انقسم المجتمع السياسي الشيعي بعد فوزه في انتخابات الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني) وبات الائتلاف الشيعي الموحد إرثاً من تاريخ الدولة العراقية التي تأسست بعد حقبة الاحتلال (2003-2011)، بعد بروز التيار الصدري وتقدمه في المشهد السياسي بعد انتخابات 30 نوفمبر 2021 التي فاز فيها بالأغلبية البرلمانية بـ73 مقعداً نيابياً لتكون له أغلبية مرجحة لتشكيل الحكومة التي هي من حصة المكون الشيعي، في نظام المحاصصة السياسية السائدة كعرف، يحذو حذو الصيغة الطائفية اللبنانية ولنظام إدارة الدولة الذي وجد بعد 2003 واستمر كتقليد وسياق.
الخروج من التوافقية للأغلبية
لكن الصدريين قرروا الخروج من صيغة التوافقية السياسية إلى نظام الأغلبية والانشطار الطولي للدولة التي رفضها “الإطار التنسيقي“، المؤلفة من خمس قوى شيعية أصرت على صيغة التوافق وتوزيع المقاعد الحكومية على النسب الخاصة بالفوز في البرلمان، لكن التيار الصدري الذي يترأسه مقتدى الصدر وجد في تعطيل مهمة تشكيل الحكومة بعدم حصوله وحلفائه على ثلثي الأصوات لترشيح رئيس الجمهورية من المكون الكردي الذي يفضي إلى الدعوة للكتلة الأكبر المؤلفة من التيار الصدري والأكراد في الديمقراطي الكردستاني والسيادة السنية، البالغ 165 من دون الثلثين، ما جعل العملية السياسية مشلولة لما يقرب من عام، الأمر الذي تسبب في انسحاب الصدر وتعويص مقاعدهم الـ73 بآخرين من “الإطار”، الذي أصبح هو الأغلبية 129 نائباً.
جعل الجمهور الشيعي الذي فاز بـ73 مقعداً منحت بيسر إلى المنافس الشرس، من أغرب القرارات في تاريخ العمل البرلماني في تاريخ العراق، من دون مسوغ مقنع حتى الآن، لكن ذلك يجعلنا نتساءل عن ماهية التيار الصدري وتاريخه الذي يجعل منه فريقاً معارضاً لـ”الإطار” بزعامة نوري المالكي، الخصم العنيد للصدر والخصم اللدود لمسيرة ومسار الصدريين منذ انطلاقة التيار الصدري كفاعل رئيس في العملية السياسية في العراق. يأخذنا ذلك إلى خلفيات الفكرة الصدرية وتبلور كيانها وكيف تأسست سياسياً، وهل هي حركة دينية بكيان سياسي شيعي، وما القوة التي تقف عليها في مجابهة خصومها الألداء؟
النشوء والارتقاء
في البدء، لا بد من عودة لتاريخ التيار الصدري ونشوء قوته وتبلورها والبيئة التي خرج من رحمها، لا بد من الرجوع 60 عاماً لبداية تولي العهد الجمهوري مقاليد البلاد، فمنذ الشروع ببناء مدينة الثورة عام 1959 في العاصمة بغداد حتى تكرار سلسلة الانقلابات وسماع البيان رقم واحد تغير اسم المدينة مرات حتى انتهت إلى ثالث عائدية لها بأنها مدينة “الصدر” تيمناً بالمرجع العربي محمد محمد الصدر والد السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري وآخر أولاده المتبقين من حادثة اغتياله وبنيه ظلت هذه المدينة العمالية معيناً لا ينضب للمشتغلين بالسياسة في العراق وتوظيفهم فيها خلال تأسيس العهد الجمهوري على يد “حركة الضباط الأحرار” الذين نصبوا أقوى ضباطهم وهو العميد عبدالكريم قاسم زعيماً للثورة.
وحكاية الزعيم، وهكذا يحلو للشعب وصفه في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات حكاية دراماتيكية في العلاقة بين الزعيم وجمهور الفقراء، فهو الأول الذي اتخذ قرار بناء مدن عمالية شرق العاصمة وحولها وكانت مدينة الثورة أولها، بناها خلف السدة الترابية التي اختطها الجيش درءاً للفيضان فكانت عالماً تناسل من الفقراء والمعدمين ممن هربوا من الإقطاع الذي انهار جراء تحول المجتمع الحتمي من الزراعة إلى الصناعة، من دون تخطيط مسبق فبرزت ظاهرة العشوائيات التي أرقت المجتمع البغدادي الأرستقراطي من خلفيات تركية، وأنحوا بالملامة حتى يومنا هذا يدينون رغبة الزعيم بوضع سقوف فوق رؤوس العراقيين الفقراء.
الصدمة الأولى
ظل الجمهور يوالي الزعيم حتى لحظة الانقلاب عليه في الثامن من فبراير (شباط) عام 1963 على يد البعثيين الموالين للرئيس جمال عبدالناصر، الذين نصبوا نائب الزعيم قاسم العقيد عبدالسلام عارف خلفاً له بعد قتله في مبنى التلفزيون ببغداد في لحظة تاريخية فارقة وتعمد إهانة الزعيم أثناء إعدامه ليوصلوا لمخططي الانقلاب صور زعيم عراقي قاد الانقلاب على الملكية بأنهم ظنوا أنهم قد تمكنوا منه ومن رمزيته، وحفروا بتلك اللحظة الفارقة خندق العداوة والبغضاء بين أنصار الزعيم من الفقراء الذين وجدوا فيه أملاً لهم في حياة ببيوت بسقوف بعد أن هدمت الأكواخ التي سكنوها عقوداً منذ انهيار الإقطاع وهربهم للعاصمة بمئات الآلاف من الفقراء المتطلعين لحياة كريمة حتى ولو في بيوت بسعة 100 متر مربع بناها الجيش بسقوف أسمنتية، ليخلص بغداد من ظاهرة العشوائيات المنتشرة في قلب العاصمة.
انهيار حلم القيادة
الجيل الذي رأى مقتل الزعيم، والذي طالبه قبلها بحمل السلاح للدفاع عنه بتوافده على وزارة الدفاع مقر الزعيم قاسم حيث يمكث هناك بلا بيت خاص أو قصر لحاكم، لكنه رفض تسليمه قطع السلاح خشية الاقتتال وظن أنه سيحظى بمحاكمة عادلة سيخرج منها منتصراً كونه نظيف اليد والثوب معاً كما يؤكد جيل من المواكبين له وخلوه من أي شبهة فساد تطاله، لكن صورة مقتله ببشاعة ظلت تحفر في أذهان أجيال توارثتها.
أنظمة عسكرية كثيرة تعاقبت على العراق بعد مقتل “أبو الفقراء” عبدالكريم قاسم، هكذا يحلو للعراقيين تسميته ووصفه، ومحاولات انقلابية قام بها المغامرون من العسكر الذين باتوا يظنون دوماً أن شرعية الحكم منتهكة حتى يومنا هذا.
جمهور الصدر
الجمهور الصدري الذي تأسس في هذه البيئة المعقدة والملتهبة منذ لحظة اغتيال رئيس الحكومة عبدالكريم قاسم لا سيما اليسار العراقي الذي وجد فيه أملاً لمنح الفقراء فرصة للحياة، ومنح الوعي الديني والفكري على يد المراجع سواء في السياسة والتدين، حتى عام 2003 الذي انقلبت فيه معادلة الحكم في العراق، وتحولت البلاد إلى ما يسمى نظر الفقه السياسي ظاهرة (سيطرة رجل الشارع على رجل السياسة).
الشعبوية السياسية
أو هي نوع من الشعبوية التي تتحكم في القرار السياسي وتشكل قناعات الحاكم الذي صار صدى لما تريده الجماهير حين تغضب أو تستقر أو “تتكوك” إن صح التعبير.
المعروف أن الجمهور العراقي شديد التعقيد في مرجعياته ومن الصعب ترويضه وهو بقناعتين معلنة وكامنة، ويستحضر كلتيهما عند الحاجة ويستفز في لحظات ضعف السلطة ويتمرد عند الإجهاز عليها.
المراجع الدينية للتيار
ظل الصدريون وهم أتباع فكر وعقيدة السيد محمد الصدر الذي يطلق عليه الشهيد الثاني بعد مقتله عام 1999، والذي تلا موته إعدام النظام السابق لابن عمه مؤسس حزب “الدعوة” السيد محمد باقر الصدر مفكر الإسلام السياسي الشيعي الأول والأخير على ما يبدو فلم تنجب قيادات “الدعوة” مفكراً مثله، وظلت كتبه تدرس في الحوزات الشيعية وأروقة الإسلام السياسي الشيعي حتى يومنا هذا، لكن الشهيد الأول كان على غير وفاق مع المرجعيات الشيعية غير العربية، لذلك حظي بسماح الدولة لأتباعه ببعض الحريات المحددة في النجف كونه مرجعاً عربياً، على الرغم من سطوة آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي وتمركزه على رأس المرجعية حينها، فانقسم جمهور المرجعية بوجود والد مقتدى السيد محمد الصدر الذي أوجد مرجعية ناطقة تحكي عن هموم الشعب وتطلعاته وآماله ومرجعية صامتة تتمسك بالبعد الفقهي والتفسيرات الشرعية، ظلت كامنة في المجتمع النجفي الذي يعطي الشرعية للمرجع وجمهور عريض آخر يقلد السيد الصدر الأب حتى مقتله، الذي رسم خط الطلاق مع السلطة في بغداد، وانقسم الجمهور الشيعي في السلطة نفسها بين مؤيد ومعارض وتمركز المعارضون في مدينة الثورة التي سماها الرئيس الراحل صدام حسين باسمه “مدينة صدام”، وأراد أن يكسب تأييده عبثاً من خلال الإصلاح والخدمات الاستثنائية لها وزج أفضل كوادر الحزب للعمل هناك، لكن الشرخ بدأ يكبر بين الدولة في بغداد والثورة التي كان يطلق عليه سكانها المليوني نسمة بـ”المدينة” تحاشياً لاسمها الجديد “مدينة صدام”.
اغتيال الصدر وانتقام العامة
التحولات التي جرت بعد مقتل الصدر الأب تسببت في بدء انتشار فكره وأدبياته بين مريديه وسرت مثل النار في الهشيم مع زيادة وتيرة العداء له من المشككين من أتباع إيران والبيوتات الشيعية والمراجع الأرستقراطية في الحوزات التي كانت تثقف باتجاه العداء للمرجع السيد محمد محمد الصدر واتهامه بهتاناً بأنه موال للنظام السياسي البعثي الذي تساهل في منحه قبول الطلبة في الحوزات من العرب التي كانت مقتصرة تقريباً على الدارسين الأعاجم حتى بلغت الأعداد تفوق أعداد الدارسين الأعاجم، وللمرة الأولى في التاريخ تم قبول آلاف الدارسين من العرب، من شتى المحافظات والبلدان العربية، وهذه عدت من المخاطر للحوزة التي ورثها السيد الخوئي التي يغلب عليها الأعاجم بحسب توصيف أحد المتخصصين النجفيين العرب من أبناء القبائل.
بروز التيار الصدري للواجهة
لكن الأمور تغيرت كلياً بعد عام ،2003 وبعد سقوط النظام السابق وحقبة الاحتلال (2003-2011) برز التيار الصدري كفصيل سياسي من داخل البنية العراقية بأعداد متزايدة عن سواه من الفصائل الشيعية وتمكن من التصدي للمشهد الجديد بتأسيس جيش جديد اسمه “جيش المهدي” الذي بدأ ينشط في المناطق الفقيرة في بغداد والمحافظات وخاض حروباً طائفية حيناً وحرباً معلنة ضد المحتل في مجابهات علنية أحياناً، وذلك كميليشيات مسلحة عقائدية بزعامة رجل الدين الشاب مقتدى الصدر آنذاك، وخاض صدامات عنيفة مع خصومه التقليدين في “فيلق بدر” و”الدعوة” وسواهما، لكنه القوة الثانية الكبرى التي تقاتل الوجود الغربي في العراق وترفض الحوار مع المحتل حتى أجهز عليها عام 2008 في ولاية نوري المالكي الأولى في ما يسمى “صولة الفرسان” في البصرة وعدها فصيلاً خارجاً عن القانون وتسببت العملية في قتل المئات من أتباعه وسجن الآلاف بتهم شتى وانتهاك القانون وجرت بمؤازرة القوات الأميركية والبريطانية واستخدام الطيران الحربي لكسر شوكة الصدريين الذين كادوا يسيطرون على منابع النفط في البصرة والحيلولة دون تصديره ما اضطره وكرئيس حكومة وقتها نوري كامل المالكي أن يجهز حملة كبيرة لمقاتلتهم في البصرة.
ومن هنا تشكلت بداية العداء بين المالكي ومقتدى الصدر على الرغم من التحالف السياسي في الائتلاف الشيعي الذي أنضجته إيران والمرجعية الشيعية في انتخابات عام 2010 في مواجهة القوى المدنية العلمانية، وكان ذلك الاتفاق يسير وفق فكرة “وجوه متآلفة وقلوب متخالفة” وفق المثل العراقي، لكن فكرة التوافق للنزول ككتلة ائتلافية، مكنت زعامة حزب “الدعوة” من أن تأخذ السلطة التنفيذية، وتقصي خصومها المدنيين، لكن الجمر بين المتوافقين ظل مستعراً على الرغم من براغماتية الأطراف الشيعية التي شكلت الحكومة.
عقيدة التيار الصدري
التيار الصدري يقوم على عقيدة مذهبية شيعية، لديه إدارة اقتصادية وعسكرية لها السبق في تأسيس أول ميليشيات قاتلت المحتل وخاضت حروباً عقائدية في ما يسمى “جيش الإمام المهدي”، الفصيل العسكري الأول الذي تفرعت منه كل الألوية والفصائل الميليشياوية الموجودة في العراق وكانت تدين بالولاء لآل الصدر، لكنها انشقت وزعيمها السيد مقتدى ولها اليوم فصيلان عسكريان هما “سرايا السلام”، و”لواء اليوم الموعود”، الذي لا يعرف عنه أحد شيئاً إضافة إلى “جيش المهدي” المجمد بقرار من مقتدى الصدر.
أزمة الصدريين حالياً في صعوبة العودة للبرلمان وخسارة موقع النائب الأول لرئاسة البرلمان، وكذلك عزوف محتجي “تشرين” عن التوافق معهم وتبني شعاراتهم جراء الخذلان الذي واجه “التشرينيين” خلال احتجاجات 2019 وما تلاها إضافة إلى احتكار القرار السياسي من قبل السيد مقتدى الصدر وغياب القرار السياسي الجماهيري.
اندبندت عربي