من الصعوبة بمكان فهم الموقف الغربي عموما والأميركي خصوصا حيال الاحتجاجات العارمة الحالية ضد الطغمة الرجعية الحاكمة في طهران دون وضع هذا الموقف في سياقه التاريخي. والهدف من ذلك هو نفض الغبار المتراكم عن خيوط المؤامرة الغربية سارية المفعول ضد الشعوب الإيرانية والتي تمتد جذورها إلى العام 1979. هذه المؤامرة التي تبدّت في أولى تجلياتها بجريمة التخطيط والمساهمة في الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في فبراير 1979 وتنصيب نظام قروسطي بقيادة المفتعل والمختلق من قبل الغرب، روح الله الموسوي الخميني، والذي تحول بقدرة الاستخبارات الغربية في وكره الباريسي في نوفل لوشاتو الذي قضى فيه 117 يوما حيث كانت تحاك خيوط المؤامرة ضد الشعب الإيراني والمنطقة عموما، إلى آية الله روح الله الموسوي الخميني.
منذ الاحتجاجات الشعبية الحاشدة في إيران عام 2019 ضد نظام ولاية الفقيه وإلى يومنا هذا، لم يتغير البتة المشهد فيما يتعلق بالموقف الغربي من المحتجين المقموعين والنظام الإيراني القامع. جوهر هذا الموقف كان وما يزال الاكتفاء بالتصعيد الإعلامي المخاتل والتنديد الدبلوماسي الفارغ وحزم جديدة من العقوبات العبثية ضد نظام الملالي في طهران التي يكتوي بتداعياتها عملياً الشعب الإيراني.
هذا الموقف اللاأخلاقي يسري أيضا على ردة الفعل الغربية المخزية تجاه التظاهرات النسائية والشبابية الراهنة التي أشعلت شرارتها أيقونة الحرية، الكردية الثائرة مهسا أميني، بعد تعذيبها وقتلها على يد أزلام حكومة “الغربان السوداء” الدموية كما يسميها الباحث والوزير الإيراني الأسبق إبان عهد الشاه الدكتور هوشنك نهاوندي في كتابه المعنون “الخميني في فرنسا: الأكاذيب الكبرى والحقائق الموثقة حول قصة حياته وقصة الثورة”.
بوكس
لقد خذل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، دعاة الحرية في أكثر من دولة يحكمها نظام استبدادي. في هونغ كونغ مثلا، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في 2019 – 2020 مطالبين بحقوقهم المدنية ضمن ما بات يُعرف بـ”حركة تعديل قانون مكافحة تسليم المجرمين”. في النهاية، تم إخماد الاحتجاجات بوحشية، ولم يكترث الغرب بالمتظاهرين الذين تُركوا لمصيرهم المظلم.
بيلاروسيا أيضاً شهدت في عام 2020 إضرابات هائلة كجزء من حركة الديمقراطية البيلاروسية في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية في مينسك 2020، لمنع الدكتاتور لوكاشينكو من الترشح لدورة سادسة. لم يفعل الغرب شيئاً سوى التنديد وفرض المزيد من العقوبات عديمة الجدوى ضد نظام لوكاشينكو.
تبنى الغرب نفس السياسة في سوريا والعراق وعدة دول عربية أخرى خلال أحداث ما بات يعرف بالربيع العربي. في جميع هذه الحالات، خذل الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، بشكل منهجي ومتعمد أصوات المتظاهرين، الذين تعرضوا لشتى أنماط التنكيل والانتهاكات من قبل أنظمتهم القمعية، في وقت كان فيه الغرب يكتفي بالإدانة أحياناً والعقوبات غير المجدية أحياناً أخرى.
الموقف الغربي المخزي يعكس عدة حقائق أهمها: عدم مبالاة الغرب بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية حتى بأشكالها البدائية في الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة، وعدم الاكتراث بما كابده ويكابده المحتجون، الأمر الذي يتعارض مع ما يدعيه الغرب من دعم دعاة الحرية والديمقراطية مما يعكس نفاقاً واضحاً وفاضحا وفاقعا. الأولوية الغربية التي تتجسد في التركيز أولا وأخيرا على المصالح الغربية، حتى لو كان تحقيق ذلك، كما كان دائماً وكما جرت عليه العادة، على حساب معاناة الشعوب المغلوبة التي تثور في وجه الطغاة من أجل الحصول على الحد الأدنى من الحريات. إصرار الغرب، عمليا، على عدم إحداث تغييرات جوهرية في البؤر الساخنة من العالم وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه على قاعدة إدارة الأزمة وتأزيم المؤزم وخلق بؤر توتر جديدة باعتبار ذلك الوقود الذي يحرك ماكينة السياسة الخارجية للغرب وتدر عليه مصالح وأرباحا طائلة تمكنه من الاستمرار في ريادة النظام الدولي الغربي.
في حالتي هونغ كونغ وبيلاروسيا فإن عدم قدرة الغرب على التدخل لمؤازرة المحتجين كان مرده عدم رغبة الغرب في استفزاز الصين وروسيا وعدم تعريض المصالح الاقتصادية والتجارية الهائلة للغرب وخاصة للولايات المتحدة مع الصين للمجازفة. لكن الوضع في حالة إيران مختلف تماما. يمكن للغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، دعم الاحتجاجات وتمكين المتظاهرين في إيران من تحقيق مكاسب على الأرض، لكن وبسبب حسابات غربية وأميركية شديدة الخصوصية والفرادة، فإن هذا غير وارد نهائيا، لا بل وغير مسموح به ليس فقط على المدى القصير بل أيضا على المديين المتوسط والطويل.
يشهد التاريخ أن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا هي من نصبت عصابة ولاية الفقيه في إيران عام 1979 بعد أن أطاحت بنظام حليفها محمد رضا شاه بهلوي عقاباً للأخير لجنوحه نحو تخليص إيران من قيود التبعية للغرب وخاصة للولايات المتحدة. الدكتور هوشنك نهاوندي يلخص أسباب رغبة واشنطن وباريس ولندن في التخلص من نظام الشاه في السنوات التي سبقت 1979 في مجموعة من العوامل أهمها استيراد الشاه الأسلحة من دول أخرى منها التشيك والاتحاد السوفييتي، زيادة أسعار النفط من قبل إيران والسعودية، محاولة إيران امتلاك السلاح النووي، وسماح إيران بعبور الطائرات السوفييتية فوق أجوائها خلال حرب أكتوبر 1973 لإيصال المعدات العسكرية إلى مصر.
بالإضافة إلى، وهنا بيت القصيد، تمكين الإسلام السياسي المتطرف في إيران من استلام السلطة وما يترتب على ذلك من تدشين مرحلة جديدة في المنطقة قوامها المزيد من عدم الاستقرار وتنامي نفوذ حركات الإسلام السياسي المتطرف وتأثير ذلك على رفع معنويات كافة أقطاب الإسلام السياسي السُني المتشدد في المنطقة ولاسيما فروع تنظيم الإخوان المسلمين الذي تربطه علاقات قوية مع الغرب منذ تشكيله في مصر سنة 1928 من قبل مؤسسه حسن البنا. وبالتالي، لم تقم الاستخبارات الغربية بصرف ملايين الدولارات لتهيئة الخميني في النجف وباريس وترتيب الأوضاع داخل إيران خلال السنوات التي سبقت 1979 والإشراف على رجوعه إلى طهران واعتلائه السلطة بعد ترحيل الشاه وتحييد الجيش الإيراني، لكي تقوم هذه الاستخبارات بعد زهاء 44 سنة بإزالته.
كيف يمكن للولايات المتحدة والغرب مساعدة شابات وشباب إيران في التخلص من نظام الإسلام السياسي الشيعي في وقت سلَّمت فيه أميركا بالأمس القريب السلطة إلى حركة طالبان المتطرفة في أفغانستان؟ وبالتالي ضخت الدماء من جديد في شرايين جماعات الإسلام السياسي في العالم الإسلامي عموما وبعثت فيها الروح مجددا بعد أن تلقت تلك الجماعات ضربات موجعة في كل من مصر والسودان وتونس وغيرها. وكنتيجة قام الغرب في أفغانستان بتعويض بعض ما خسره الإسلام السياسي في الدول المذكورة أعلاه.
إن وجود النظام الإيراني الحالي يخدم أجندات الغرب أكثر مما يهددها. وأهم هذه الخدمات التدخل الإيراني السافر في شؤون دول المنطقة وما ينتج عن ذلك من عدم الاستقرار وتوتر إقليمي متصاعد والظهور المستمر للنزاعات الجديدة. وهذا يعتبر ديدن الولايات المتحدة والغرب عموما لأن ذلك يخدم سياسات الغرب ويزيد من بيع الأسلحة والتحكم في منابع النفط والغاز ويمنحه الذرائع للتدخل في شؤون المنطقة.
الغرب لم يتوقف عن تقديم الخدمات تلو الأخرى للنظام الإيراني، ابتداء من تسليم العراق له وإطلاق أيادي أذرعه في المنطقة وإفساح المجال له لتطوير ترسانته العسكرية
يقول الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان “سياستنا الخاطئة هي التي أدت إلى سقوط نظام الشاه في إيران، وهي نقطة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة، ونتيجة لهذه السياسة استطاع متعصب مجنون السيطرة على الأمور في إيران وإرسال الآلاف من الإيرانيين إلى أفواج النار”.
لكن القصة كما بدت لاحقا فإنها لم تكن مجرد خطأ عفوي أو عابر، كما بررها الرئيس السابق ريغان. لقد كان خطأ منهجيًا مقصودًا لكي يتمكن الإسلام السياسي في الشرق الأوسط من تولي السلطة في بلد إسلامي. وهذا ما نتج عنه رفع معنويات جميع حركات الإسلام السياسي المتطرفة في المنطقة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وفروعها المطيعة والعاصية على حد السواء.
الأغلبية من شابات وشباب إيران الثائرين باتوا يدركون أن الغرب بقيادة واشنطن هو من زرع البذور الأولى لآفة الإسلام السياسي في إيران سنة 1979، وأن إرث الخميني ما هو سوى تركة غربية وأميركية بامتياز. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الغرب عن تقديم الخدمات تلو الأخرى للنظام الإيراني ابتداء من تسليم العراق له بعد الإطاحة بالنظام البعثي السابق وإطلاق أيادي أذرعه في المنطقة وإفساح المجال له بتطوير ترسانته العسكرية بما في ذلك السلاح النووي، والدخول في مفاوضات معه فيما بات يعرف بـ”الاتفاق النووي الإيراني”. ويبدو أن التطورات تسير نحو التوقيع على الصيغة النهائية على هذا الاتفاق ولو على مضض، وما سيتمخض عن ذلك من استعادة نظام ولاية الفقيه المليارات من أموال إيران المجمدة في الخارج والتي ستساهم في تقوية مكانة إيران الإقليمية وفرض المزيد من القمع والتنكيل ضد الثائرين الأحرار داخل إيران لتدخل المؤامرة الغربية والأميركية الجديدة – القديمة ضد الشعب الإيراني حقبة جديدة أكثر قذارة ودناءة.
ولجميع هذه الأسباب وغيرها فإن شابات وشباب إيران الثائرين الأحرار بكُردهم وعربهم وفرسهم يتظاهرون ضد أكثر الأنظمة شراسة في العالم، معتمدين فقط على أنفسهم وعلى الدعم المعنوي والأخلاقي لجميع الأحرار في العالم، وخاصة من أقرانهم في الدول المستبدة المجاورة.
العرب