بين فكي كماشة الانخفاض الكبير لإمدادات الغاز الروسي، واقتراب خطوات “العدو الصامت والقاتل” الذي لا يرحم: الشتاء القارس، تحاول أوروبا التسريع في خطواتها “المترنحة” من أجل إيجاد الحلول لارتفاع أسعار الغاز ومجابهة أزمة الطاقة، في ظل الارتفاع القياسي لنسب التضخم والتدهور الكبير للقدرة الشرائية.
وبقدر اشتداد المعارك وارتفاع نسق الغارات والتفجيرات في جبهة الحرب الأوكرانية الروسية، يتصاعد الجدل وترتفع نبرة النقاشات والانقسامات الداخلية في أروقة الاتحاد الأوروبي لتحديد سقف أسعار الروسي، بما يهدد بتصدع جدران وأركان البيت الأوروبي وتسرب رياح الشمال الباردة والثلوج السيبيرية له.
خارطة طريق
وفي ظل النقص الحاد لإمدادات الغاز الروسي والتوقعات بقطع التيار الكهربائي خلال الشتاء، سارع الزعماء الأوروبيون لوضع “خارطة طريق” وخطة لكبح جماح ارتفاع أسعار الطاقة.
وتشمل الخطة وضع سقف لأسعار الطاقة، غير أن الخلافات دبت بين البلدان الأوروبية، فبينما طالبت 15 دولة بوضع حد أقصى لسعر الغاز، عارضت ألمانيا والدانمارك وهولندا وضع سقف للأسعار، خشية أن يكبح شراء الغاز الذي تحتاجه اقتصاداتها.
يقول رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، في ختام قمة براغ “عازمون على حشد مواردنا لخفض أسعار الطاقة ونعمل على تعزيز المخزون” وأضاف إن “روسيا أطلقت صاروخا من الطاقة على القارة الأوروبية والعالم”.
ومن جانبها، لفتت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى أن مسؤولي الاتحاد التنفيذيين سيقدمون مقترحات أكثر تفصيلا لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة الأسابيع المقبلة.
وأضافت دير لاين “كل وجهات النظر فيما يخص إمدادات الغاز وأسعار الكهرباء مهمة للغاية من أجل تجنب الانقسامات وإبقاء سوقنا موحدة”.
في المقابل، اتهمت السلطات البولندية ألمانيا “بالأنانية” في موقفها وتعاملها مع أزمة الطاقة المتوقعة.
وفي ظل تباين وجهات النظر واشتداد الخلافات بين أعضاء الاتحاد، رحّلت أغلب القضايا ونقاط الخلاف إلى اجتماعات المفوضية الأوروبية المقررة يومي 20/21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ومن المتوقع أن تقدم المفوضية الأوروبية حزمة أوسع نطاقا تتضمن إجراءات قصيرة المدى لخفض الأسعار، وخطوات أطول لإعادة تشكيل سوق الغاز.
وفي الوقت الذي تسعى فيه دول الاتحاد الأوروبي للتخلص من الاعتماد على الغاز والطاقة الروسية، أكد الرئيس فلاديمير بوتين -في كلمته بمنتدى أسبوع الطاقة في العاصمة موسكو- أن بلاده مصدر موثوق للطاقة، ملقيا بالمسؤولية على الغرب في تعطل إمداد السوق، وقال “الكرة الآن في ملعب الاتحاد الأوروبي” لاستئناف الإمدادات.
كما بوتين أشار إلى أن الرفاهية في أوروبا كانت مقترنة بالتعاون مع بلاده، لافتا إلى أن تحديد سقف لأسعار الغاز سيجعل أوروبا تخسر مئات المليارات.
وفي إشارة لموضوع تحديد سقف أسعار الغاز، قال الرئيس الروسي “لن نزود الطاقة لدول تضع سقفا لأسعارها”.
أسباب خارجية
أرجع المحلل والخبير الإستراتيجي بالمعهد الأوروبي للاستشراف والأمن، فرنسوا كومبانيولا، أسباب أزمة الطاقة الأوروبية لأسباب خارجية، بدءا بجائحة كورونا، ووصولا إلى الأزمة الأوكرانية التي تسببت في خفض إمدادات الغاز وقطعها مما عمق الخلافات الداخلية الأوروبية.
وأضاف قائلا للجزيرة نت “كل هذه الانقسامات والخلافات مردها عدم تأسيس سوق أوروبية موحدة للطاقة” وتساءل: كيف يستطيع الأوروبيون اليوم الخروج من هذه الخلافات بأقل الاضرار في ظل غياب هذه السوق؟
وأما المحلل والخبير الاقتصادي دانيال ملحم فلاحظ أن المشكلة اليوم ليس في تحديد أسعار الغاز الروسي الذي يمكن أن يكون موضع تطبيق على اعتبار أن 70% من الغاز الروسي يمر ببنى تحتية أوروبية، ولكن المشكلة الحقيقية في تحديد سعر الغاز الآخر سواء الذي يستورد من النرويج أو الولايات المتحدة.
وأضاف قائلا في حديثه للجزيرة نت “ألمانيا تعترض على تحديد سقف الغاز الروسي لأنها تعتبر أن هذا يمكن أن يؤدي إلى هروب الموردين من أوروبا إلى آسيا، خاصة مع وجود منافسة قوية من دول كالصين واليابان وكوريا الجنوبية الذين يشترون الغاز بأسعار مرتفعة”.
شتاء صعب وقاس
وحذر المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى من أن الشتاء القادم سيكون أكثر برودة من الماضي، وهو ما ينذر بارتفاع استهلاك الكهرباء والغاز.
وفي نفس هذا السياق، اعتبر رئيس فرنسا مانويل ماكرون -في تصريحات على هامش قمة براغ- أن شتاء 2023-2024 سيكون أصعب من الشتاء القادم على الأوروبيين من حيث إمدادات الغاز.
بينما شدّد الخبير الإستراتيجي بالمعهد الأوروبي على أنه لابد من ترشيد الاستهلاك لتجاوز هذا الشتاء الصعب، ورأى أن التأثيرات السلبية لارتفاع أسعار الطاقة على المواطنين وعلى الشركات لا مفر منها.
وتعيش الاقتصادات الأوروبية فترة انكماش خاصة مع تواصل ارتفاع معدلات التضخم التي بلغت هذا العام نسبة قياسية 10%، وفق مرصد يوروستات للبيانات الاقتصادية. كما ارتفعت أسعار الطاقة والمواد الخام لأكثر من 40%، فهل يمكن أن تتحول أزمة الطاقة لأزمة ديون؟
الخبير الإستراتيجي بالمعهد الأوروبي للاستشراف والأمن، لاحظ أن المديونية بالضرورة سترتفع ولكنها ستختلف من دولة لأخرى. فدول مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان -برأيه- قد تتحمل أكثر تبعات ارتفاع أسعار الطاقة وترتفع مديونياتها وتتأثر اقتصادياتها بشكل مباشر.
وتابع موضحا أن فرنسا قامت بتخصيص 45 مليار يورو لحماية المستهلكين لهذا الارتفاع بأسعار الطاقة، بينما خصصت ألمانيا 200 مليار لتقديم الدعم لمواطنيها وشركاتها المتضررة.
وأما الخبير الاقتصادي (ملحم) فشرح أن تخفيف صدمة ارتفاع أسعار الطاقة وتحسين القدرة الشرائية للمواطن يمر حتما عبر تقديم المساعدات، ومن أجل توفير أموال الدعم لابد للدول الأوروبية أن تلجأ للاستدانة من أسواق المال العالمية.
وتابع مؤكدا أنه لتعويض هذه الاستدانة ستضطر الدول الأوروبية لرفع الضرائب عامي 2025 و2026، وبالتالي فكل المساعدات وحزمات الدعم سوف تنتهي بعد 5 سنوات، لأن المديونية العامة للدول لن تستطيع الصمود في ظل هذه الظروف.
وفي ظل ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 90% تقريبا مقارنة بالعام الماضي، ومع توقعات ومخاوف انقطاع الكهرباء خلال الشتاء المقبل، وسعيا لاستباق الأمور، حثت الحكومات الأوروبية الشركات والعائلات على خفض درجة حرارة التدفئة وادخار الطاقة، في إطار خطة تهدف إلى خفض استهلاك الغاز هذا الشتاء بما لا يقل عن 15% عن معدل السنوات الخمس الماضية.
فهل هذه الاجراءات كافية للسيطرة على أزمة الغاز والطاقة؟ وهل من حلول أخرى للدول الأوروبية؟
أكد الخبير الإستراتيجي بالمعهد الأوروبي أنه لا نستطيع تطبيق الحلول نفسها على كل الدول الأوروبية، لأن لكل دولة خصائصها الاقتصادية وسياستها الطاقية المستقلة وفق مواردها ومصادر طاقتها، ولذلك ستبحث كل دولة حل يناسبها ويناسب اقتصادها، وخلص إلى أن الحل الجوهري في تأسيس أوروبية موحدة للطاقة.
وبحسب الخبير الاقتصادي (ملحم) فإن الحلول تتلخص في:
فصل سوق الغاز عن سوق الكهرباء الذي سيوفر أموالا إضافية ويؤدي لخفض أسعار الكهرباء، وإعادة هيكلة سوق الكهرباء.
وضع سقف لسعر الغاز الروسي والتفاوض مع النرويج لتخفيض أسعار الغاز.
إبرام صفقات شراء الغاز بشكل جماعي.
المصدر : الجزيرة