شي جينبينغ.. من الكهف إلى زعامة مدى الحياة

شي جينبينغ.. من الكهف إلى زعامة مدى الحياة

كانت الصين قد أوحت للعالم بأنها على وشك الانخراط في مسار انفتاح شبيه بذاك الذي سارت عليه الدول الاشتراكية، وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي والمجموعة الأوروبية الشرقية، وطي صفحة الحرب الباردة. لكن هذا كان قبل وصول الرئيس شي جينبينغ إلى سدة الحكم. فكل شيء تغيّر منذ العام 2012 وما يزال يتغير مع ولايته الجديدة التي دشّنها أمس الأحد.

بكين – بتكريس المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني للرئيس شي ”زعيماً عظيماً“، وتجديد الثقة فيه لولاية رئاسية جديدة، تكون الصين قد اختارت نهجها في العالم الحالي شديد التعقيد. نهجٌ رسّخه شي بالانكفاء نحو الداخل وما عرف عنه من ”تصلّب“ تجاه الانفتاح على الغرب وفي وجه أي صوت معارض في الصين.

ورغم ذلك يرى كتّاب سيرته، أن الرئيس شي ”لا يكافح من أجل السلطة، بسبب رغبته في السلطة وحسب“، إنما لتكييف السلطة لتحقق رؤيته المستقبلية لبلاده، كما يقول ل. تشان. ومن جانب آخر يؤكد أدريان غيغس أن شي “لديه فعلاً رؤية للصين ويريد أن يراها أقوى دولة في العالم، وهو ليس مدفوعاً برغبة في الإثراء كما يشيع عنه الغرب“.

الرئيس المؤمن
شي لا يستطيع التسامح مع “الانفتاح” الذي يراه المتسبب الأول في انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي

ويؤمن شي بما يسميه ”الحلم الصيني“ في مقابل النموذج الذي طرحته الولايات والمتحدة والغرب، أو ما عرف باسم ”العولمة“، وحتى يكون بوسعه الوصول إلى ذلك الحلم، عليه أن يطبق فلسفة تقود إلى “التجدّد العظيم للأمة الصينية“.

وليس لقب الرئيس المؤمن بمستغرب على قائد شيوعي يعتنق الماركسية المادية، فقد كتب عنه كيري براون مؤلف كتاب “شي: دراسة في السلطة” أنه “رجل إيمان، وبالنسبة إليه الربّ هو الحزب الشيوعي“، موضحاً أن “أكبر خطأ ترتكبه بقية العالم بشأن شي هو عدم أخذ هذا الإيمان على محمل الجد“.

واليوم وقد ضمن الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، شي بقاءه على رأس الصين لخمسة أعوام أخرى، ستكون رؤيته ومواصفاته تلك على المحك، فلم يعد أمامه أي عائق لتطبيقها.

يدرس شي المستقبل، ويخطّط لما سوف يواجهه قبل أن يحين أوانه، وكان قد أدخل تعديلاً على الدستور في 2018 يلغي فيه المبدأ الذي ثبته المؤسس ماو تسي تونغ، والذي يجعل السلطة بالتناوب بين قياديي الحزب، ويخوّل لواحد منهم البقاء لأكثر من ولايتين فقط. وهكذا لم يبق أمام شي اليوم سوى أن يتم تنصيبه كرئيس للدولة في مارس المقبل.

كان والده شي تشونغ شون بطلاً من أبطال الثورة الصينية، وأصبح نائباً لرئيس الوزراء، قبل أن يستهدفه ماو خلال الثورة الثقافية. الأمر الذي ترك صدمة لشي وأسرته منذ ذلك الحين.

تغيّر عالم شي في طفولته، بعد أن كان ابناً لشخصية قيادية كبرى، وفقدت أسرته كل امتيازاتها، ويقال إن أخته انتحرت بسبب ما تعرضت له العائلة من اضطهاد وقمع.

ويقول عالم السياسة ديفيد شامبو إن شي بات يحس بأنه منبوذ بين رفاقه في المدرسة، وهو ما يزال بعد في الخامسة من عمره، ما أسهم في منحه “إحساساً بالانفصال العاطفي والنفسي والاعتماد على الذات منذ سن مبكرة“. بعد أن جرى إجباره على الإدلاء بشهادات تدين والده رسمياً، كما نقلت صحيفة ”واشنطن بوست“.

لم تتوقف صدمة شي عند ذلك الحد، فلم يلبث أن تم إلحاقه بمجموعات العمل في الريف، فكان يعمل في نقل الحبوب وينام في الكهوف. أصبحت شخصية شي شخصية منغلقة أكثر، ومجازفة، إلا أنها لم تكن بعيدة عن الإعجاب بالسلطة المتعسفة التي ألحقت به وبأسرته الضرر.

أحد تلك الكهوف التي سكنها شي خلال سنوات العمل الشاق، تم تحويله إلى معلم سياحي يروي سيرة الزعيم العظيم، حتى أن أحد السكان رسم له صورة شبه أسطورية، حين روى أنه كان يقرأ كتبا خلال فترات الراحة من العمل.

لكن ذلك المناضل تم رفض طلبه للانضمام إلى الحزب الشيوعي، بسبب سيرة والده الإشكالية مع السلطة، مع أنه تقدّم عدة مرات للحصول على عضوية الحزب.

مات ماو، وتمت إعادة الاعتبار لوالد شي ما فتح الطريق أمامه للتدرج في هرم الحزب، فعيّن حاكماً لمقاطعة فوجيان في العام 1999 ثم زعيما للحزب في تشيجيانغ في العام 2002 وبعدها شنغهاي في العام 2007.

مع أن شي يعتبر نفسه دائماً “وريثًا للثورة“، إلا أن مجلة “فورين أفيرز“ وصفته بأنه “حساس وعنيد ودكتاتوري“، ولعل الصدمات التي تعرّض لها صنعت منه هذا النموذج، إضافة إلى وضعه الأكاديمي الذي تقول عنه تساي شيا، وهي مسؤولة سابقة في الحزب الشيوعي الصيني تعيش في المنفى في الولايات المتحدة، إنه تسبب له في عقدة نقص، فقد ”تلقى تعليماً أقل من قادة كبار آخرين في الحزب الشيوعي الصيني“ على حد تعبيرها.

وصل شي إلى عضوية اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، أعلى هيئة لصنع القرار في الحزب، إثر مرحلة قيادة حزبية وإدارية ترك فيها سجلاً حافلاً بقمع الحركات الاجتماعية ووسائل الإعلام المستقلة واتهامات بانتهاك حقوق الإنسان.

شي لا يستطيع التسامح مع ”الانفتاح“ فهو يعتبره المتسبب الأول في انهيار كيان شيوعي عملاقي آخر هو الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي بأسره معه. ولهذا اتخذ قراره النهائي بألاّ يسمح لشيء من هذا بأن يحدث في الصين. وصمام الأمان لمنع تكرار الانهيار هو وجود زعيم قوي.

في الصين يتولى زعيم الحزب الشيوعي رئاسة اللجنة العسكرية المركزية، وهو ما حرص شي على تعزيزه صاباً جهوده على تطهير المؤسسة العسكرية الصينية من كل تهديد ممكن. انطلق ذلك سريعاً منذ العام 2014 حين وجّه الاتهام بالفساد إلى نائب اللجنة العسكرية المركزية السابق شو كايهو والجنرال السابق بالجيش غو بوشيونغ.

وكان الرجلان قد غادرا السلطة حينها، وأحيلا على التقاعد، لكن شي كان يهدف إلى شيء آخر يتركّز في تصفية كل ولاء لهما في اللجنة العسكرية أو في أركان الجيش، ومع تلك التصفية يكون قد تخلص من نفوذ الزعيم السابق جيانغ زيمين داخل الجيش، إضافة إلى كونها رسالة واضحة إلى ضباط الجيش، بعدم محاولة اعتراض طريق شي نحو الزعامة.

عام واحد مضى قبل أن يعيد شي هيكلة الجيش، ويفرض هندسة جديدة تلغي تقسيمه إلى أربع مؤسسات؛ شؤون الأفراد، السياسات، الشؤون اللوجستية والتسليح، وبدلاً من الرقم 4 أصبح الجيش الصيني على 15 تشكيلا صغيرا.

تم ربط تلك الهياكل بالقيادة المركزية بشكل مباشر، عبر جهاز الرقابة المالية المتصل بالقيادة أي بشي، وفي سبتمبر الماضي نشرت صحيفة ”جيش تحرير الشعب“ اليومية، الجريدة الرسمية للجيش، مقالا تؤكد فيه على أن القيادة العامة للجيش باتت في يد اللجنة العسكرية المركزية.

واصل شي حملة التطهير فأمر باعتقال رئيس جهاز الأمن المحلي السابق زو يونغكانغ بتهمة الفساد أيضاً، بسبب علاقة زو ببو شيلاي، ابن أحد الزعماء الشيوعيين المنافسين لشي الذي بدأ عهداً جديداً من تحطيم رمزية القيادات السياسية للحزب واحداً تلو الآخر.

وباسم مكافحة الفساد تم التحقيق مع أكثر من 4.7 مليون مواطن صيني. ويقول فيكتور شيه المختص في العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييغو الأميركية إنه “خلال العامين الماضيين، عكف شي على التخلص من المسؤولين الأمنيين الذين ساندوا اعتلاءه السلطة في المقام الأول“، وأصبحت وكالات الأمن تدار بشكل شبه حصري من قبل المسؤولين الموثوقين من شي الذي عين بعد ذلك شخصيات موالية له في المناصب الإقليمية المهمة، كأمناء للحزب في المدن الرئيسية كبكين وشنغهاي وغيرها. ويؤكد وو غوغوانغ، أستاذ السياسة بجامعة فيكتوريا الكندية، أن شي هو من عيّن بنفسه معظم أعضاء اللجان الحزبية الدائمة على مستوى الأقاليم، والبالغ عددهم 281 عضوا.

بقي أمام شي الدستور الصيني الذي قام في العام 2018 بإدخال مواد عليه تتضمن رسمياً أفكاره حول اشتراكية ذات سمات صينية لعهد جديد، أو ما سمّي بـ”عقيدة شي جينبينغ“، وقبل شهرين من الآن، كشفت وزارة التعليم الصينية عن خطة تهدف إلى تضمين هذه العقيدة في المناهج التعليمية. وفي العام 2019، أطلقت الصين تطبيقاً على الهواتف المحمولة يحمل الاسم “تعلّم من شي، وادعم بلادك“.

العرب