبر: أولًا: إنشائها لمنصة C5+1 التي تجمع الولايات المتحدة مع دول ستان الخمس بهدف زيادة إمكانيات الحوار السياسي والأمني حول القضايا المشتركة وجذب الاستثمار الأجنبي، ثانيًا: التنمية في المنطقة من خلال التعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تسهم بدعم برامج تنموية مختلفة مثل التبادل الدراسي الذي يتيح للطلاب من تلك المنطقة الدراسة في الجامعات الأميركية ودعم تكوين وتمويل لجان التنسيق الإقليمية للتعامل مع التلوث وإدارة الموارد المائية وتوحيد معايير وأنظمة التوثيق وجمع البيانات المستخدمة وفقًا لمعايير الامتثال الدولية. وتلعب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية دورًا مهمًّا في تقوية الروابط مع المجتمعات في تلك الدول وتعزيز قوة الولايات المتحدة الناعمة.
مؤخرًا، تحاول الولايات المتحدة العودة إلى المنطقة عبر رعاية القيادة المركزية الأميركية لتدريبات عسكرية سنوية كالتي استضافتها طاجيكستان، في أغسطس/آب 2022، وأعلنت الولايات المتحدة أن هذه التدريبات تركز على عمليات حفظ الاستقرار الدولي، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز التعاون والقدرات المشتركة بين الدول المشاركة(39). شارك في هذه التدريبات كل من طاجيكستان، وكازاخستان، وجمهورية قرغيزستان، ومنغوليا، وباكستان، وأوزبكستان، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، وأعقبها تدريب ثنائي بين طاجيكستان والولايات المتحدة لمدة خمسة أيام كانت كافية لإثارة الغضب الروسي من الحليف الطاجيكي(40). في الماضي، راهنت الولايات المتحدة على إمكانية تعزيز التعاون الإقليمي بين دول ستان بما يقوِّي سيادتها كي تكون أكثر مناعة تجاه التدخلات الروسية والصينية وبما يسمح أيضًا بالتنسيق معها في المجال الأمني وحفظ الاستقرار في المنطقة، لكن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان أدى إلى إضعاف تأثيرها بشكل كبير.
بعد احتلال أفغانستان، 2001، وجدت الولايات المتحدة نفسها منخرطة بدون نية مسبقة في المنطقة وكان عليها اكتشافها(41). واليوم، من الواضح أن واشنطن تحتاج لإعادة اكتشاف المنطقة مجددًا وتطوير إستراتيجيات جديدة للتعامل معها في إطار التنافس مع الصين وفي ظل التداعيات التي تسبَّب بها غزو روسيا لأوكرانيا والتي أهمها عودة الاهتمام بمصادر الطاقة وطرق نقلها.
5. التحريفية الجديدة
يسعى هذا الجزء من الورقة للإجابة على سؤال: ما النمط التحريفي لكل من روسيا والصين انطلاقًا من افتراض نظري هو أن كلًّا من الصين وروسيا هي دولة تحريفية/تعديليةجديدة (Neo-Revisionist State) (42).
يتم وصف الصين وروسيا بأنها دول تحريفية جديدة، وهما يختلفان عن الدول التحريفية التقليدية مثل ألمانيا النازية واليابان اللتين سعيتا إلى تغيير كلي للنظام الدولي القائم على الأساس الوستفالي في حين أن روسيا والصين تؤكدان باستمرار على التزامهما بالمبادئ الأساسية للنظام الدولي والتي تشمل أولوية سيادة الدولة وسلامة أراضيها، وأهمية القانون الدولي، ومركزية الأمم المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بالدور الرئيسي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما أنهما عضوان في العديد من الهياكل الدولية والإقليمية. بعبارة أخرى: كلتا الدولتين لا تمتلكان القدرة على الوصول إلى الموارد اللازمة لتحد راديكالي لقوة الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى كلتا الدولتين لم تقدِّما بديلًا عن النظام الدولي الحالي واقتصرت مطالباتهما على تعديل قواعد توزع القوة في النظام الدولي والاعتراف بمساحات النفوذ الجيوسياسي الخاصة بها.
هذا لا يعني أن الصين وروسيا لديهما رؤية وجدول أعمال متطابقان وبالتالي فنمط وأدوات وسلوك كل منهما كدولة تحريفية مختلف عن الآخر، يجادل البعض بأن روسيا “تحريفية” أكثر قوة من الصين في الوقت الحالي(43)؛ لأن روسيا تواجه مسارًا انحداريًّا، فيما يبدو أن مستقبل الصين أكثر إشراقًا. آخرون يشيرون إلى أن الصين ببساطة تعمل بشكل أكثر كفاءة في ظل النظام الدولي الحالي لذلك لديها نافذة مفتوحة من الفرص(44) في حين أن نافذة روسيا أُغلقت بمجرد قيامها بغزو أوكرانيا بداية العام الحالي ما وضعها في مواجهة شبه مباشرة مع الولايات المتحدة، القوة المهيمنة في النظام الدولي.
عند مقارنة سلوك روسيا التحريفي المستند إلى سياسة القوة بسلوك الصين نجد أن الأخيرة -بالرغم من التصعيد بشأن تايوان- حافظت على مستوى من التوازن الناعم مع الولايات المتحدة الذي ينطوي على تشكيل تحالفات أو تعاون دبلوماسي له سقف محدود، والحفاظ على هذا التوازن مرتبط بثلاثة شروط، هي: الأول: أن يكون سلوك الولايات المتحدة يشكِّل مصدر قلق متزايد دون أن يصل إلى مرحلة تهديد السيادة، الثاني: أن تكون الولايات المتحدة مصدرًا للمنفعة في المجال الاقتصادي والأمني على حدٍّ سواء والتي لا يمكن استبدال غيرها بها ببساطة. وأخيرًا، تستمر الصين في الحفاظ على التوازن الناعم لتجنب المواجهة المباشرة والمفتوحة(44).
في ضوء اختلاف النمط التحريفي لكلتا الدولتين يمكن أن نرى العلاقات بين الصين وروسيا على أنها شراكة حذرة برأسين ورؤيتين مختلفتين عن بعضهما وما يجمع الطرفين في هذه الشراكة هو الولايات المتحدة التي تتراوح بين مواجهة في الحالة الروسية وتوازن ناعم في الحالة الصينية.
6. هل توجد لعبة كبرى جديدة في آسيا الوسطى؟
تمثل آسيا الوسطى بالنسبة لروسيا الجوار القريب الذي تحرص أن تكون فيه صاحبة النفوذ الأكبر، لكن روسيا تدرك أن نفوذها الاقتصادي وقوتها الناعمة تتآكل تدريجيًّا؛ لذلك فضَّلت أن توجِد صيغة تعاون تكاملية مع الصين تتيح لها التوازن معها عبر توزيع الأدوار بين القوتين في منطقة آسيا الوسطى فيكون الدور العسكري والأمني منوطًا بروسيا والدور الاقتصادي والتنموي من حصة الصين. إلى جانب ذلك، تراجعت جاذبية الهجرة إلى روسيا للعمل تدريجيًّا منذ 2014 نتيجة للعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي وهذا الأمر تفاقم أكثر مع عودة عدد كبير من العمال المهاجرين إلى بلادهم مؤخرًا بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثر الاقتصاد الروسي بالعقوبات الهائلة التي فرضها الغرب على روسيا.
تركيز الصين في آسيا الوسطى منصب على التعامل مع ما تعتبره تحديًا أمنيًّا مرتبطًا باستقرار مقاطعة شينجيانغ وفضلت في هذا السياق اتباع خطوات تدريجية وهادئة في بناء وجودها الأمني في كل من قرغيزستان وطاجيكستان، وهي في ذات الوقت حريصة على تجنب إثارة الروس المتوجسين من تراجع مكانتهم في جوارهم القريب، بالإضافة إلى ذلك تعتبر الصين آسيا الوسطى، وتحديدًا كازاخستان، منطقة حيوية ومركزية لضمان نجاح مبادرة الحزام والطريق. وأخيرًا، فإن مصادر الطاقة التي تزخر بها المنطقة هي مصدر إغراء للصين.
ما يميز الصين عن روسيا في العلاقات مع دول آسيا الوسطى هو الوضوح والثبات في الرؤية والمشاريع المتصلة بها وخطوات تنفيذها والقدرة التمويلية للصين إضافة إلى إفساح الصين المجال لقادة تلك الدول للانخراط في تشكيل تلك المشاريع على الصعيد الوطني في حين أنه قلَّما تشاورت موسكو مع شركائها في آسيا الوسطى فيما يتعلق بالاندماج الأوراسي، مفضِّلة تقديم الروابط التقليدية والتاريخ المشترك بدلًا من الفوائد العملية ولذلك فإن الروس افتقدوا إلى وضوح وثبات مماثل لما يتمتع به الصينيون، كما أنه نتيجة تعزز الفساد وسوء الحكم المحلي فإن المنافع التي يتحصل عليها الرسميون في دول آسيا الوسطى من مشاريع الصين هي أكبر مما تقدمه الشركات الروسية.
علاوة على ذلك، فالنخب الرسمية في آسيا الوسطى خاصة في كازاخستان تتوجس من مبدأ العالم الروسي الذي ينادي به بوتين ومن مطامع روسيا في الحدود التي يعبِّر عنها المسؤولون الروس بين الوقت والآخر. ومن جهة أخرى، أصبح واضحًا لتلك النخب مدى محدودية القوة الروسية التي ظهرت بشكل متواضع في الحرب على أوكرانيا.
دعم سيادة دول آسيا الوسطى والتشجيع على التعاون الإقليمي فيما بينها وحماية الاستثمارات الأميركية كانت هي أولويات الولايات المتحدة وغالبًا لن تتغير هذه الأولويات خاصة أن الولايات المتحدة لا تملك فرصة حقيقية لإيجاد موطئ قدم عسكرية لها أو لحلف شمال الأطلسي في المنطقة لمراقبة نشاطات المجموعات الإرهابية التي قد تعود إلى أفغانستان. لذلك، من المرجح أنها سوف تستمر في التواصل عبر منصة C5 + 1 وعلى مستوى ثنائي ودعم دول آسيا الوسطى عبر المساعدات وتشجيع حلفائها مثل الاتحاد الأوروبي واليابان على زيادة استثماراتهم في آسيا الوسطى مما يسمح للنخب السياسية الحاكمة في دول آسيا الوسطى بأن تكون أكثر قدرة على المساومة مع الصين وروسيا. على الجانب العسكري، فإن الهند تبدو طرفا مناسبا للتنسيق معها بالنسبة لمراقبة الإرهاب خاصة وأن للهند قاعدة جوية في ايني – طاجيكستان.
تمتلك الولايات المتحدة إمكانيات لتعزيز قوتها الناعمة بشكل يتفوق على الصين التي يتزايد الشعور السلبي وعدم الثقة تجاهها لدى شعوب دول آسيا خاصة في كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان بسبب الاضطهاد الذي تمارسه الصين تجاه الإيغور والأقلية الكازاخية والقرغيزية في الصين، كما تستضيف العديد من دول آسيا الوسطى أقليات كبيرة من الإيغور. هذا إضافة إلى سياسة الإقراض والاستثمار في البنية التحتية التي تتبعها الصين مع دول آسيا الوسطى، والمرجح أن تعمل الولايات المتحدة على تعزيز الشعور الوطني لدى شعوب هذه المنطقة ودعم القضية الإيغورية؛ الأمر الذي من شأنه أن يزيد مصاعب الصين في المنطقة.
كازاخستان وأوزبكستان هما الدولتان اللتان تمتلكان الفرص الأكبر لتحقيق نمو اقتصادي واستقرار سياسي أكثر من بقية الدول في المنطقة، لذلك من المرجح أن تواصل كازاخستان وأوزبكستان السعي إلى تنويع روابطهما التجارية والاستثمارية وموازنة علاقاتهما مع كل من روسيا والصين من خلال توثيق العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة والحفاظ عليها وهذا سيمنح الأخيرة فرصة لإعادة تموضعها في المنطقة من جديد وتطوير علاقات أمنية وعسكرية قائمة على تبادل المنافع مع تلك الدول التي تحتاج لهذا التوازن، وهذا بدوره سيطلق لعبة كبرى جديدة، لأنه من الصعب القول الآن بوجود لعبة كبرى جديدة في آسيا الوسطى؛ حيث إن الولايات المتحدة لا تستطيع الآن أن تهدد هيمنة روسيا والصين في المنطقة بشكل جدي وحاسم، ولكنها مع ذلك ستكون مهتمة في الوقت الحالي بإضعاف روسيا في آسيا الوسطى بشكل عام، ومن جهة أخرى، مراقبة النشاط الصيني في المنطقة.