شاءت مصادفات التاريخ الشخصي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة تلك الجوانب التي تشدد على نزوعاته القيصرية إمبراطورية الطابع، أن تتزامن الذكرى السابعة للتدخل العسكري الروسي إلى جانب نظام بشار الأسد، أواسط أيلول (سبتمبر) 2015؛ مع المنحنيات الأكثر جدية، والأعلى دلالة، لانكسارات الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا، هنا وهناك في العمق الأوكراني، أو على جسر القرم الأيقوني الشهير الكبير.
وكي لا تخلو مصادفات التاريخ، العامّ الكوني هذه المرّة، من المفارقات الأقرب إلى النقائض؛ كانت مقادير تبادل العبارات المقذعة بين الكرملين والبيت الأبيض تتجاوز ما عوّدت عليه البلاغة الفردية لكلّ من بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدن، في مقابل الثواني الـ13,5، عدّاً وحصراً، التي كانت قد جمعت الرئيس الروسي مع نظيره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في لقطة بروتوكولية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، أيلول (سبتمبر) 2015 أيضاً، قبيل أيام معدودات سبقت بدء هبوط عشرات المقاتلات الروسية المختلفة والحوامات وطائرات الشحن العملاقة في مطار حميميم على الساحل السوري. ولن يطول الوقت حتى بات المطار الصغير نسبياً، الذي كان النظام قد أطلق عليه تسمية «مطار الباسل» بن حافظ الأسد، بمثابة قاعدة جوية هي الأضخم في رصيد موسكو على شواطئ المتوسط، والرديف الجوي للقاعدة البحرية الروسية الاستثنائية في ساحل مدينة طرطوس السورية.
يومذاك لم يكن بوتين بصدد إحياء، أو استئناف، أي طور أو طراز من الحرب الباردة القديمة، حتى ضمن مختلف صياغات الحروب المتخيَّلة والافتراضية؛ بل كان ينتهج سياسات يمكن أن تقنع الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، بقبول روسيا شريكاً في شراكات سياسية وأمنية واقتصادية على امتداد العالم. العقدة، مع ذلك، كانت أنه مصمم على التذكير بأدوار يتوجب أن تُسند إلى موسكو في تلك الشراكات، وبعضها يستحق أن يُحتكر روسياً فقط؛ بعد جورجيا والقرم والمغامرة الأولى في أوكرانيا، وقبل سوريا كتدخّل عسكري مباشر واسع النطاق، ثمّ ليبيا أو السودان أو الجزائر أو هنا وهناك في أفريقيا. وكلّ هذا على سبيل الذهاب أبعد من مستوى الشراكة، نحو حلحلة متاعب روسيا المختلفة، وفي طليعتها العقوبات الاقتصادية، وكذلك حروب أسعار النفط وستراتيجيات أنابيب الغاز العابرة للقارّات.
وفي أواخر شباط (فبراير) 2018 سوف يتذوّق الجيش الأمريكي، غير بعيد عن ضفاف نهر الفرات في شرق سوريا هذه المرّة، طعم الاصطدام مع تكتيكات بوتين العسكرية، غير المباشرة كما يصحّ القول؛ حين أغار على المعسكر الأمريكي مرتزقة يفغيني بيروجين، «طبّاخ بوتين» في اللقب الكاريكاتوري ومؤسس وصاحب ميليشيات «فاغنر» العاملة تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية. قبلها بأيام كان بيروجين قد عقد صفقة، عن طريق شركة «إيفرو بوليس» المرتبطة به، لـ»تحرير» عدد من المناطق النفطية والمصافي في ريف دير الزور، واستثمارها بالتعاون مع شركة نفط النظام وبعض مهرّبي البترول من رجال الأعمال المقرّبين من النظام والمتعاقدين مع «تنظيم الدولة» في آن معاً. ذلك الاصطدام الدامي ذكّر ساسة البيت الأبيض، وجنرالات البنتاغون، أنّ ردود أفعال الولايات المتحدة على التدخل العسكري الروسي في سوريا لم تتجاوز اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، واتصالاً ثانياً من وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر مع نظيره الروسي سيرغي شويغو.
وهكذا، في مصادفة التزامن بين أيلول (سبتمبر) 2015 والشهر ذاته 2022، يظلّ بوتين مخلصاً لهوس التذكير بأنّ موسكو في عداد جبابرة الكون عسكرياً (وهذا صحيح، بالطبع)؛ ثمّ جيو ـ سياسياً (وهذا مصدر شك، لأنّ تكبيل روسيا اقتصادياً، وتخبطها في مغامرات عسكرية قصيرة الأجل وقاصرة الأغراض، لا يخدمان هذه الغاية بالضرورة)؛ الأمر الذي يتوجب أن يُلزم الغرب والولايات المتحدة بالتعامل مع موسكو كندّ وشريك (وهذا مشكوك فيه أيضاً، في المدى المنظور على الأقل).
القدس العربي