مع إعلان قبول إسرائيل والحكم اللبناني بخريطة الترسيم للحدود البحرية بينهما ومباركة إدارة جو بايدن “الصفقة” انهالت الأسئلة من الإعلاميين والسياسيين والخبراء في المنطقة لمعرفة ما وراء الاتفاق وما أسباب الاستعجال به، ومن سيكون المستفيد الأكبر منه؟ المراقبون يتساءلون على كل المحاور. هل الصفقة من ضمن ترتيبات أشمل بين إسرائيل و”حزب الله” وبين إسرائيل وإيران؟ هل رعت إدارة بايدن “اتفاقاً غازياً” بين الميليشيات المرتبطة بإيران والدولة التي يصفها النظام في طهران بأنها “الشيطان الأصغر” بواسطة “الشيطان الأكبر” أميركا؟ هل توقيع اتفاقية لها نتائج مالية هائلة مع دولة تقول إسرائيل إنها تحت سيطرة “منظمة إرهابية” اسمها “حزب الله” ممكن تاريخياً؟ أما في لبنان، فهل يعلل “حزب الله” بقبوله بصفقة مع “الكيان الصهيوني” بأنها في إطار “تقية جيوسياسية” تسمح له عقائدياً بأن يحارب إسرائيل، وأن يتفق معها على تقاسم المال؟ ولكن السؤال الأكبر اليوم في واشنطن هو، هل اتفاق تقاسم إيرادات النفط بين إسرائيل ولبنان، أي “صفقة حزب الله” (The Hezbollah Deal) هو عملياً جزء فرعي للاتفاق النووي واسمه الحقيقي “الصفقة الإيرانية (The Iran Deal)؟
في كتابي الذي سينشر في أميركا هذا الخريف، أوضح كيف أن الاتفاق مع إيران، الذي بدأ البحث به عملياً بعد حرب العراق، وصل إلى صفقة كبيرة بحجم الإقليم، وليس فقط بحجم المفاعلات النووية المحدودة. والاتفاق الأم شمل عدة دول ومناطق، وليس فقط إيران. لذا فالسياسة المؤيدة لشراكة ما مع إيران، التي أنتجت “الصفقة الكبرى” قد أنتجت صفقات صغرى منبثقة عن الاتفاق الأكبر.
جذور “صفقة حزب الله”
منذ بدء مفاوضات النووي في جنيف، وغيرها، أصر النظام الإيراني على تسويات تمنح ميليشياته مدخولاً يسمح لها بالاستمرار بالإنفاق في الدول التي تسيطر عليها، ومن هنا بدأت الاتصالات التي أدت إلى سلسلة اتفاقات حول مداخيل للميليشيات “الإيرانية” في المنطقة، وأهمها صفقات في اليمن مع الحوثيين حول المرافئ، ومع “الحشد” في العراق ومع النظام في سوريا حول النفط. أما في لبنان فقد بات واضحاً، ومنذ سنوات، أن “كنز الحزب” سيكون الثروة الغازية والنفطية الواقعة في قاع البحر، ضمن المياه الاقتصادية اللبنانية. فطهران تستهدف الوصول إلى كامل “الكنز الإقليمي”، شرق البحر المتوسط، قبالة الشواطئ السورية – اللبنانية، من حدود أنطاكية إلى رأس الناقورة. وقد أعطت “الجمهورية الإسلامية” الضوء الأخضر لحزبها بأن يفرض على “الجمهورية اللبنانية” أي صفقة توفر السيولة للميليشيات وحلفائها، والأهم ربط المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة بـ”حزب الله” عبر “صفقة غازية” دسمة يستفيد منها الجميع، أي الأطراف المشاركة. لذا فالحزب الذي “قاتل الصهاينة” وقتل اللبنانيين والسوريين واليمنيين والأميركيين في “سبيل تحرير القدس”، وتوعد “بقصف حيفا وما وراء حيفا”، قد وافق على ترسيم حدود بحرية بعد تهديدات عنترية “للكيان” لسنوات. لماذا؟ لأن الصفقة ستأتي بالمليارات للمنظمة وقياداتها، لتصبح أكثر نخبة غناء في لبنان، وربما أغنى ميليشيات إيرانية خارج إيران. أما “محو إسرائيل” فهو يأتي بـ”أمر إلهي” من طهران. هكذا يضحي الحزب بصيته ورصيده لأجل المليارات؟
نعم، لا تهمه الصورة لأنه يسيطر على الأرض والمؤسسات والحدود والأمن القومي. شيئان يهمانه، الأول هو تأمين السيولة الاستراتيجية، وهذا فوق أي اعتبار لأنه بحاجة إلى تمويل آلته الإدارية والمدنية والإعلامية والاجتماعية. والشيء الآخر الذي يهم “حزب الله” في صفقة الغاز، والذي لم ينتبه له المحللون هو اعتراف إدارة بايدن بشكل غير مباشر بـ”حزب الله” كطرف أساسي في لبنان. و هذا “كنز” آخر للحزب يحصده من الصفقة.
مصلحة إسرائيل
البعض في أميركا تعجب من سرعة الحكومة الإسرائيلية في قبولها العرض الذي وافق عليه “حزب الله”. وكثيرون من أنصار ومؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة لم يفهموا بوضوح لماذا تدخل إسرائيل صفقة مع عدوها اللدود، وكانت تصفه إسرائيل بأنه الامتداد لعدوها الأكبر إيران. الردود تأتي بسرعة، يقول المدافعون عن الصفقة إن إسرائيل تمتلك خيارين، أن تستخرج الغاز من دون اتفاق تضمنه واشنطن، أو تؤمن مداخيل كبرى بضمان من الإدارة. رد آخر يقول إن “البزنس” سيخلق انقساماً بين الحزب وطهران. وآخر يعلل بأن ذلك سيضمن منع “حزب الله” عن تهديد إسرائيل، ولكن أنصار “الليكود” وزعيمهم بنيامين نتنياهو يكشفون عما يعتقدون أنه الواقع، المستفيدون هم شركات الغاز العاملة مع إسرائيل، وسيربحون أموالاً طائلة، ولكن صفقة كهذه مع تنظيم إرهابي، كما يقولون، هو خطأ استراتيجي مشابه لاتفاق مايو (أيار) 2000 عندما سلم إيهود باراك الحزام الأمني لـ”حزب الله” مقابل الهدوء، وحصل على انتفاضات وحروب آخرها عام 2006. إسرائيل منقسمة على الاتفاق والانتخابات الآتية ستحسم الأمر على المدى البعيد.
الموقف في واشنطن
كما هو معلوم، هنالك شرخ عميق بين إدارة بايدن والمعارضة الجمهورية على السياسات، وعلى السياسة الخارجية خاصة. فريق بايدن – أوباما يدعم “الصفقة”، كما دعم الصفقة الحوثية في اليمن، لثلاثة أسباب. الأول لأن هكذا اتفاق على استخراج الغاز سيرضي إيران ويشجعها على القبول بالشروط الأميركية للاتفاق النووي. والثاني سيفيد كتلة المصالح المالية نفسها التي ستستفيد من الصفقة الإقليمية الأكبر. أما السبب الثالث فهو سياسي، إذ تعتقد الإدارة أن معسكرها السياسي سيستفيد سياسياً من أي اتفاقية “بزنس” بين إسرائيل و”حزب الله”. إلا أن المعارضة الجمهورية غير مرتاحة للصفقة، وقد انتقدت الإدارة لأنها شجعت اتفاقاً مع منظمة إرهابية، بدلاً من تشجيع الإنتاج المحلي في داخل أميركا.
الوضع في لبنان
أما في لبنان، فالوضع معروف وواضح… “حزب الله” مسيطر على الدولة، بالتالي فهو الذي يدير “المفاوضات” عبر الحكم اللبناني. ولم تتمكن المعارضة من تأخير المفاوضات حتى يتم تطبيق القرار 1559 لنزع سلاح الحزب. فمعظم قيادات المعارضة قد رضيت بالصفقة وبعضها يسعى للحصول على جزء من الكعكة. إلا أن البعض القليل من قوى المعارضة، لا سيما في الاغتراب، مدرك أن صفقة الحزب حول الحقول على خط الفصل البحري ستجر إلى سيطرة الحزب على كامل الثروة على طول الساحل اللبناني. فبينما “حزب الله” موجود بكثافة على نحو 10 أو 11 في المئة من الساحل اللبناني في أقصى الجنوب وقبالة “الضاحية”، فإن الساحل يأهله من الطائفة السنية والدرزية والمسيحية، فالميليشيات ستستعمل سيطرتها على الاتفاق – الصفقة، لالتهام المليارات التي ستجنى من “مياه” صيدا إلى عكار، وتترك الفتات لأكثرية اللبنانيين. وهذا السطو سيؤدي إلى مواجهة داخل لبنان بين المحتكر “الحزب” والمحرومين “سائر اللبنانيين”.
خلاصة الصفقة
هي الآن بمثابة صفقة ثلاثية بين فريق أوباما – بايدن واليسار الإسرائيلي، وجماعة إيران في لبنان. ولكل من هذه الأطراف أخصام داخليون. قد يحصل التوقيع، ولكن الإلغاء المستقبلي قد يمحوه.
اندبندت عربي