المشروع الإيراني التمددي يحتاج إلى تشكيل نظام عربي إقليمي رادع

المشروع الإيراني التمددي يحتاج إلى تشكيل نظام عربي إقليمي رادع

يشكل المشروع الأيديولوجي الإيراني خطرا يهدد استقرار العديد من دول المنطقة العربية، وفي مقدمتها سوريا والعراق ولبنان واليمن، هذا بالإضافة إلى دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات والبحرين؛ إذ أنه مع مجيء الثورة الإيرانية عام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية نصب قادتُها أنفسَهم أوصياء وحماة للمذهب الشيعي وأتباعه ورموزه ومقدساته، وتمّ جعل آياتها وملاليها مراجع دينية وسياسية لشيعة العالم قاطبة وليس شيعة المنطقة العربية وحدها، بغض النظر عن أوطان هؤلاء الشيعة وهوياتهم الوطنية المختلفة، آملين التمدد بتصدير ثورتهم إلى الخارج وتخليق ولاء عابر للحدود الوطنية، واعتبروا ذلك جزءا من مشروع الجمهورية الإسلامية ورؤيتها وأمنها القومي، وهو ما يركز عليه الباحث الإماراتي والدبلوماسي السابق جاسم محمد الخلوفي، الذي يرى أن لا سبيل لوضع حد لهذا النظام إلا بتشكيل نظام عربي رادع.

وفي كتابه “المشروع الأيديولوجي الإيراني في الشرق الأوسط” الصادر أخيرا يتناول بالوصف والتحليل المشروع الأيديولوجي الإيراني وامتداداته الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط من خلال النظر في مرتكزات هذا المشروع ومنطلقاته، وتسليط الضوء على آلياته وأدواته ومؤسساته وتحليل أهدافه ومآلاته، واستشراف مستقبله.

ويرى الخلوفي أنه مع مجيء الثورة الإيرانية عام 1979 حدث تواصل مع مشروع الدولة الصفوية في أوائل القرن السادس عشر، بجعل بناء الهوية والدولة الإيرانية مستندا على المذهب الشيعي الذي تم تسييسه وإعطاء الدولة الإيرانية حق الحديث باسم الشيعة جميعا. لقد كان قيام الدولة الصفوية الأيديولوجية حدثا مفصليا بارزا في تاريخ الشرق، لاسيما محاولاتها التمدد ونشر المذهب الشيعي، وهو ما تكلل في احتلال العراق عام 1510 للسيطرة على العتبات المقدسة فيها.

ويؤكد أن صعود الدولة الصفوية والثورة الإيرانية عام 1979 حمل في داخله مشروعا أيديولوجيا للتمدد في المنطقة، وتنصيب حكام إيران أنفسهم أوصياء وحماة للمذهب الشيعي ومقدساته وأتباعه، وهكذا طرحت إيران نفسها من خلال مشروعها الأيديولوجي كمركز وقلب الأمة الإسلامية، ومحور المرجعية الشيعية و”أم القرى” وزعيمة الأمة الإسلامية. لقد طرحت نفسها بوصفها المرجعية الدينية والسياسية الشرعية لشيعة العالم، وأنها زعيمة المستضعفين ضد قوى الاستكبار العالمي، وأن الشيعة في مختلف أوطانهم هم بالتالي رعايا تابعون للولي الفقيه في طهران، وأنهم يحظون بالرعاية والحماية من إيران. ومن هنا ترى إيران أن الصراع قد بات حتميا بين الثورة الإيرانية الإسلامية وبين القوى الطاغوتية التي اغتصبت السلطة من المستضعفين، فالصراع بين المعسكرين “الخير والشر” أصبح حتميا وأزليا من المنظور الإيراني، وأن إيران قائد معسكر الخير (المستضعفين) ستنتصر في نهاية المطاف على معسكر الاستكبار.

ويلفت الخلوفي إلى أن هذه النظرة الصراعية الاستقطابية الحادة تتعارض، بل تقوّض مفهوم الدولة القومية الحدودية الحديثة، وتطرح تساؤلات عديدة حول مسألة الهوية الوطنية، وانتماء الشيعة إلى أوطانهم وحكوماتهم، وتسعى لخلق ولاء عابر للحدود الوطنية يمر فوق الولاء الوطني والهوية الوطنية؛ وعليه ترى إيران أن تصدير الثورة إلى الخارج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الإيراني للمحافظة على ثورية الإسلام وزخم الثورة. هذه الرؤية الأيديولوجية الإيرانية إزاء أمنها القومي ساهمت في إرباك علاقات إيران الإقليمية والدولية وانعدام الثقة بالمواقف الإيرانية المعلنة، واتساع الفجوة بين الأقوال والأفعال. ويزداد الأمر تعقيدا وصعوبة عندما يمسك ويدبر الحرس الثوري الإيراني، الذراع الأيديولوجية للثورة، ملفات الدول العربية وقضايا السياسة والأمن مع دول الخليج والمنطقة العربية. لذلك تتسم المقاربة الإيرانية للملفات الخليجية والعربية بجرعات كبيرة من الأدلجة، بينما تتسم المقاربة الإيرانية لملفات أميركا وأوروبا وآسيا بالبراغماتية والمرونة السياسية، لأنها تقع ضمن ولاية وإشراف وزارة الخارجية الإيرانية “الدولة”.

ويقول “تتصاعد مخاوف دول الخليج العربية من إمكانية عسكرة برنامج إيران النووي لأنه يقع تحت سيطرة وإشراف الحرس الثوري الإيراني، الذراع الأيديولوجية للثورة، وينسحب الأمر أيضا على برنامج تطوير منظومة الصواريخ البالستية البعيدة المدى، والتي تشكل خطرا على الأمن القومي للدول الخليجية والعربية، وقد أكدت تسريبات مقابلة وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أبريل 2021 سيطرة وهيمنة الجناح الثوري الأيديولوجي على مفاصل القرار السياسي في إيران، ممثلا في مؤسسة ولاية الفقيه والحرس الثوري، وخضوع الدولة الرسمية للمشروع الأيديولوجي، مما يؤكد أن الدولة الرسمية الإيرانية لا تمتلك القرار النهائي والحاسم في العملية السياسية”.

ويشير إلى أن إيران بما أنها لا تعترف بالحدود الجغرافية وبالدولة الوطنية، فإنها تحتفظ لنفسها بالحق الشرعي في التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتصدير الثورة، الأمر الذي يطرح إشكالية أساسية في العلاقات الدولية. ولتمرير مشروعها الأيديولوجي في المنطقة العربية، سعت إيران إلى إضعاف الدولة العربية الوطنية واختراق نسيجها الاجتماعي والسياسي، واستغلال الأقليات الشيعية سياسيا وإنشاء ميليشيات طائفية مسلحة موالية لها في الدول العربية، أقوى من الدولة المركزية، وتوظيفها في إستراتيجية الحرب اللامتناظرة والحرب بالوكالة، واستخدام الدول العربية كساحات لتصفية حساباتها الإقليمية، بعيدا عن الأراضي الإيرانية، ناهيك عن توظيف أدوات وبيادق عربية لتنفيذ مشروعها الإقليمي بالوكالة. وتبرز هنا ظاهرة تصاعد دور ونفوذ وقوة فواعل من غير الدولة في المشهد السياسي العربي، حيث تلعب هذه الفواعل دورا أقوى تأثيرا من الدولة الوطنية على صنع القرار السياسي، وهذا ما استثمرت فيه إيران استثمارا سياسيا كبيرا، انصب على إضعاف سلطة وقوة الدولة العربية الوطنية، وتعزيز نفوذ وفاعلية وتأثير الفواعل ما دون الدول في المنطقة العربية خاصة في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

ويلفت إلى أن ما يسعى إليه المشروع الإقليمي الإيراني يتمثل في إعطاء الأولوية للهويات الثانوية الصغرى، الطائفية والعرقية والمذهبية، على حساب الولاء للهوية الوطنية الجامعة؛ فإيران تنظر إلى العراق ولبنان كمجتمعات موزاييك متعددة الأعراق والطوائف والأديان، وليس كهوية جامعة لهذه المجتمعات، ومن هنا يسهل اختراق نسيجهما الاجتماعي ـ الثقافي وبسط نفوذها، لذا فإن نمو وتعاظم الشعور الوطني لدى شيعة العراق ولبنان يمثلان ضربة قاصمة للمشروع الأيديولوجي الإيراني، الذي يستند إلى تفكيك الدولة الوطنية وإضعافها ومحاربة الهوية الوطنية الجامعة وترسيخ الهويات الثانوية والادعاء بحماية الشيعة والوصاية عليهم.

نجاح المشروع الأيديولوجي الإيراني مُرتهن بقوة وضعف الاقتصاد وقدرته على تمويل وإسناد مشروعه الإقليمي وتمدده المفرط

ويذكر الخلوفي أن إيران اتخذت قرارا إستراتيجيا بامتلاك الخيار النووي لحماية نظامها السياسي ومشروعها الأيديولوجي وأمنها القومي وتحقيق الردع المتبادل والتوازن النووي مع إسرائيل النووية والولايات المتحدة، واكتساب مكانة إقليمية متميزة في الشرق الأوسط، ومنع أي هجوم استباقي على منشآتها النووية وتعويضها عن اختلال الميزان العسكري التقليدي، وفرض ترتيبات أحادية أمنية على دول الخليج لقبول الأمر الواقع، وتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وإحداث تغيير جذري في ميزان القوى الإقليمي لصالحها، وإرغام واشنطن على الاعتراف بها كقوة نووية، وعقد صفقة سياسية كبرى معها على حساب مصالح دول مجلس التعاون الخليجي. وفي هذا الإطار يرى بعض الخبراء الإستراتيجيين أن السيناريو الأرجح هو وصول إيران إلى العتبة النووية، دون تفجيرها لقنبلة نووية، وتبنيها سياسة الغموض النووي على غرار الإسرائيلي، وعدم الإعلان عن امتلاكها للخيار النووي، نظرا لتداعياته الوخيمة إقليميا وعالميا. ويذهب هؤلاء الإستراتيجيون إلى القول بأن إيران ترغب في الاقتراب من العتبة النووية، والقدرة على ممارسة الضغوط وابتزاز القوى الإقليمية والدولية، مما يسرّع عملية تنازل الدول الغربية عن سقف مطالبها وشروطها لاسترضاء إيران على حساب المصالح الأمنية لدول الخليج العربية، بعبارة أخرى ترغب إيران في الاقتراب من العتبة النووية والاستمرار في انتهاج سياسة حافة الهاوية لابتزاز الدول الأخرى والتلويح بالخيار النووي.

ويرى أن نجاح المشروع الأيديولوجي الإيراني مُرتهن بقوة وضعف الاقتصاد وقدرته على تمويل وإسناد مشروعه الإقليمي وتمدده المفرط، خاصة أن المحللين الاقتصاديين يحذرون من مغبة وصول المؤشرات الاقتصادية الإيرانية إلى معدلات خطيرة ومقلقة؛ فبعد مرور أربعين عاما على قيام الثورة عام 1979 وصلت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية بلغت 40 في المئة وفقدت العملة أكثر من 70 في المئة من قوتها الشرائية، ويرزح 30 في المئة من الشعب الإيراني تحت خط الفقر، ناهيك عن معدلات الفقر المرتفعة في إيران حيث أن ثلث عدد الخريجين لا يحصلون على وظائف.

ويعتقد الخلوفي أن بصعود العقائدي رئيسي إلى سدة الرئاسة يمكن استقراء الاتجاهات المتشددة التي ستسلكها ملفات المنطقة العربية مستقبلا، واستمرارية النهج الأيديولوجي التدخلي للجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني في المنطقة العربية. ويمكن القول إنه بعد مضي أربعين عاما على قيام الثورة لم تتحول إيران إلى نموذج ناجح وملهم لشعوب ودول المنطقة، ولم تنجح في جذب واستقطاب الملايين من شعوب الشرق الأوسط إلى نموذجها السياسي، الذي وضع العربة السياسية أمام العربة الاقتصادية والتنموية، والذي غلّب، في خطاباته وسياساته، اللغة الأيديولوجية والمواجهات السياسية على مقتضيات القوة الناعمة والمصالح المشتركة؛ وبعبارة أخرى لم يبن النموذج الإيراني جسورا للتفاعل والتواصل مع الآخر على قاعدة المصالح المشتركة، ولم يخلق شراكات مستقرة ومستدامة.

وخلص إلى أنه في ظل الصراع بين الثورة والدولة ضمن النظام الإيراني، وإشكالية ازدواجية الخطاب السياسي وقوة وضعف الاقتصاد الإيراني، يبقى نجاح أو إخفاق المشروع الأيديولوجي مرتهنا بنجاح الحراك الداخلي العراقي واللبناني، واستعادة قوة الدولة الوطنية والهوية الوطنية الجامعة، وإخضاع كافة الفصائل والميليشيات العسكرية المسلحة لسيطرة الدولة، وتأكيد سيادة الدولة على قرارها السياسي، كما أن ذلك سيعتمد على استعداد إيران لتحمل التكاليف السياسية والاقتصادية الناجمة عن تمدد مشروعها الإقليمي. وأخيرا إن مستقبل المشروع الإقليمي الإيراني مرتهن ببروز وتشكيل نظام عربي إقليمي فاعل، يشكل رادعا قويا لتمدده في المنطقة العربية.

العرب